حركة خارج السرب | فلسفة الطّبيعة في فلسفة العصور الوسطى وعصر النّهضة الأوروبيّة
فلسفة الطّبيعة في فلسفة العصور الوسطى وعصر النّهضة الأوروبيّة
2019-06-25 | 2373 مشاهدة
معاذ قنبر
مقالات

من الواضح أنّ الفلسفة اليونانيّة وضعت عبر طروحاتها إرهاصات لمشكلات فلسفيّة تدخل في صلب أفكار الفلسفة العلميّة عامّة، وفلسفة الفيزياء خاصّة، كالعلاقة بين العقلانيّة والتجريبيّة، والعلاقة بين الاستنتاج والاستقراء، الّتي كوّنت أساس فكر النّهضة العلميّة في الفلسفة الوسيطة والحديثة.

المنهجيّة العلميّة في فلسفة العصور الوسطى في أوروبا

أوغسطين

هناك في الواقع فرق كبير بين تناول الفكر الفلسفيّ اليونانيّ و الفكر الفلسفيّ المسيحي لطبيعة المادّة، فقد كانت نظرة الفلاسفة اليونان للعالم مخالفة تماماً للنّظرة المسيحيّة. فبالنسبة لأي يوناني في أيّ عصر من عصور الفلسفة اليونانيّة، يبدو من الممتنع تماماً أن يكون العالم قد انطلق من لا شيء، ذلك أنّ فكرة ظهور شيء من لاشيء كانت غريبة عن المزاج العلميّ للعقل اليونانيّ (وهو الأمر الّذي تبنّاه بعض الفلاسفة العرب كما رأينا عند ابن سينا وابن رشد ).

والأمر مخالف لذلك في الفكر المسيحي، فأوغسطين (354 – 430) يرى أن الله خلق العالم، وخلق معه الزّمان، ونحن لا نستطيع أن نتساءل عمّا حدث قبل خلق العالم، إذ لم يكن هناك زمان يمكن أن نسأل بشأنه هذا السّؤال. والعالم المخلوق، إنّما هو نتاج أو ثمرة الفعل الإلهيّ، لهذا فهو يقوم على نظام عقليّ محكم منبثق من حكم الله. 

فالكون عبارة عن عالم سكوني ثابت لا متغيّر، وليس ثمّة من هدف في خلق العالم إلّا لتهذيب الإنسان ليصبح أقرب إلى الله، إذ كانت الطبيعة بالنسبة لذلك التّصور، لغزاً غامضاً لا جدوى من دراسته.

ومن منظوره في العقيدة واسقاطها على الكون، حاول أوغسطين تصحيح المنحى التفاؤلي الّذي أبداه، قائلاً: أن كلّ العلم الدنيوي، مهما افترضناه عظيماً، ليس هو بعد السّعادة الكاملة، لأنّ ما نعرفه ليس شيئاً بالمقارنة بما نجهله. وينبغي ألّا يخجل الإنسان من الاعتراف بجهله، لذلك نجده وقد اعترته الشّكوك من جدوى الدراسات العلميّة الفيزيائيّة، فهي بالنسبة له ليست بشيء إلى جانب المحبّة، فيكفي المسيحي اعتقاده بأنّ جميع الأشياء المخلوقة، إمّا في السّماء، و إمّا على الأرض، المرئيّة منها أم غير المرئيّة، هي أشياء صنعتها طيبة الخالق. و إذا كان على المرء أن يعجب بالعالم المحسوس لعظمته وجماله ونظام حركته الأزليّة، غير أنّ على المرء أيضاً ولزاماً أن يصعد إلى نموذجه الدّائم (مثاله) ولعالمه الحقيقيّ. هناك حيث يدرك جميع المعقولات الّتي يتجلّى فيها نموذج الأزليّة والمعرفة لذاتها وللحياة، وهناك يدرك أيضاً العقل الخالص الّذي يوجد على قمّتها، و يدرك أيضاً الحكمة السّامية والحياة الحقّة تحت رعايّة العقل المكتف بذاته.

وبتلك النّزعة الأفلاطونيّة يعلّق أوغسطين على ما جاء في سفر إشعيا: ” إذا لم تكن تعتقد، فلن تفهم “، قائلاً: ” إفهم كي تعتقد، واعتقد كي تفهم “. هكذا إذاً لا يلغي الإيمان المسيحي العقل، ولا بعفي من البحث، إذ بين الإيمان و الفهم، إيمان يبحث عن الفهم، إيمان يسعى وراء العقل. ذلك السّعي هو الفلسفة .و بالتّالي خلف المحسوسات هناك دائماً معرفة يقينيّة لا يتطرّق إليها الشّك، ولا يوجد اختلاف جوهري بين المعارف اليقينيّة وبين الحقيقة الأولى، لذلك كان يؤمن بمعطيات الحواس الّتي تنطبع في الوعي، ذلك لأنّ معطياتها وفروضها دائماً مفتوحة لتقدبر العقل.

ونظريّة أوغسطين في المعرفة اليقينيّة تشمل نوعين من المعرفة:

الأولى: تشمل الحواس الخمس وتعتمد عليها في تلقي المعرفة الّتي تأتينا من العالم الخارجي.

