لماذا تعتقد أن الحداثة وُلدت في مسار استعماري
غروسفوغل : هذا موضوع يطول شرحه ، لأن له أبعاد كثيرة ، ليس فقط – إن شئنا القول – على مستوى البُعد المؤسساتي، بل ثمة أبعاد روحية ، ابستيمولوجية ، بيداغوجية ، اقتصادية و سياسية ، فمنذ البداية كان للحداثة أبعاد متعددة و هنا بيت القصيد ، أما متى بدأ مشروع الحداثة ؟ فالجواب يكون مختلفا باختلاف تموقع السؤال و من خلاله يتم رسم جينيالوجيا متعددة لأصل الحداثة ، فمثلا فلو أنك بصدد الحديث مع فرنسي أو مع من مرجعيته عن الحداثة فرنسية فأكيد أنه سيُرجع أصلها إلى سنة 1789 أي إلى الثورة الفرنسية على النظام القديم ، و لو تحدثت مع بريطاني فسيُخبرك أنها بدأت مع ثورة 1648 غداة صلح وستفاليا peace of westphalia ، و جميع هذه السرديات تعتبر سرديات لتجميل الحداثة .
ما دور هذه السرديات التجميلية
غروسفوغل : إنها تسعى لإخفاء الوجه القبيح للحداثة ، فلو نظرنا للموضوع من ناحية أمريكا اللاتينية و دول الجنوب ، لوجدنا أن مسار الحداثة انطلق مع التوسع الاستعماري للعائلة الملكية الكاثوليكية عام 1492 ، و تكمن قيمة تحديد انطلاق الحداثة مع نهاية القرن الخامس عشر و كامل القرن السادس عشر حيث كانت اسبانيا مركزا للنظام الدولي الجديد وقتها ، أنّه حينها تمّت مقاربة كل مواضيع الحداثة من دون إخفاء وجهها المظلم كما سيحدث لاحقا مع خطابات التنويرين الذي سيحتفون بالحداثة كخطاب تحرري ، مُغطّين وجهها القبيح و المشوّه المتمثل في الاستعمار .
و قد كان ثمة نقاش علني خلال القرن السادس عشر عن كل ما تمّ إخفاءه و الخجل منه لاحقا بعد أن تحوّل مركز النظام الدولي من شبه الجزيرة الإيبيرية نحو الشمال الشرقي لأوربا غداة حرب الثلاثين عاما ، و تحوُّل هولندا على إثر ذلك إلى محور هذا المركز ، و هناك بدأ مسار آخر يسعى إلى الطلاق مع القرن السادس عشر و دور اسبانيا في إنشاء الحداثة / الاستعمارية ، و القيام بموازاة مع ذلك بتطوير سرديات تجميلية عن الحداثة ، عمدت إلى إخفاء وجهها الاستعماري القبيح و الذي هو في حقيقته جوهر الحداثة الأورومركزية ، فغذاة سيطرة هولندا خلال القرن السابع عشر ستبدأ سلسلة من السرديات تقدم الجنوب الأوربي كمنطقة تسكنها أعراق دونية ، و هكذا سيتعرض الايبيريون لنفس التصنيفات العنصرية التي استعملوها خلال القرن السادس عشر ضد الأفارقة و السكان الأصليين في أمريكا و المسلمين و اليهود ، و سيرتد كيدهم إلى نحورهم في اسبانيا و البرتغال ، و قد كان هذا الفعل العنصري الأخير ضروريا لأجل التبرؤ – من داخل الشمال الشرقي- من أصل الحداثة وتاريخها.
غروسفوغل : خلال تلك الفترة بدأ في اسبانيا النقاش حول القانون الدولي ، و كذلك حصل جدل كبير حول المواضيع التي عرفتها أوربا لاحقا، و أقصد مناظرة بلد الوليد حول إن كان للسكان الأصليين روحا أم لا ، و هو حوار عنصري ، و موقف سيبولفيدا sepulveda يندرج في نطاق العنصرية البيولوجية و الذي يرى أن السكان الأصليين لا روح لديهم و من ثم فحسب منطق الرب فلا ضير من استعبادهم و اقتراف كل الجرائم بحقهم و يجب اعتبارهم و كأنهم بقرا ، حميرا أو جيادا لا يدخلون دائرة العمل إلا بالقوة .
