إلى أيّ مدى يمكن لأفق الفهم الذي تقوم عليه الملة الدينية أن يستجيب للشرط الأول لمعنى الحق في الخصوصية، نعني مطلب "الحق في أن يُترَك المرء لوحده" أو بمفرده أو لنفسه وشأنه(The Right to Be Let Alone)؟ - لا يمكن توفّر هذا الشرط، إلاّ إذا أقدم المنتمون إلى أفق الملة على قرار تأويلي خطير جدّا بالنسبة إليهم، ألا وهو الإقرار بأسبقيّة "الحرية الفردية" على "أحكام الجماعة" وليس العكس: أنّ "الفرد" (وليس "المخلوق" أو "الروح" أو أية تسمية دينية أخرى) يمتلك حقّا جذريا وأصليا ونهائيّا وحرّا في أن "يكون" ذاته، وليس أن "يؤمن" بأيّة حقيقة "متعالية" على أفق تلك الذات.
لكنّ ما ينقص "المؤمن" المنتمي إلى أفق الملة قد يتجاوز مطلب الحرية الفردية: ينبغي أوّلا أن يكون "نفسه" (to be oneself)، وليس "شخصا" آخر كان قد "كُلّف" بأن يحمله في جسده. وطالما كان هناك تصوّر للنفس على أنّها كائن "مخلوق" من طرف "إله خالق" رسم لها كلّ سرديّتها ليس فقط من الولادة إلى الموت، بل إلى ما بعد الموت حسب تقنيات الآخرة المفترضة، - فإنّ المؤمن متورط سلفا في سردية "الروح" التوحيدية، ولا يمكن أن "يُترك كي ينفرد بنفسه"، لأنّ "الانفراد" هو ذاته وضعية وجودية مستحيلة بالنسبة إلى جنس وجوده الأخلاقي. يفترض الحق في الانفراد قبل كل شيء حقا في أن "يكون نفسه" دون شروط مسبقة. وهذا مقام يفترض قبل ذلك تجربة وجودية جذرية تعيد الإنسان في قلبه إلى "مكانه"؛ أي إلى نمط الكيان الخاص به دون "غيره" الجاهز كي يقحمه إقحاما في جبّة الجماعة بوصفها الأفق الأخلاقي الوحيد لنفسه. ربما كانت "النفس" من أخطر الاختراعات التي أتيحت للبشر في فترة مخصوصة من تاريخ النوع. لكنّ الاستيلاء الهووي عليها بواسطة آلة "الجماعة" في كل مكان، وليس في الملل الدينية فقط، ومن ثمّ تحويلها سردياّ من "نفس" (مجرد علاقة للكائن بذاته) إلى "روح" (مخلوق يدين بوجوده إلى كائن أسمى خالق له)، هو عائق تاريخي ومعياري أجّل إلى وقت غير معلوم إمكانية ترسيخ الحق في الخصوصية بهذا التعريف الجديد.
- حين يتعلق الأمر بالسؤال عن علاقة "المؤمن الأخير" (أي مؤمن في أفق أي جماعة روحية) و"الخصوصية" (أي علاقة للذات بنفسها في أي ثقافة)، فإنّه علينا عندئذ أن نضع عبارة "الحياة الخاصة" بين هلالين، لأنّها كما يبدو لم تصبح بعدُ "لدينا" مصطلحا مستقرّا. وليس لأنّنا ننتمي إلى حضارة "غير غربية" (فهذه مغالطة تأويلية يتمسّك بها الخصمان على نحو مفارق، إذ نحن "غربيون" تماما سواء عندما كنّا وثنيين أو خاصة عندما صرنا توحيديين)، بل لأنّنا جيل صار يوجد بين عالمين متوازيين مما أنتج نوعا غير مسبوق من المشاكل الهووية، سواء في العلاقة بأنفسنا أو في مدى تعايشنا مع الآخرين. ربما كان أقوى ما نتج عن الحداثة المتأخرة هو تسارع أخلاقي أربك ليس فقط كل سرديات النفس التقليدية، بل خاصة زعزع خطوط التماس التي نجح المجتمع الأوروبي في رسمها حسب تشخيص هابرماس في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بين دائرتيْ "الفضاء العمومي" و"الحياة الخاصة". لكنّ هذه التمييزات على وجاهتها في سياقها هي لا تزال غير متاحة بما هي كذلك في نطاق "المجتمعات" التي تواصل "الجماعة" أو "الملة" بطرق أخرى، وهي التربة الخصبة، حيث تنشأ تجارب "التوحيدي الأخير" بمختلف أنواعه (أكان مسيحيا أو يهوديا أو مسلما). ويمكن الافتراض تقريبا بأنّ كل المجتمعات "الجماعوية" هي من هذا النمط.