والثانيّة: تمثّل معرفة العالم المعقول، الّذي يدركه العقل، وهو مستقل بذاته دون وساطة الحواس. وكلا المعرفتين تتصفان باليقينيّة. لأنّ المعرفة بكلّ أنواعها إنّما هي وظيفة الرّوح. لقد نظر أوغسطين إلى الجسد بوصفه آلة يستخدمها العقل لتقوده للمعرفة الحسيّة، لكنّه، وعلى الرّغم من أنّه يعتبر الجسد المادي، جوهر أدنى من جوهر الرّوح، قد أكّد أنّ الرّوح تتجه بطبيعتها تجاه الجسد، وأنّها لن تكون كاملة بدونه.

والعقل طبقاً لوجهة نظر أوغسطين، يشعر بالحقيقة الكليّة الضروريّة لإصدار الأحكام. وذلك طبقاً لنظريّة الإشعاع الإلهيّ، وبناء على هذه النظريّة كلّها، فإنّ الأفكار الفطريّة (القبليّة) هي أساس تكوين العقل البشريّ. والاسم الّذي يعطيه أوغسطين للجزء الموجود في العقل، والّذي يحفظ الحوادث والأفكار، ويستعيد الصّور، إنّما يسمّيه الذّاكرة، الّتي تأخذ مفاهيمها الفطريّة من القوّة الروحيّة الموجودة في الطبيعة البشريّة. هذه الصّورة العقليّة، تدلّ على أنّ العقل، كلّ محتوى في ذاته، وأنّ جميع الأفكار الفطريّة في معرفتنا، تظهر في إصدار الأحكام، وهي موجودة في الذّاكرة. 

روجر بيكون

يعتبر روجر بيكون (1214 – 1294) أوّل المعبّرين عن منهج الطريقة الاستقرائيّة التجريبيّة في علم العصور الوسطى في أوروبا، حيث أكّد على أهميّة الدراسة التجريبيّة في مقابل التّأمل الميتافيزيقي قائلاً: أنّنا إذا ما شئنا اكتساب المعرفة، فعلينا أن نلجأ إلى التّجربة بدلاً من أن نرتدّ إلى ما قاله مشاهير القدماء. لذلك أكّد أن استخلاص النّتائج استنباطياً ليس كافياً، ولا بدّ لكي تكون النتائج مُقنعة من أن تصمد لاختبار التجربة. وقد دعا بيكون إلى اتّخاذ التجربة في العلوم كمنهج أوحد يغني عن كلّ منهج آخر قائلاً: أنّ للمعرفة وسائل ثلاث: النقل والتجربة والاستدلال، فأمّا النقل، فلا يولد لدينا العلم إذا لم يعطنا علّة ما يقوله. وأمّا الاستدلال فلا يمتلك بدوره أن يميّز المغالطة من البرهان إلّا إذا أيدت التّجربة نتائجه بأفاعيلها الّتي تشهد على صدق هذه النّتائج. فكان يميل إلى التّجربة ويتذوّقها، بل ويبدو أن تعبير ” العلم التجريبيّ ” ظهر لأوّل مرّة في مؤلّفاته، إذ يرى أنّ التجربة تولد يقيناً يبعد كلّ نوع من أنواع الشّك، وتمكن حتمً من معرفة الماضي والحاضر والمستقبل، ومن بناء آلات مدهشة. 

ومع بدايّة عصر النّهضة، بدأت تتزعزع تلك الأفكار الوثوقيّة ذات الطّابع اللاّهوتي، بتأثير أكاديميات وجامعات علميّة بدأت تظهر على السّاحة الأوروبيّة لتقدم المفهوم العلماني عن العالم، وتعيد إحياء منطق أرسطو بالتّركيز على الجانب الاستقرائيّ لا الصوريّ فيه، كما حصل في جامعات بولونيا في إيطاليا، وشارتر في فرنسا.

كذلك اطلّع الأوروبيون على منجزات الحضارة العربيّة الّتي كانت سائدة في الأندلس، من خلال الكتب اللاتينيّة المترجمة عن العربيّة، والّتي لعبت دوراً هامّاً في التّمهيد لثورة فكريّة شاملة اجتاحت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها، ومن خلال كلّ تلك المؤثرات بدأت النّظرة إلى الطبيعة في عصر النّهضة تأخذ شكلاً مضاداً للنظرة اللاهوتيّة، حيث اتّجهت الفيزياء إلى نبذ فكرة وجود العقل والحياة في الطبيعة ورُد الانتظام إلى قوانين موجودة في الطبيعة، وبدلاً من أن يكون العالم الطبيعي كائناً عضوياً، أصبح آلة. أمّا موضوع العقل فكان شيئاً يتخطّى الطبيعيّة، والتّمييز بين العقل بوصفه حالاً في الطبيعة، وبين العقل بوصفه مفارقاً لها، هو مفتاح جميع الخلافات الرئيسيّة بين فلاسفة اليونان ورجال عصر النّهضة فيما يخصّ العلوم الطبيعيّة عامّة، والفيزياء خاصّة، فكانت النّظرة اليونانيّة تتصوّر العالم الطبيعي على غرار عالم الإنسان، وتذهب إلى التخيّل أنّ الطبيعة تمتلك خصائص مشابهة للخصائص الإنسانيّة، أمّا في عصر النّهضة فكانوا ينظرون للطبيعة بوصفها آلة، وينسحب ذلك فيما بعد على الإنسان نفسه الّذي صوروه وبشكل معكوس على غرار الطبيعة.