هذا و على الطرف الاخر من المناظرة نجد لاس كاصاص las casas الذي يقول أن السكان الأصليين هم برابرة يجب تنصيرهم ، و من ثمّ فنحن هنا أمام خطابين كلاهما عنصري ، الأول ذو غلاف بيولوجي و الثاني ثقافوي ، و هما من سيحددان طبيعة العنصرية و تمظهراتها لاحقا. لكن إبان القرن التاسع عشر و مع علمنة السلطة و المعرفة في اتجاه تزييفي ، انتقل النقاش من الحديث عن ” شعوب بلا روح ” إلى ” شعوب بدون حامض نووي ADN إنساني ” ، بمعنى أنها شعوب لا تتوفر على جينات إنسانية خاصة ، تؤهلها للخوض في العلوم البيولوجية و الطبيعية ، و هكذا و مع تطور العلوم الاجتماعية و الانتروبولوجية تم الانتقال من خطاب ” لاس كاصاص ” عن الشعوب البربرية الواجب تنصيرها إلى خطاب الشعوب البدائية الواجب تمدينها ، و بالنظر للخطابين في مناظرة بلد الوليد نفهم العنصرية المعاصرة ، و كيف تأسست الحداثة بعلاقة مع احتقار عنصري لباقي الشعوب. و هذا تم نقاشه بكل وضوح خلال القرن السادس عشر، لكن غداة تحول مركز النظام الدولي المؤسَّس على الاستعمار نحو الشمال الشرقي تم القفز على هذا القرن و على اسبانيا ، و نسيان كل النقاشات المواكبة لما بعد حرب الاستعادة ، و باختصار لكل ما يتعلق بنشأة الحداثة ، حتى يتم الترويج لفكرة الحداثة كمشروع تحرري ، بيد أنه من وجهة نظر مناهضة للاستعمارية فالحداثة هي مشروع تحضُّري كان منذ نشأته في القرن السادس عشر مشروعَا إباديا و استعماريا و أورومركزيا . و على هامش آخر فحتى الفكر الأوربي نجده قد تأسس على قراءات لفلاسفة القرن السادس عشر اليسوعيين ، فمثلا ديكارت قرأ لسواريز ، و لوك قرأ مناظرات سيبولفيدا و لاس كاصاص ، و حتى غروت Grote الذي يعتبر أكبر منظِّر للجغرافيا السياسية في هولندا كان قارئا نهما للفلاسفة اليسوعيين ، و من ثم فتأثير اسبانيا كان شديدا و كل هؤلاء كانوا يشربون من معين القرن السادس عشر الاسباني ، الذي تم التنكر له لاحقا في محاولة لبدء الحداثة من نقطة جديدة زمانا و مكانا ، و لإمكانية خلق خطاب تجميلي للحداثة كمشروع تحرري يقدم أوربا على أنها منطقة تمكنت بمجهودها الخاص من إحراز هذه الثروة التي تملكها و هاته الحريات التي تتمتع بها و هذا الاستقلال الذاتي . ليبدو مع هذا الخطاب عن الحقوق الفردية ، و الثروة عن طريق العمل، و المبادرة الشخصية أن الحداثة لم تشهد سيطرة و استغلالا و احتقارا لباقي الشعوب.
كيف إذن يمكننا كشف ملامح هاته السرديات التجميلية للحداثة ؟
غروسفوغل : إن جميع هاته السرديات تُعتبر كمحاولة لاعتبار الحداثة مشروعا للتحرر و للرفع من المستوى المعيشي و ثراء تلك البقعة من العالم ، لكنها تتجاهل كيف تمّ ذلك ، تتجاهل سيطرة و استغلال أوربا لباقي العالم و من ضمنها القارة الأمريكية ، فإذا بدأنا من عام 1492 فلن نجد مهربا لإخفاء الوجه الحالك لمسار الحداثة المرتبط بالتوازي مع الاستعمار ، فكل ما يُدعى ” مشروع الحداثة ” بدأ مع ما سُمي باكتشاف العالم الجديد ، و ما خلفه ذلك من ثراء و تراكم الرأسمال على الصعيد العالمي الذي بدأ مع اسبانيا ثم انتقل لاحقا إلى باقي أوربا ، حتى أن باقي الامبراطوريات لم تقم إلا باقتفاء أثر اسبانيا و تقليد مسارها الذي بدأته خلال القرن السادس عشر ، و هاته المغامرة التي خاضتها اسبانيا ، قامت كل من انجلترا و هولندا و فرنسا بمحاكاتها بعد قرن ..