من أجل ذلك، فإنّ استراتيجيات التنوير ما بعد الكولونيالية التي عوّلت عليها دول الاستقلال لدينا بغرض إعادة صياغة النمط المجتمعي برمّته حتى يناسب تحدّيات الحداثة في أفقنا الأخلاقي (أي المتعلق بالسؤال عن نموذج العيش الخاص بنا)، - قد انكشف أنّها استراتيجيات غير ملائمة في نهاية المطاف. وذلك لأنّ التعويل الأداتي على التنوير "الحداثي" للإفلات من ثقل "الجماعة" الروحية على "المجتمع" المدني الحديث الذي تعمل عليه هذه الأجيال، قد كان موقفا مبنيّا على فرضية أنّ نقد التراث أو نقد الدين، من حيث هو عملية جراحية، وضعية أو تاريخية أو تأويلية، ضدّ جزء مريض من الجسد الثقافي يمكن التخلّص منه وإعادته إلى العصور قبل الحديثة، موطنه الأصلي الغريب عن الأزمنة الحديثة، - هو شرط إمكان "التحديث" الأخلاقي الوحيد الكفيل باختراع "الفرد" الذي يملك فرصة واسعة عندئذ للنجاح في أن يكون "مواطنا"، وبالتالي في اختبار "الحياة الخاصة" حسب برنامج الدولة اللبرالية الحديثة. والحال أنّ اختراع الفرد/المواطن لم يكن هدف دولة الاستقلال إلاّ عرضا. إنّ مقولة "الاستقلال" نفسها، وهي جزء لا يتجزّأ من تصوّر أيّة خصوصية أو حياة خاصة، كانت استعارة دبلوماسية فحسب، صالحة لفضّ السجالات الهووية، وليس طرح معارك المواطنة طرحا جذريا.
إنّ تنصيب حياة خاصة في فضاء دولة الاستقلال الهووية هو خطر أخلاقي عليها لم يكن يمكنها تحمّله
إنّ تنصيب حياة خاصة في فضاء دولة الاستقلال الهووية هو خطر أخلاقي عليها لم يكن يمكنها تحمّله. لم يكن يمكن تحرّر الدولة والإنسان في نفس الوقت. ولذلك تمّ الفصل بين معركة هووية يدّعي فيها شعب ما أنّه يتمتّع بالحق في الاستقلال عن الشعوب أو الدول الأخرى، وهذا على جلالته كان عملا ما بعد-كولوناليّ هيّنا، وبين معركة الخصوصية التي يقوم بها الفرد الحرّ الذي يعلن استقلاله الأخلاقي على معايير الجماعة الروحية التي تتحكّم في حياة المجتمع بشكل غير منظور. وهذه معركة أخلاقية تمّ تأجيلها في كل مرة. إذ لم يكن في أهداف دولة الاستقلال تحرير الأفراد من تاريخ أنفسهم العميقة، بل فقط بناء الشروط السياسية ما بعد الكولونيالية لوجودهم التاريخي. ولذلك، كانوا يعيشون في عالمين متوازيين: عالم "قانوني" من صنع الدولة، ولا يهمّ إلاّ التنظيم الإجرائي لاستعمال الأجساد في الفضاء العمومي؛ يقابله بشكل غير مرئيّ عالم "أخلاقي" موروث مفروض ومحروس بواسطة أجهزة معيارية تعمل وفق أفعال إنجازية خارج مجال النقاش أو المراجعة، لأنّها مفروضة كجزء لا يتجزّأ من دائرة "المقّدسات"؛ أي من المحرّمات التي تستمدّ منها لعبة الهوية بنيتها العميقة. وعلى خلاف ما يرجوه الأفراد، فإنّ الدولة لا تتردد في استدعاء ذلك العالم "الأخلاقي" غير المنظور واستغلاله "سياسيّا" ضد المتمردين على سلطتها بوصفها مشكلا هوويا، وليس قانونيا فقط.