تلك الفكرة الهامّة لم يتوصّل إليها الفكر الفلسفي والعلمي إلّا بعد طريق طويل من البحث والتّنقيب الفلسفيّ منذ عصر النّهضة، الّذي كسر أُطر التقليد الأرسطي الصارم بمعناه الصّوري في النّظر للأمور الماديّة. والجديد الّذي جاء به الفكر العلمي في عصر النّهضة هو اكتشافه أن كل المعالجات والدراسات للطبيعة تأنف من القالب التّصوري الأرسطي القديم، وهذا الأمر ظهر بشكل واضح منذ جروستيت حتّى غاليليو، فقد كان منهج أرسطو يقتصر في تعريفه لطبيعة الشّيء على معرفة صورته أو جوهره وماهيته الّتي متى تمّ إدراكها، أو بمعنى أصحّ تصورها، فإنّ ذلك يعني أنّه تمّ تفسير تلك الظّاهرة، ومتى تمّ هذا الأمر، فإنّ ذلك يعني أنّه لا حاجة لطرح مزيد من التّساؤلات حول طبيعة هذا الشّيء المادي، وعلى نقيض ما كان معهوداً في العلم آنذاك، سعى جروستيت إلى صبغ الطبيعة بالصبغة الرياضيّة ودراسة الظواهر على نحو رياضي ليحاول إحلال مفهوم القانون مكان الصورة في منهجيّة  الدراسة العلميّة، هذا الأساس طوره وسار عليه أقطاب عصر النهضة العلميّة كبرونو وكوبرنيكوس ثم غاليليو.

توما الأكويني

انطلق الأكويني (1225 – 1294) من مبدأ القانون الكامن في المادّة، والمفروض من سلطة عليا، فيؤكّد على فكرة أنّ قوّة القانون تأتي من وجود الله كمبدأ للكون يحلّ صفة التّحكم بالأشياء، إلّا أنّه يعود ليؤكّد بأنّ الله إنّما يفعل كلّ شيء بحسب طبيعة هذا الشيء، فهو بتحريكه العلل الطبيعيّة لا يزيل كون أفعالها طبيعيّة، وكذلك بتحريكه العلل الإراديّة لا يزيل كون أفعالها إراديّة.

لقد سلّم الأكويني بطبائع الأشياء المباطنة فيها، بيد أنّه يرد هذه الأسباب الداخليّة إلى علل خارجيّة مفارقة هي الله، محاولاً المزاوجة بين أفكاره الفلسفيّة المتأثرة بأرسطو مباشرة، وعقيدته المسيحيّة، حيث أراد بذلك أن يستبعد فكرة الحريّة وعدم الضّرورة لصالح حتميّة مركزة في الأشياء من قبل الله.[11]وبما أنّ العالم يعود لقوة خارجيّة هي الله فهو أذاً مخلوق، وهذا يعني أنّ كلّ كائن في هذا العالم يستمد وجوده من الله، لأنّ الله وحده هو الوجود المستمر، الّذي ماهيته تقتضي وجوده .

ويعتقد الأكويني أنّ الكون يمكن إدراكه، وهو سهل الفهم، وأن مكوناته وقوانينه يمكن إدراكها عن طريق الفكر الإنساني المحدود، وعن طريق تتبع ظواهر الكون الواحدة تلو الأخرى وتجميعها في النهاية لكي نصل لفهم كامل لحقيقة الكون. كما اعتقد أنّ هذا الكون ذو طبيعة عليا، وأنّ هذه الطّبيعة العليا الخارقة أبدعها الله، وهو سبب وجودها، وأنّ الاتصال دائم بين هذين الطرفين، المُبدع و المُبدَع، لأنّ الإنسان كأثر ومخلوق، يمكنه أن يتحقّق من فهم بعض الحقائق عن القدرة العليا ويمكنه أن يدرك خالق هذا الكون ومبدعه، تلك الفكرة البسيطة القائمة على منطق استقرائي مبسط، تعبّر عن إمكانيّة ومعقوليّة الرّبط بين الله والعالم المادي.  ويعدّ خلق الله لهذا العالم، نوعاً من انواع الكشف الإلهيّ، أو الوحيّ. وهذا الكشف، يعدّ نوعاً من البرهان العقليّ، حيث أنّ هذا العالم بصورته، وما فيه، ومن فيه، يمكن أن تدركه القوى العقليّة البشريّة، فهو بمثابة كتاب مفتوح يستطيع العقل البشري أن يقرأ فيه، والمعرفة الطبيعيّة للعالم، إنّما هي معرفة الله.[14]

وفي خصوص المعرفة تبنّى الأكويني الرأي الأرسطي، فقد آمن أنّ المصدر الوحيد لمعرفتنا، هو في الواقعة المحسوسة، ذلك أنّ الإنسان ليس لديه أيّة أفكار فطريّة نظريّة سابقة على التجربة الحسيّة، بما في ذلك معرفته عن الله ذاته، ذلك أنّ العقل يبدأ بإدراك الأشياء الماديّة المحسوسة قبل إدراكه للمعاني المجرّدة، وكلّ نظريّة علميّة تبدأ من الحسّ، إذ أنّ الحسّ هو أساس الادراك العقليّ. ولكن  هناك في الأشياء المحسوسة عنصر معقول هو ” الصّورة “، الّتي هي كالفكرة الإلهيّة متحققة ومتعينة في المادة. وبالتّالي فإنّه حتّى في الأشياء يوجد المعقول،  لكنّه معقول “بالقوّة “، ولكي يصبح معقولاً بالفعل، يجب أن تتدخّل ملكة ناشطة هي الّتي تسمى ” العقل القعّال “.

