كثيرا ما نعثر على إشارات لاقتران الإيمان بالإحسان والبر وفعل الخير في نصوص الأديان الكتابية، وهو ما يمكن جعله أرضية صلبة لإعادة الحوار الديني إلى مسعاه الخيري، الذي فشلت فيه الكثير من الحوارات، والتي عادة ما يطبع عليها طابع المجاملة. إننا أقرب اليوم إلى الحاجة إلى ما يسميه عز الدين عناية «الحوار الاجتماعي»؛ أي البحث عن المداخل الاجتماعية للأديان، لكي تشكل منطلقاً للحوار الديني والإنساني عوض لغة التنافر والتناظر اللاهوتي؛ لأن ما يعوز الأديان الثلاثة في حاضرنا "هو تفعيل ميثاق قيمي جامع بينها، يتعهد بمقتضاه رجالاتها بالالتزام بعمل الخير المشترك بينها، لتنبثق عن ذلك التكاثف هيئة دينية ساهرة تتولى تفعيل قيم العمل الصالح، وضبط الخلل الحاصل جراء التعايش الحضاري، مع تقديم المقترحات والحلول في الشأن". وأيضاً لكون الإحسان والعمل الاجتماعي عموماً، هو تجلّ عملي لمفهوم الإيمان، يخرج به من حيز المفارقة إلى التمظهر العيني. لذلك، تكاد تجتمع الأديان الثلاثة على أمر قيم الإحسان وفعل الخير -وإن اختلفت فلسفتها التشريعية لها-، إلا أن نصوصها تبدو على درجة من الاهتمام بالخير وأعمال البر.
وفق التحليل الظواهري، فإن مقصد الطقس يهدف إلى ترسيخ علاقة عمودية بين العابد ومعبوده، علاوة عما يتولد عن الممارسة الجماعية للطقوس من توطيد علاقة أفقية بين أفراد الجماعة المؤمنة، بما يسهم في تمتين عرى التماسك واللحمة بينها، ويشعرها بالألفة والتضامن، وهذا راجع إلى وازع إيماني يشكل العنصر الفعال في فلسفة الأديان في أعمال الخير والبر فيها.
1. العمل الخيري والإحسان في النص التوراتي
على الرغم مما يكتنف النص التوراتي (التناخ) عموماً من صعوبة في إبراز أبعاد العمل الخيري والاجتماعي فيه، بالنظر إلى سياقه التاريخي والثقافي والأدبي؛ إلى أن جزءاً من الكتابات التبشيرية أساساً تحاول إبراز ملامح الزاوية الاجتماعية للكتاب المقدس، وترى أن الأخلاق واللاهوت لا ينفصلان في الكتاب المقدس.
ما يعوز الأديان الثلاثة في حاضرنا هو تفعيل ميثاق قيمي جامع بينها، يتعهد بمقتضاه رجالاتها بالالتزام بعمل الخير المشترك بينها
أما مرجعية أفعال الخير والأعمال الصالحة، فتستمد مرجعيتها في اليهودية وحوافزهما من فريضة «الصدقة» المستوحاة من النص المقدس أساساً، إذ لم يكن اختيار إبراهيم إلاَّ {لأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرًّا وَعَدْلاً، لِكَيْ يَأْتِيَ الرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ"}. وكذلك {لأَنَّهُ لاَ تُفْقَدُ الْفُقَرَاءُ مِنَ الأَرْضِ. لِذلِكَ أَنَا أُوصِيكَ قَائِلاً: افْتَحْ يَدَكَ لأَخِيكَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ فِي أَرْضِكَ}.
وتُعْرَفُ الصدقة في (التناخ) بأنها «بادرة صلاح من الإنسان نحو أخيه، وهي اقتداء بأثر الله الذي هو دليل الصلاح نحو الإنسان» والمعنى المقصود بالصدقة في النص اليهودي هو «العدالة»، في أغلب الظن، وهو ما يشير إليه نص يحتوي على كلمة الإحسان في التوراة. وذلك في جزء من سفر دنيال المكتوب بالآرامية (4: 24) حيث جاء فيه {لذلك أيها الملك لتحسُن مشورتي لديك وافتد خطاياك بالصدقة وآثامك بالرحمة للبائسين عسى أن تطول دعتك}، والنص العبري يعني أن الصدقة والإحسان يضمن توزيعاً عادلاً لعطايا الله إلى البشرية.
وقد أخذت الصدقة مكانة سامية في تعاليم اليهود الدينية، وَرَدَ في التوراة: {طوبى للذي ينظر إلى المسكين}، بل تُوجب تعاليم التوراة التَّصَدُّق على العدو: {إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماءً}. لهذا ينظر اليهود إلى "أَنَّ صدقتهم تجعلهم أرفع شأنًا وأعظم قدرًا، فهي مقبولة منهم؛ لأنهم أبناء الله، وأحباؤه، وشعبه المختار، كما يَرَوْنَ -قَدِيمًا- أَنَّ مَنْ يَتَصَدَّقُ من غير اليهود لا يتصدَّق بنية خالصة لوجهه الكريم، وإنما يفعل ذلك كبرياء".
إن النص اليهودي يفصح عن بعد إنساني ظل غائباً ومنسياً في الإرث التوراتي، ذلك هو المفهوم الخيري الشامل لكافة البشر، الذي جاء ذكره في سفر الخروج {وَأَصْنَعُ إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً. اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ، لأَنْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ. لِذلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ. لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ}.