وهكذا يبدو أنّ مجرّد تطبيق التمييز بين "حياة خاصة" و"حياة عامة" هو غير مناسب ولا ناجع في مجتمعات، كل شيء يؤكّد أنّها تواصل الجماعة أو الملة بطرق أخرى، صراحة أو تقيّة. وتكمن نكتة الإشكال في أنّ هذا التمييز الحديث قد انبنى في مفردات الحداثة السياسية على "استقلال" دوائر الأخلاق والقانون والفن والدين عن بعضها البعض منهجيّا ومعياريّا هو في الأغلب الأعمّ الأساس الخفيّ لمسارات "العلمنة" في المجتمعات الغربية. وهذا ما يجعل العلمنة ظاهرة لا يمكن استيرادها. و"العمومي" ليس ممكن التصوّر إلاّ بقدر خروج الأخلاق منه. لا يمكن تصوّر فضاء عمومي أخلاقي؛ أي يمارس وصاية معيارية على الأفراد والمجموعات باسم مؤسسة معنى متعالية على حقوقهم أو عقولهم أو أذواقهم الطبيعية. وذلك أنّ المجتمعات "الحديثة" لم تفصل بين العمومي والخصوصي إلاّ على أساس الفصل المنهجي ببين القانوني والأخلاقي. إنّ الفضاء العمومي هو دائرة القانون بوصفه مساحة إجرائيّة، حيث يمكن "دسترة" ما هو "عادل" بما هو كذلك؛ أي بلا أيّ محتوى أخلاقي قد يخفي هذا التوقيع الهووي أو ذاك. وفي المقابل، فإنّ الحياة الخاصة" هي دائرة أخلاقية لتدبير تصوّر معيّن لنموذج العيش في ضوء فكرة تأسيسية عن "الخير" يؤمن بها نوع من الناس، ويبنون عليها هواجسهم الهووية.
ولأننا نعيش في "مجتمعات" تواصل "الجماعة" بوسائل أخرى، نعني في نموذج "المجتمع- الأمة"، ولا تمتلك تقاليد صارمة في الفصل بين القانوني والأخلاقي - وبمصطلح الفقه بين الأمر "الشرعي" والأمر "الخلقي" - فإنّها لا يمكن أن تقبل بالفصل الإجرائي بين الفضاء العمومي والحياة الخاصة؛ أي بين دائرة "العادل" ودائرة "الخير"، سواء في علاقتنا بــ "أنفسنا" (المخلوقة) أو بــ "الآخرين" (الهوويين). إنّ مفهوم "النفس" مثل مفهوم "الآخر" هما مفردتان غير مستقرّتين في أفق الفهم الذي مازلنا نعوّل عليه. فطالما نعتقد أنّ "النفس" مخلوقة؛ أي إعارة أخلاقية من خالق متعالٍ، وليست مساحة "ذاتية" خاصة بنا، فإنّنا لن نستطيع سلفا أن نقرّ بوجود "حياة خاصة" تخرج عن ضوابط "الجماعة" الني ننتمي إليها بوصفها "أمّة"؛ أي ملكية أخلاقية لصاحب "الشريعة" أكان رسولا أو إلها. كذلك: طالما نحن نعتقد أنّ "الآخر" هو بالضرورة توقيع هووي؛ أي ينتمي بالضرورة إلى "ملة" بعينها انتماءً هو المحتوى الأخلاقي لذاته، ولا ضرّ إن كان من ملّتنا أو من "ملّة" أخرى، وليس وعيا آخر بالذات يساوينا مساواة معيارية غير قابلة للتفاوض، - فإنّنا لا نستطيع أيضا أن نعترف له بأيّة "حياة خاصة" أكثر من حق الانتماء الجماعوي إلى طائفته. إنّ خطاب الهوية عن "الآخر" هو أكثر أطر النقاش حول "الحياة الخاصة" هشاشة. كما أنّ "آخريّتنا" هي لا تزال غير شخصيّة، بل هي تابعة لمستوى صارم من التصنيف الجماعويّ الذي لا نتردد في استدعائه عند الحاجة إلى بناء خطاب المجتمع عن نفسه في الفضاء العمومي.
وبعبارة جامعة، فإنّ "الحياة الخاصة" ما تزال لدينا ادّعاء أخلاقيّا أو هوويّا من الصعب الإيفاء به دون مراجعة عميقة لمفردات أنفسنا. وإنّ وجه الصعوبة هنا هو أنّ "الجماعة الشرعية" (جماعة النفوس المخلوقة) التي يُفترض أنّها يجب أن تختفي من الواجهة كي تترك المجال أمام تكوّن "المجتمع المدني" (مجتمع المواطنين) كي يشكّل مفرداته "العمومية"، - هي جماعة لا تزال ناشطة خارج حدودها التاريخية، ولا تتردد أبدا في الاستيلاء المعياري على نقاشات الفضاء العمومي "العلماني" حول نفسه. والنتيجة العنيفة هي الزجّ بمفردات "الحياة الخاصة" (للشخص) في جدالات "الحياة العامة" (للمواطن) دون الشعور بأيّ حرج معياري يُذكر. ورغم أنّ مفهوم "الشخص" متداول في كتب الفقهاء مثلا فإنّه غالبا ما يتمّ التعتيم على حقوقه الطبيعية وتعويضه بمفهوم "العبد" الذي هو مساحة دلالية مريحة لتطبيقة الاستبداد؛ أي خطة الابتزاز السياسي للمؤمنين باسم الملّة التي ينتمون إليها. وبدلا من طرح السؤال عن "حقوق البشر" لا يتكلم الفقه إلاّ عن "حقوق العباد". والحال أنّ "العبد" ليس له حياة خاصة.