بتعبير آخر: يوجد في قمّة الهرم الفكري للاكويني الله ” الفعل المحض “، وهو ليس محدوداً بأي قدرة. وفي أقصى الطرف المعاكس توجد المادة، أو القوّة المحضة. وما بين الاثنين يتألّف من فعل ومن قوّة. فلنُغرق، كثيراً أو قليلاً، الصّورة في المادّة، وسنحصل على كامل التشكيلة من الكائنات الجسديّة، حيوانات، نباتات، معادن. تلك هي النظريّة الّتي أطلق عليها اسم المادة المتصوّرة (هيلومورفيّة)، ومفادها أنّ كلّ كائن جسدي مؤلّف من مادّة (هيولى)، ومن صورة، وفي أعلى سلم الكائنات البدنيّة يوجد الإنسان المؤلّف من روح وجسد، حيث تكون النّفس صورة الجسد، وتلك النّفس تكون عند الإنسان – عكس الكائنات الأخرى – متحرّرة نوعاً مّا من العبوديّة للمادّة، وبذلك تستطيع البقاء بعد تحلّل الجسد.

ويحسب للأكويني أنّه أبدى تشككاً في نظريّة بطليموس حول مركزيّة الأرض ونظريّة أفلاك التدوير قائلاً: ” رغم أنّ هذه الطروحات (طروحات بطليموس) تبدو منقذة للمظاهر، فهذا لا يعني أنّها حقيقيّة، إذ يمكن تفسير الحركات الظاهريّة للكواكب بأسلوب آخر، لم يصل العلماء إليه بعد “.

المنهجيّة العلميّة في فلسفة عصر النّهضة في أوروبا

إنّ الفصل المنهجي بين الفكر التجريبيّ والفكر العقلانيّ في العلم، لم يتبلور بشكل واضح إلاّ مع عصر النّهضة، وهو مصطلح يطلق على المناخ الفكريّ الّذي بدأ بالتبلور مع بدايات القرن الخامس عشر وجاء كرد على سكونيّة ووثوقيّة فلسفة العصور الوسطى الّتي تنبنت منهج لاهوتي من خلال أفكار توسّع الهوّة بين الطّبيعة الماديّة والتّصورات العقليّة، وذلك بتأثير من أفلوطين وأرائه الأفلاطونيّة الصوفيّة من جهة، والعقيدة الدينيّة المسيحيّة ذات الجذور الأرسطيّة من جهة أخرى. ومن هذا العصر لمع إسمان بارزان أحدهما تميّز بخياله الخصب ذو المسحة الصوفيّة وهو الفيلسوف الإيطالي “جوردانو برونو”، أمّا الثّاني فهو مؤسّس المنهج العلميّ التجريبيّ الرياضيّ في صيغته الحديثة، وقد اشتهر بطريقته المبتكرة في فهم الطبيعة الماديّة ووضع أصول البحث التجريبيّ وهو العالم الطبيعي الإيطالي (غاليليو غاليلي).

جيوردانو برونو

لقد جاء جيوردانو برونو (1548 – 1600) بأفكار جريئة وطريفة، فتحدّث عن نسبيّة المكان والزّمان، وتعدّد العوالم الشمسيّة، فوضع بذلك مفهوم النسبي، كبديل للمطلق والمتعالي الّتي كانت سائدة في فلسفة الطبيعيّة. فقال بنسبيّة المكان، على اعتبار أنّ الأفق يستدير دائماً حول النّقطة الّتي نوجد فيها فيصبح تعيين المكان نسبياً، وبالتالي فإنّ شكل العالم يختلف في نظرنا باختلاف النقطة الّتي نتمثله فيها، فيبدو من القمر غيره من الأرض، غيره من الزّهرة، أو من الشّمس، لذا فإنّ ألفاظ فوق وتحت ويمين ويسار، لا تدل في الحقيقة عن شيء، وهو بذلك قدم إرهاصات عبقريّة للنظريات الفيزيائيّة الحديثة، ونخصّ بالذّكر النظريّة النسبيّة الّتي جاءت بعده بقرون.

ويتابع القول بنسبيّة الحركة على اعتبار أنّ ليس العالم نقطة ثابتة، وهذا ناتج عن المسلمة السّابقة، فالحركة الواحدة تتّخذ أشكالاً خاصّة حسبما نتصوّرها من الأرض أو من الشّمس، وفي أي نقطة أفترض أنّي موجود فيها تبدو لي دائماً غير متحرّكة، ولهذا لا يمكنني التّمييز المطلق بين السّاكن والمتحرّك، ونسبيّة الحركة يلزم عنها نسبيّة الزّمان، الّذي هو مقياس للحركة، وكما أنّ الحركة تبدو مختلفة باختلاف الكواكب الّتي ننظر منها إليها، كذلك فإنّ في العالم أزمنة مختلفة بقدر ما فيه من كواكب. أمّا العالم، فهو لامتناهي يشتمل على نظم شمسيّة لا تحصى شبيهة بنظامنا الشّمسي.

لقد تجاوز برونو بتلك اللّمحات العبقريّة  كلّ التّصورات اللاهوتيّة الّتي تقر بقوى فوق طبيعيّة تحكم العالم، والتّصورات الفلسفيّة والعلميّة لعلماء ومفكري هذه المرحلة بما فيهم كوبرنيكوس (1474 – 1543) الّذي تابع القدماء بتصوره لعالم محدود ومتناهي. إذ يقول برونو في كتابه ” حول العلّة “: إنّ الكون واحد لامتناه ثابت لا يتحرّك، وهو يضمّ كافة الكائنات ولا يتأثر بكائن أو آخر، ولا يحمل في ثنايا ذاته أو داخل تلك الذّات أي تحوّل، ومن ثمّ فإنّه هو كلّ ما يمكن أن يكون، والكون خالد ليس فيه من فارق بين القرن والعام واللّحظة، كما يجد أنّه في هذا الكون اللاّمتناهي الخالد قد تقف الأضداد.