و لكن بالعودة إلى سؤالك ، فإن خطاب تزيين الحداثة تم تعديله في باقي العالم و النظر إليه كحدث طبيعي و امتياز أوربي دون التنبيه إلى الاستغلال الاقتصادي و الابستيمولوجي فيه.
أين يتجلى هذا النهب الإبستيمولوجي
غروسفوغل : لقد سرقوا المعارف والعلوم من باقي الشعوب ثم أعادوا تدويرها و نسبوها لأنفسهم على أساس أن العلم كان شيئا خاصا بهم و بطبيعتهم كأوربيين ، مع أن أوربا و حتى القرن الخامس عشر كانت قرية مظلمة مهمّشة من قبل باقي العالم ، فعلم و تطور القارة جاء بفضل حضارات أخرى ، جاء من حضارة الهنود في أمريكا و من الحضارة الصينية و الاسلامية و الهندية و الافريقية ، و كل هاته المناطق كانت تعرف تطورا اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و علميا ضخما ، فيما كانت أوربا مهمشة و فقيرة مقارنة بالاخرين ، و أضيف أنها كانت رجعية و ظلامية ، ففي الوقت الذي كانت محاكم التفتيش تحارب العلم هناك ، كان العالم الاسلامي يبرع في علم الفلك و البيولوجيا و الفلسفة ، و لكن تم حجب كل هذا لصالح تجميل الحداثة الأورومركزية.
إذن ليس ثمة حداثة بلا استعمار و بدون سيطرة و استغلال لباقي العالم ، و بدون نهب اقتصادي و معرفي له ، الحداثة ليست مشروعا تحرريا ، هي كذلك فقط بالنسبة ل 20% من ساكنة العالم ، الذين يتمتعون بامتيازات و فوائد هذا المشروع ، و حتى في القارة الأوربية فالبعض لايصله سوى الفتات من ” المتفوقين عرقيا ” عنهم ، بمعنى أنه تاريخيا فقد انتفعوا من نهبهم لباقي العالم .
إذا نظرتَ للحداثة كما يصفها البريطانيون الفرنسيون أو الألمان فإنك سترى نوعا مما يشبه ديموقراطية أثينا لكن على صعيد عالمي ، هاته الحريات هي لأجل أناس محدودين ، يحق لهم فقط التمتع بالديموقراطية و الثروة و يجب ترك باقي العالم خارج أسوار أثينا. و طبعا فباقي العالم هو شرط إمكانية هاته الديموقراطية لأنه منبع ثراءها ، فمنافع الحداثة في يد أقلية ، و لكن عوض أن يقولوا لك : لدينا هاته الامتيازات لأننا سرقنا الاخرين ، سيقولون لك أنهم حصلوا على ذلك بسبب أنهم عقلانيون ، و أنهم نشيطون اشتغلوا بتفان مع بعضهم البعض أو لأن لديهم علماء اكتشفوا المعارف و العلوم .