ومن ثمّ ما يزال من الصعب تماما القبول بفكرة أنّ التصوّرات الأخلاقية عن "الخير" أو "الله" أو "الحقيقة"...إلخ. هي أفعال أخلاقية تنتمي إلى معجم "الحياة الخاصة"، ولم يعد لها أيّ مكان في نقاشات "الفضاء العمومي" حول المواطنة أو المصلحة المشتركة. لا يزال الفصل بين الحوافز الجماعويّة حول الهوية أو الانتماء، وبين المواقف المدنية تجاه حقوق المواطنة أو المشاركة السياسية، مطلبا معياريّا مشوّشا. والحال أنّ ما نجحت الحداثة السياسية في تحقيقه إنّما هو استقلال السياسة عن الحقيقة. وذلك عندما اقتنعت المجتمعات الحديثة بأنّ المجال الذي يكون فيه المرء "مواطنا" هو الفضاء العمومي، ومن ثمّ بضرورة حصر مسائل الإيمان أو تصوّرات الخير أو نماذج العيش في دائرة ما هو "خاص" (دون أن يكون شخصيّا بالضرورة؛ فالجماعويّ مثل مصادر أنفسنا، كالمعتقد أو اللغة أو الجنس، يمكن أن يكون خاصا)، نعني في المجال الوحيد حيث يمكن "للشخص" أن يكون "فردا"؛ فقد كان المؤمن "شخصا" لكنّه لم يكن يُسمح له بأن يكون "فردا" أو أن يمارس "فرديته".
إنّ الرهان هو أنّه لا معنى لأنْ يخوض "المواطن" الدستوري في أيّ نقاش أخلاقي حول الإيمان أو الخير أو الله، إلخ...فهذه مسائل لا يمكن أن تؤدّي إلاّ إلى مواصلة "الحياة الخاصة" خارج حدودها المعيارية. ومن ثمّ تهديد صلاحية الفضاء العمومي باستدعاء مفردات أو قيم غريبة عنه. وفي المقابل، فإنّ "الشخص" الأخلاقي لا يحقّ له أن يخوض نقاشا "عموميا"؛ أي قانونيا أو دستوريا حول تصوّرات الخير أو ماهية الله أو معنى الحقيقة... سوف يكون ذلك بمثابة مواصلة "الفضاء العمومي" خارج صلاحيته. لا يحق لأيّة دولة أن تناقش الأدلة على وجود الله أو طبيعة الأمر الخلقي أو أساس القلق الوجودي. وحده "الفرد" يمكنه أن يهتمّ بنموذج العيش الذي يرتضيه لنفسه كملكية أخلاقية غير قابلة للتفاوض مع أحد. - ولكن كيف يمكن كسب هذا الرهان؟
لا يمكن طرح مسألة "الخصوصية" إلاّ في ظل ثقافة تقبل بالتمييز بين "مواطن" يشارك في فضاء عمومي و"فرد" يعيش في دائرة "حياة خاصة" شخصية، وهو تمييز ما يزال صعبا وغير مستقرّ، نعني لم يتحوّل إلى مسلمّة أخلاقية "مجتمعية". وهذا سوف يستمر في تهديد وجودنا المعاصر طالما أنّ "المجتمع" المدني لا يتردد في استدعاء "الجماعة" الشرعية ومواصلتها بطرق أخرى. ومن ثمّ لا يبصر أو لا يعترف بالتمييز الحاسم بين "الفرد" (أساس فكرة الحياة الخاصة) و"المواطن" (أساس فكرة الفضاء العمومي). أمّا في غياب المقولتين (وتعويضهما بمصطلحي ""العبد" و"الرعية")، فإنّ "الجماعة" تكون قد ابتلعت "المجتمع"، ولن يعود هناك نقاش عن "الحياة الخاصة"، بل عن سيرة العبد وحدود التكليف، ولا نقاشٌ عن الفضاء العمومي، بل فقط فتاوٍ فقهية حول دائرة الملّة.