و على الرّغم من تقسيم الوجود منطقياً إلى ما هو كائن، وما يمكن أن يكون، إلّا أنّه وجود غير قابل للقسمة، ومتميّز حقاً دون تفرقة الجزء من الكلّ، فكلّ شيء متضمن في كلّ شيء، وعليه فإنّ الجميع واحد، والوحدة في التّعدد، والتّعدد في الوحدة، هنا نجد الماحات أولى لفكرة وحدة الوجود الكوني، والّذي هو – وفق برونو – مفتاح لا غنى عنه للإدراك الحقّ للطّبيعة. فكلّ ما نرى فيه اختلافاً في الأجسام ليس إلّا تنوعاً في مظهر جوهر واحد، إنّه مظهر مؤقّت قابل للانتقال والفساد لوجود غير قابل للانتقال وثابت وخالد. تلك الفكرة الّتي وسعها سبينوزا فيما بعد في فسفته حول وحدة الوجود.

وقد بيّن في مؤلّفه الكبير ” عن الفسيح دون حدود وعن ما يتعذّر تصويره- أعني الكون والعوالم “: أنّ الأرض ليست سوى نقطة صغيرة جداً، تائهة في الفضاءات النجوميّة البينيّة، وأنّها تدور على ذاتها وحول الشّمس، وأن الشّمس ما هي إلّا نجمة من بين مليارات من النّجوم سواها، وأنّ هذا الكون دون حدود،  وأزلي، مركّب من أجسام صغيرة جداً لا نهاية لعددها، هي الذرّات، والكون يشتمل على عدد وفير من العوالم مثل عالمنا.وهي الفكرة الّتي دفع ثمنها حياته حرقاً فيما بعد.

من خلال التّصورات الجريئة، بدأت نظرة منهجيّة جديدة في دراسة العالم، عبّر عنها العلماء بشكل متنامي لتقدّم الأسس التاريخيّة المنطقيّة لثورات العصور الحديثة الّتي عصفت بكلّ ما هو بديهي من المعارف مع علماء آمنوا بالبحث النّظريّ عن قوانين العالم، انطلاقا من العالم نفسه، وليس ممّا هو فوق طبيعي، حيث بدأ النّظر إلى الكرات السماويّة باعتبارها خاضعة للقوانين الفيزيائيّة نفسها الّتي تخضع لها كرتنا الأرضيّة، وبالتّالي يكون الكون برمّته يمكن النّظر إليه ككيان واحد. وبالتّالي أصبحت – بفضل برونو – مفاهيم من قبيل الحركة والحجم والفضاء، والّتي كان لها معنى بالغ المحدوديّة في نسق الفيزياء الأرسطيّة، ذات دلالات جديدة، حيث حلّ الكون المتجانس محلّ كون ماورائي . ما مهّد السّبيل لإعادة إحياء فكرة عدم مركزيّة الأرض، فلم يعد لكوكب الأرض ميزة مركزيّة في الكون، كما زعم أرسطو ومن بعده بطليموس، بل كوكب يدور حول الشّمس كالكواكب الأخرى، وإن كان هذا التّصور لا يزال متأثراً بفكرة الدّائرة الكونيّة للفلاسفة اليونان، حيث تخيّل دوران دائري للكواكب،  وهو ما أعاد تصحيحه كبلر (1571 – 1630) فيما بعد بقوانين جديدة أثبتت الشّكل الاهليجي لذلك الدوران، ومع ذلك فإنّ دور كوبرنيكوس الرّائد، لا يتجلّى بإعادة إحياء تلك الفكرة الّتي عبر عنها سابقاً لدى الفلاسفة اليونان ممثلين بالفيثاغورثيّة وأرسطرخوس، بل في أنّه استطاع أن يشيّد على هذه الفكرة نظاماً كونياً متناسقاً ومتكاملاً، أضفى على التّصور البشريّ للكون مزيداً من النّظام والمعقوليّة، وفتح آفاقاً أمام البحث العلمي، والرؤى الفلسفيّة لطبيعة المادة والكون. 

بتلك الأفكار الثوريّة الجديدة، صدرت آراء فكريّة متحرّرة من سلّة الجمود الوثوقيّ الّذي فرض على العقول لقرون عديدة، حيث بدأت حلقات العلماء بالتّشكل بشكل سريّ، ثمّ علنيّ، لمعارضة آراء أرسطو الوثوقيّة، والكنيسة الّتي تدعمها، وبدأت تلك الحلقات بقوّة في فرنس، وقد ترأسها ” ميرسين ” الّذي  أصدر كتابة ” مسائل ” وضع فيه أهمّ الأسس الفلسفيّة للبحث العلمي المنهجي، ومن أفكاره أن أرفض كلّ ما يتعلّق بسلطة سابقة، وأن أتّخذ من الملاحظة المباشرة والتّجربة أساساً لجميع نتائج البحث الّذي أقوم به، وأن أضع أساساً رياضياً لكلّ ما أفهمه من الظواهر الطبيعيّة. تلك الملاحظات الهامّة، شكّلت إطار منهجي للبحث التجريبي المدعم بتصوّرات منهجيّة عقلانيّة رياضيّة، جاءت كردّ فعل على الفكر النظريّ التأمليّ  الوثوقيّ للفكر العلميّ القديم.