إن الوصايا العشر التي وردت في الإصحاح 20 من سفر الخروج، سبقت بتمهيد تاريخي، يمكن أن تجمع في مجموعتين، عمودية وأفقية؛ أي علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بالجماعة، والسهر على حماية المجتمع من الفساد الأخلاقي، حيث نصت على إكرام الوالدين([16])، وتحريم القتل([17])، وتحريم الزنا والسرقة، وشهادة الزور.
2. المنظور الإنجيلي لأعمال الخير والبر:
يبدو العمل الصالح والفعل الخيري بمنظور أكثر شمولية في النص المسيحي، وهذا راجع أساساً إلى البعد الروحي الذي توصف بها الديانة المسيحية، لهذا تجد أعمال البر والإحسان مكانتها في النص الإنجيلي من ذلك ما جاء في رومية {أَمَّا الَّذِينَ بِصَبْرٍ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَطْلُبُونَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْبَقَاءَ، فَبِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ}. ودعوته جباة الضرائب إلى المحبة والتسامح {لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ}. أو لأن الإحسان وأعمال البر أصبح لدى الكنيسة استراتيجية لجذب الآخر وكسب ودّه، بغرض استمالته للدخول في الدائرة الإيمانية.
وتتجلى الدعوة إلى أعمال الخير والبرّ بشكل كبير في العهد الجديد والمسيحية عموماً من خلال ما يعرف بـ «الخدمة الدينية» (diakonia) التي تعني ضمن السياق الإنجيلي خدمة الجماعة المسيحية تحديداً، حيث تتكرر في مواضع مختلفة لتصف عدة أصناف من الخدمة، كخدمة موائد المحبة، كما في إنجيل لوقا {وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ. فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: "يَارَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!" فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها: "مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا"}. وجمع الصدقات إلى فقراء أورشليم، {لِكَيْ أُنْقِذَ مِنَ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَلِكَيْ تَكُونَ خِدْمَتِي لأَجْلِ أُورُشَلِيمَ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْقِدِّيسِينَ}.
والكلمة لها دلالة كذلك على «الكرازة» في العهد الجديد، وهي التي يوضحها إنجيل متى بشكل واضح بإعلانه أن المسيح جاء ليخدم الناس، وليس لكي يخدموه {كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ}.
وكلمة كرازة تعني؛ ينادي، يبشر، يهتف، جاء منه الاسم أي كرازة. ويُقال: العمل الكرازي، ومن يكرز هو "كارِز" - والأمر: "اكرز" - والمُثنّى: كارِزان، الكارزان. والفعل كرز هو سرياني الأصل، يعني وعظو نادى ببشارة الإنجيل للخلاص. و"الكرازة" هي الوعظ والتبشير علانية بالحقائق الإنجيلية خصوصًا والمسيحية عمومًا. والكارز أو الكاروز هو الواعظ أو المنادى بهذه البشارة.
كما تشير الكلمة في العهد الجديد إلى أعمال الكرازة المناط بعهدة الرسل وبمن تطوّع من الرهبان خدمة للكنيسة. {كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ}. في هذا السياق، نلمح وإن قامت الكرازة المسيحية على التّطوع {اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا}. فإن العمل الصالح والخدمة ارتباطا دائما بالتبشير بالإنجيل، ولذا كان الحرص على فعل الخير يهدف إلى نشر كلمة الرب. الأمر يظهر جلياً في قوله: {فَأَجَابَ وَقَالَ: "مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ"}.
3. العمل الصالح والبر في القرآن الكريم أبعاد أخرى للإيمان
اقترن الإيمان "بالعمل الصالح" في القرآن الكريم حوالي مرة، وتكرر ذلك أيضا في الحديث النبوي منه ما جاء في الأثر: الإيمان هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. والإيمان يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ». وفي القرآن الكريم "يتواتر الحديث عن عمل الإنسان في القرآن، فقد ورد جذر (عمل) 360 مرة، كما تواتر الحديث عن الصلاح، فورد جذر (صلح) 180 مرة، واقترن جذر عمل (93) مرة، فيما اقترنت جذور الأفعال الثلاثة (آمن وعمل وصلح) (88) مرة، ما يحمل دلالة مؤكدة على ارتباط الإيمان بالعمل الموصوف بالصالح، وقد اقترن العمل الصالح في هذا التركيب (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)51 مرة، وهي معظم ما اقترن به الإيمان مع العمل الصالح بصيغته الصريحة في صيغ أخرى والتي بلغ مجموعها 69 مرة".
إن هذا التواجد والاقتران بين الإيمان والألفاظ الدالة على العمل الصالح بمشتقاته وصيغه، يحوي بذاته إلى أن الخطاب القرآني ينظر إلى موضوع الإيمان من زاوية المحرك والدافع إلى إنتاج سلوك وقيم اجتماعية وثقافية في حياة الإنسان، من أجل تصحيح الصورة النمطية التي ترسخت عند الإنسان العربي في الجاهلية، حيث كانت عبادة الأصنام وأديان تكرس الفوارق الاجتماعية وتجمع بين الرقي والظلم في أبشع مستوياته* وبين التقرب إلى الآلهة والسعي إليها. لهذا، سعى القرآن من خلال اقترانه بين الإيمان والعمل الصحيح إلى وضع أنموذج لمجتمع يحضر فيه البعد الإنساني.