غروسفوغل : انظر مثلا إلى الثورة الصناعية البريطانية ، إنها خدعة كبيرة ، بدايةً لأن أول ثورة صناعية في التاريخ لم تحدث في أوربا ، فالصين و الهند كانتا متقدمتان في ميدان الصناعة و النسيج قبل أوربا و قبل انجلترا ، فماذا فعل البريطانيون ؟ إنهم قاموا بتفكيك معامل الهند أثناء استعمارها و دمروا كل القاعدة التصنيعية و سرقوا التكنولوجيا و أعادوا تركيبها في ليفربول و لندن و مانشستر ، ثم ماذا حدث بعد ذلك ؟ الذي حدث هو أن المنتصر هو من يكتب التاريخ و هو من روى لنا خرافة الثورة الصناعية و مركزية أوربا فيها ، ثم قدّموا لنا سلسلة من العلماء على أنهم عباقرة انجليز ، و لحد الان لازلنا نقرأ في كتب التاريخ لائحة العلماء الذين اخترعوا الالة الفلانية أو الأخرى ، في حين قام هؤلاء فقط بسحب الماكينات التي سرقوها من الهند نحو بريطانيا و تطويرها ، و هذا التطوير كان دافعه الأساسي هو احتكار الانجليز للسوق العالمية سيما مع تدمير القاعدة التصنيعية لمنافسهم و سرقة تكنولوجيته ، و هكذا أوهموا العالم أن الثورة الصناعية بدأت معهم ، و بالضبط في انجلترا ، و بعبارة أخرى فقد حدثت الثورة الصناعية لأن عبقرية البريطاني تفوق باقي سكان العالم ، و لهذا تمكن البريطانيون اختراع كل هاته الالات …و مع ذلك ظلت الصين حتى القرن التاسع عشر كمشكلة لهم ، فشنوا عليها حرب الأفيون الشهيرة ، حيث سيدمر البريطانيون القاعدة التصنيعية التي بقيت ، تحت ذريعة حماية حرية التجارة ، ثم اخترعوا لاحقا سردية تاريخية عن مسار التصنيع مُخفين الوجه القبيح له ، مثلما يخفون أنه مسار قام على أكتاف عبيد أمريكا الشمالية و الكرايبي ، و إلا من أين كان يأتي القطن ، أليس من مزارع جنوب الولايات المتحدة ، و من أين كان يأتي السكر كي يظل العمال يشتغلون 16 ساعة يوميا ؟ أليس من الكرايبي ؟ و من كان يقوم بهذا العمل ؟ أليس العبد الإفريقي ؟ هذا ما لا يقولونه لنا حين الحديث عن الحداثة ، و عوضه يقولون أن التصنيع في أوربا كان ثمرة لعباقرة أوربيين من غير علاقة له بباقي شعوب العالم و هذا ما هو شائع لحد الان .
نعود الى النقطة اشرت بيها في البداية. ما هي طبيعة السرديات التي حكيت عن الجنوب الاوربي؟
غروسفوغل : في منتصف القرن السابع عشر و بعد حرب الثلاثين عاما مع هولندا ، فقدتُم أنتم الاسبان دور البطولة ، و أصبحتم منذ ذلكم الحين دولة خاضعة و مُحتقَرة عرقيا من الأوربيين الشماليين ، و الان مع الأزمة المالية يقولون أنكم كُسالى و فاسدين و هذا سبب أزمتكم ، لا يتحدثون عن أن نهب و سرقة المركز المالي هو سبب الأزمة بل السبب هو طبيعتكم كاسبان ، و هو نفسه خطابهم نحو العالم الثالث. لقد عشتم ” أمل ” أوربا لخمس و عشرين سنة ، و الان انتهى الأمل ، و هذا “العشم ” في أوربا لم يكن لدى الأجيال التي سبقت دخول اسبانيا الاتحاد الأوربي ، هؤلاء كانوا يدركون الحقيقة جيدا ، ليس فقط لأنهم هاجروا إلى هناك و لكن أيضا للتفقير الذي عانوه في اسبانيا بسبب الشمال ، و ما كان يصاحبه من خطاب عنصري نحوهم ، و لكن للأسف بلع شباب اليوم الطُعم ، و ظنوا أنهم أيضا أوربيين و جزء من القارة الغنية ، الى ان استفاقوا الان على نفس الخطابات العنصرية نحوهم التي كانت رائجة في أواسط القرن السابع عشر و الى حدود بداية الثمانينيات ، و لكن هذا الخطاب الذي ظهر ضدكم منذ أربع سنوات مارسوه طيلة 500 عام ضد جنوب العالم الذي يشهد أزمة مالية خانقة و مفروضة منذ خمس قرون.