وقد وجدت تلك الصّيغة أبرع ممثل لها ممثلة في شخص غاليليو، إذ حاز تطبيق الفيزياء عنده، على سمة عامّة مميّزة تمثّلت في اشتماله على التجربة الّتي اقتضت تفاعلاً مصمّماً مع الطّبيعة، توجهه النظريّة. هذا النّموذج من التّطبيق التجريبيّ لم يكون موجودً في الفيزياء قبل غاليليو.

غاليليو

على الرّغم من أنّ غاليليو (1564 – 1642) كان أكثر ميلاً للنّهج التجريبي، فإنّه لم يكن مبتعداً أبداً عن التّصورات الاستنتاجيّة النظريّة والرياضيّة في دراساته، فهو يقول بشكل واضح: أنّ الفلسفة الطبيعيّة مدوّنة في ذلك الكتاب الضّخم الّذي هو الكون المفتوح بصورة دائمة أمام جميع الأعين، وأنّه لا يمكننا فهم هذه الفلسفة إذا كنا نجهل اللّغة الّتي كتبت بها، وهي الرياضيات، والّتي لا يمكن فهمها هي الأخرى، دون فهم حروفها  الممثلة بالمثلثات والدوائر وغيرها من الأشكال الهندسيّة، الّتي من دونها لا يمكن فهم شيء على الإطلاق، حيث نصبح كمن يمشي في متاهة مظلمة.وعندما كان جاليليو يتفاوض حول وضعه في فلورنسا، كان يصر بمفرده على الحصول على لقب “فيلسوف” بالإضافة إلى المنصب المعتاد تخت اسم رياضي البلاط. و كان يقول إن استحقاقه لهذا اللقب، يبدو جلياً بمجرد أن يحصل على فرصة لمجادلة أكثر الفلاسفة تقديراً و احتراماً.

لقد تعرّف غاليليو على ضرورة التّشكك وعدم الموافقة بصورة عمياء في تعامله مع الطبيعة، رغم أنّ وجهة النّظر تلك كانت تعتبر في عصره بمنزلة صدام مع كلّ شخص تقريباً، وليس الفلاسفة فقط، بل اللاّهوتيين والحكام كذلك. وفي عصر كانت السّلطة والموروثات تؤخذ كما هي، كانت كلمة السّر عند جاليليو هي رفض تلك الموروثات وسلطتها من أي نوع. أمّا الموقف الشّامل له، فكان يوجزه بالقول إنّه لم يكن راغباً أبداً في تقبّل أي وسيط بينه و بين الطبيعة. ومن أهمّ القسمات المميزة لعمل غاليليو أنّه اعتاد دائماً إجراء تجارب لاختبار الفروض، ومن ثمّ العمل على تعديل أو استبعاد الفروض إذا لم تأت نتائج التّجارب وفق النّبوءات المقرّرة.

وإذا لم يكن غاليليو أوّل من وضع نظريّة في الآليّة الكليّة للطبيعة إذ سبقه في ذلك العديد من الفلاسفة اليونان، إلّا أنّه دون أدنى شكّ، كان قد مهد السّبيل أمامها بابتداعه علماً فيزيقياً – رياضياً في الطبيعة، علماً قادراً على توقع الظّاهرات. وعلى الرّغم من أنّه لم يحدد ماهيّة الأشياء، لكنّه أوضح بالتجربة أنّ الرياضيات، بمثلثاتها ودوائرها وأشكالها الهندسيّة، هي اللّغة الوحيدة القادرة على فكّ طلاسم كتاب الطبيعة، وقد صبّ اهتمامه على منهج فكّ الرّموز هذا أكثر منه على طبيعة الموجودات. وللمرّة الأولى، نقع على فكرة واضحة و خالصة عن القانون الطبيعي باعتباره علاقة وظيفيّة، وبدءاً من هذه اللّحظة ستتقدّم الرياضيات بالتّعاضد مع تقدم الطبيعيات.[

لقد وضع غاليليو الأشكال الهندسيّة بموضع الأعداد الفيثاغورثيّة، فقدّم بذلك القانون الرياضي لفهم الكون بصورة هندسيّة وتصوريّة جديدة لم تطرق مسبقاً، فاعتقد أنّ الرّؤية النّافذة للعلاقات الرياضيّة هي معرفة فطريّة، وهو رأي موافق مع الرأي الأفلاطوني والتيار العقلاني، فاعتقد – أسوة بأفلاطون – أن المعرفة الرياضيّة هي شيء نمتلكه جميعاً، لكنّها عند معظمنا هي معرفة غائرة في الأعماق، ولكن ما نُسي يمكن تذكره، إذ يبدو الأمر هنا أشبه بعمليّة إعادة تعلّم لغة منسيّة، وفي حالتنا، هي أبجديّة الدوائر والمثلثات ……. وبالحوار ننجح في تذكر ما قد نُسي، حيث يشارك غاليليو أفلاطون – ثمّ ديكارت – أيضاً في هذه النّقطة. ومن خلال ذلك، اكتشف غاليليو وأسس لطريقة جديدة في التّفكير العلمي، فاهتم بالكشف عن العلاقات الّتي تربط بين الظواهر، وهو الشّيء الّذي كان مهملاً من قبل، تاركاً البحث عن المبادئ والأسباب الميتافيزيقيّة الّتي  استحوذت على التّفكير القديم، محدثاً قطيعة معرفيّة عن ذلك الفكر، بحيث لم يعدّ بالإمكان بعده العودة إلى أساليب الفكر القديمة وتصوّراتها الأرسطيّة، حيث عبر عن نظرة جديدة تماماً للعالم، بخروجه الجذري عن المذهب الأرسطي من ناحيتين.

فهو أولاً: يفترض أنّ السّكون ليس حالة مميزة للأجسام، بل إنّ الحركة طبيعيّة شأنها شأن السّكون تماماً. وهو ثانياً: أثبت أنّ الحركة الطبيعيّة بالمعنى الخاصّ الّتي كانت تستخدم به هذه الكلمة، ليست هي الحركة الدائريّة، بل هي الحركة المستقيمة، فإذا لم يحدث تدخل من أي نوع في طريق جسم مّا، فإنّه يظلّ متحرّكاً بسرعة متجانسة في خطّ مستقيم.

بذلك يكون غاليليو قد حقّق ثورة كبرى في الفكر العلمي، إذ حول مجرى الفكر من الملاحظة البسيطة، إلى التّعمق التجريبي النظري في الظواهر، فكانت أرائه بمثابة قراءة جديدة للحقيقة.

وفي خصوص علوم الكونيات قدم غاليليو لأول مرّة تصوّرات ذات طبيعة استقرائيّة قائمة على الملاحظة، في معرض ملاحظاته عن البقع الشمسيّة يقول: ” ما دام النّاس قد درجوا حقيقة على القول أن الشّمس ” الأكثر نقاءً والأكثر صفاءً “، فلا ظلال ولا شوائب لوحظت فيها. ولكن الآن وحيث إنّها قد بيّنت نفسها لنا بشكل غير نقي جزئياً ومبقع، فلماذا لا يجب علينا أن نقول عنها – مبقعة وغير نقيّة؟ – ذلك لأنّ الأسماء والصّفات يجب أن تلائم جوهر الأشياء، ليس جوهر الألفاظ، ذلك لأنّ الأشياء توجد أولاً وبعدها الألفاظ “.

بتلك الطّريقة، قضى غاليليو ليس فقط على فكرة تقسيم الكون إلى منطقتين علويّة سماويّة وسفليّة أرضيّة، كما ساد في الفكر القديم، وإنّما قضى أيضاً مرّة وإلى الأبد على الفكرة القائلة بفضاء مكوّن من جهات مختلفة، وأماكن مفضلة تنطوي على أهميّة كونيّة خاصّة، حيث لم يعد هناك أعلى وأسفل، ولا يمين أو يسار، وهذا يعتبر تطبيق عملي رائع لأفكار برونو السّابق ذكرها . حيث يقول في كتابه (رسول إلى النّجوم): ” في هذه الرّسالة القصيرة، اقترحت أشياء عظيمة للفحص والتّأمل لكلّ مستكشف للطّبيعة، وإنّني أقول عظيمة نظراً لتفوّق وامتياز الأشياء نفسها، وبسبب حداثتها، وعدم السّماع عنها عبر العصور، وأيضاً بسبب الجهاز الّذي بمساعدته تتجلّى هذه الأشياء لأبصارنا (يقصد التلسكوب). بالقطع إنّه لشيء عظيم أن يضاف إلى الحشد الكبير الّذي لا يعد من النّجوم الثّابتة – الّتي تُرى حتّى الآن بالوسائل الطبيعيّة وتنكشف لأعيننا – نجوم أخرى لا تحصى و لم ترَ عموماً من قبل، و هي تزيد عن عشرة أمثال العدد القديم والمعروف من النّجوم… وسوف يكون ساراً وممتعاً أن تعرض بوضوح أنّ مادة تلك النجوم الّتي تدعى سديميّة حتّى الآن بواسطة كلّ الفلكيين، هي شيء مختلف عمّا كان يُظنّ حتّى يومنا هذا “.و يضيف قائلاً : ” سيكون من المفيد إذا استمعنا مستقبلاً مرّة أخرى إلى الفلاسفة الّذين يعتقدون أنّ مادة الجرام السّماويّة مختلفة عن مادّة أرسطو. وهو نفسه – أرسطو – لم يكن سيحيد إلى هذا الحدّ عن وجهات نظرهم إذا كانت معلوماته قد احتوت على دلائلنا الحسيّة الحاليّة، حيث أنّه شخصياً قد سلّم جلياً بالتّجربة كواحدة من طرق الاستنتاج في المسائل الفيزيائيّة، وربّما لو كانت عيونه قد أظهرت له ما هو مثبت لنا الآن، لتبنى الأفكار نفسها الّتي توصلنا إليها، مغيراً فكرته عن السّموات الثّابتة “.

والجدير بالذّكر أنّ جاليليو كان قانعاً بوصف الحركة رياضياً دون أن يشغل نفسه بالتّفكير في سببها. وهو بذلك يبتعد بشكل أساسي عن العلم الأرسطي الّذي يعتبر أنّ المعرفة الحقيقيّة هي معرفة الأسباب. ويمكن تشبيه أسلوب جاليليو بأسلوب مهندس، أي شخص يهتمّ بوصف ماهيّة الشّيء والاستفادة منه أكثر ممّا يهتمّ بسببه.

ومن النّاحية الإبستمولوجيّة، يعتبر غاليليو من روّاد الفكر النسبيّ، حيث يذهب البعض للقول أنّ التّصور الدائري الذاتي الّذي تحدّث عنه، يتوافق تماماً مع الفضاء المقوس الّذي تحدّث عنه أينشتاين، أكثر من توافقه مع الفضاء المطلق الّذي تحدث عنه نيوتن، فكان عليه أن يقوم بمجهود عقلي جبّار، لكي يثبت أنّ الأجسام كافّة وبمعزل عن العوامل الخارجيّة تسقط بالسّرعة نفسها، حيث تمكّن من أن يصرف النّظر عن وجود الهواء الّذي يحيط بالأجسام بصورة طبيعيّة، متخيلاً جسمين مختلفين كمنديل عادي وقطعة رصاص، يسقطان في الفراغ الّذي تصوّر بأن التّساوي في سرعة السّقوط، لا يتساوى إلّا فيه، وهذا يدلّ على ملكة الخيال العاليّة الّتي تمتع بها، وهي ملكة  لم يقبلها أرسطو سابقاً، بسبب إساءة فهمه للظّواهر الحركيّة ، الّتي جعلت استنتاجاته المتعلّقة بسقوط الأجسام خاطئة تماماً، كما لم يكن لنيوتن التجريبي ليتقبّلها بسهولة لاحقاً.

لقد استطاع غاليليو بمنهجه الجديد الّذي وضعه، أن يسهم في إنشاء الميكانيك السّماويّ، كما رسّخ فكرة كوبرنيكوس حول لا مركزيّة الأرض، من خلال كتابه الشّهير حول أنظمة الكون ” ديالوغو ” الّذي استخدم فيه طريقة أفلاطون في محاوراته، حيث اتّخذ كتابه طريقة حوار بين ثلاث شخصيات، اثنان من مؤيدي نظام كوبرنيكوس، والثّالث من مؤيّدي أرسطو، فاستخدم في هذا الكتاب طريقة التّوليد الّتي أخذها عن سقراط وأفلاطون، وهي الفكرة القائمة على استخراج الحقيقة من الآخرين عن طريق توجيه الأسئلة إليهم.

وبالمحصّلة نرى أن منهجيّة غاليليو في المعرفة العلميّة تتمحور حول ما يلي:

1- المنهج التجريبي يعتمد على الاستقراء أساساً، ولكن ليس الاستقراء بالمعنى الأرسطيّ، بل العلمي، على اعتبار أنّ الأول هو استقراء كيفي، يقفز من الوقائع الجزئيّة إلى المبدأ العام، فهو بذلك لا ينتج شيئاً في مجال المعرفة العلميّة، حيث يكتفي بوصف الظواهر كيفياً لا كمياً، كالقول بأنّ سقوط الأجسام تابع لوزنها، معللاً ذلك بالحواس الظّاهرة، لا بمقاومة الهواء كما هو الأمر فعلياً. أمّا الاستقراء الّذي قصده غاليليو فهو استقراء يقوم على التّعليل الكميّ الرياضي للظّواهر، وليس الحسي فقط.

2- كما يعتمد المنهج التجريبي على الاستقراء العلمي التحليلي، كذلك يجب أن نعتمد على الاستنتاج والتركيب، إذ يرى أنّ الملاحظة والتجريب يوحيان أثناء التّحليل بالفكرة، والفرضيّة الّتي منها ينطلق الباحث في عمليّة متناميّة مركّبة، حيث يركب فيها العناصر الّتي تمّ الكشف عنها أثناء التّحليل، تركيباً منطقياً، فيصل إلى صياغة قانون عام يعمّمه على جميع الظواهر الملاحظة.

3- إنّ التجربة في المنهج التجريبي، هي مخبريّة أساساً، وتمثّل انتقال من الملاحظة العاميّة، إلى الملاحظة العلميّة المجهزة بأجهزة دقيقة.

ما يمكن استنتاجه من تلك المبادئ هو أنّ أهمّ ما يميّز المنهج التجريبي عند غاليليو، هو الاعتماد الأساسي على الرياضيات، وصياغة عالم التجربة صياغة رياضيّة، وإرجاع حوادث الطّبيعة إلى البناء الرياضيّ، وبالتّالي العمل على تقويض الحواجز الّتي أقامها التّفكير الميتافيزيقي القديم، بين الرّياضيات بوصفها خاصّة بعالم الذّهن، وبين الواقع المشخّص. حيث أعاد غاليليو القول بأهميّة جعلهما متوافقين متطابقين.  بذلك يكون غاليليو قد قدّم قفزة هامّة في فلسفة التّفكير العلمي بحيث يمكننا اعتباره رائدا من روّاد الفكر النظريّ والتجريبيّ في علوم الطّبيعة.

وقبل أن يحاول تقديم وجهات نظره الفلسفيّة في أيّ كتاب، كان جاليليو يعلّمها دون أيّ شكّ لتلاميذه. وعندما بدأ بعضهم يطلق على نفسه ” الجاليليون ” كان ذلك لأنّهم تعرفوا في تعليمه على ما هو أكثر من مجرّد رفض أرسطو، فقد أضحى ما كانوا يتعلّمونه من جاليليو يعرف فيما بعد باسم ” الفلسفة التجريبيّة ” وهي لا تختلف كثيراً عمّا نطلق عليه المنهج العلمي.الّذي تطور ونما على يد ديكارت ثمّ نيوتن فيما بعد.