إنّ خطّة التنوير التي اعتُمدت إلى حدّ الآن قد صادرت على أنّ مكمن الإشكال هو أنّ تراثنا برمّته، من جماعة المؤمنين الأولى إلى عصبيّة ابن خلدون، هو العائق التأويلي والأخلاقي الذي يحول دون إرساء التمييز المدني الحديث بين الحياة الخاصة والفضاء العمومي. والحال أنّ هذه المصادرة غير سليمة وغير ناجعة؛ وذلك أنّ لدينا تكذيبا تاريخيا ملموسا لهذا الافتراض. ونعني بالتحديد تجربة "المسلمين" المهاجرين، أولئك الذي يعيشون في المجتمعات الغربية بوصفهم "مواطنين" جيّدين؛ أي نجحوا في أن يميّزوا بين "المؤمن" و"المواطن" دون تعريض وجودهم الشخصي أو حياتهم العامة إلى خطر الانهيار؛ ذلك يعني أنّ "المسلم" الغربي هو حالة نموذجية عن إمكانية النجاح في الانتقال المعياري السلمي من منزلة "الرعية" الجماعوية إلى منزلة "المواطنة" المجتمعية دون الوقوع في مفارقة أخلاقية. لقد قبل هذا المسلم "الغربي" (الأوروبي أو الأمريكي، إلخ...) بأن يتحوّل إلى "فرد" في "حياته الخاصة" وإلى "مواطن" في "حياته العامة" دون أيّ انفجار داخلي لهويته أو تهديد هووي لأيّ كيان "آخر" يشاركه الانتماء. إنّه من الممكن جدّا إذن أن ينشأ "لدينا" (فنحن لسنا استثناء بأيّ معنى) "فرد" قادر على قبول ظاهرة الخصوصية، حيث يحق لأيّ شخص تطوير تصوّراته الخاصة عن الخير أو عن الله أو عن الحقيقة أو عن الجنس، ...؛ وأن ينشأ لدينا "مواطن" قادر على المشاركة في الحياة العامة، حيث يحق لكل مشارك له في المجتمع المدني أن يختار طريقة التعبير المناسبة عن آرائه بكل حرية.
وعلينا أن نسأل: ماذا فعل المسلم الأوروبي أو الغربي بعامة، كي ينجح في تبنّي مقولة "الفرد" في الحياة الخاصة ومفهوم "المواطن" في الحياة العامة، وذلك دون أن يرى في تجربته خطرا هوويّا على معتقده، ولا أن يهدّد السلم المدني بأن يفرض على الآخر محتوى عقديّا غريبا عنه؟ ثمّ خاصة: لماذا يفشل زميله الجماعويّ الذي يعيش في بلداننا؟ هذا الذي حوّل حراسة الدين إلى وظيفة هووية رسمية لا يتردد في قتل الناس باسمها. هل يمكن القول إنّ المشكل حسب عبارة جون رولز يتعلق بمدى قدرتنا على التمييز بين "مجتمعات جيدة التنظيم" و"مجتمعات سيئة التنظيم"؟ ربما كان هذا التمييز نفسه مجرد حكم مسبق كولونيالي، أم هو الخوف الهووي الذي لا يفكّر؟
ولكن من هو المعرَّض إلى خطر الانقراض الثقافي أو الأخلاقي: المسلم الغربي أم المسلم الشرقي؟ ربما كان أصل الصعوبة هو في طريقة احتمال النموذجين لتسارع الحداثة بوصفها تحدّيا "مدنيّا" بالدرجة الأولى؛ أي تتعلق أوّلا بمدى قدرة أية ثقافة على تطوير تقنيات التعايش مع الآخرين على أساس "المواطنة" القانونية (التي هي في أصلها اختراع وثني) وليس "الوصاية" الجماعوية (التي هي في نواتها معتقد ديني). وبعبارة جامعة، أنّه لا شيء يمنع المسلم "غير الغربي" من النجاح في اختبار المواطنة في الحياة العامة أو اختبار "الفردية" في الحياة الخاصة. ومن المفيد أن ندرس ما فعله المسلم الغربي باعتباره إثراءً معياريّا حرّا لتجارب الذات لدينا، نعني استعمال حياته الخاصة بوصفها ثروة أخلاقية يمكن الاستفادة منها على مستوى ترسيخ فكرة المواطنة في الحياة العامة، ومن ثمّ تأكيد مقولة الفرد في الحياة الخاصة.
وذلك يعني بالتحديد أنّ إعادة مسائل حسّاسة مثل نموذج العيش أو تصوّرات الخير أو قضايا الإيمان أو هواجس الهوية...إلى دائرة الحياة الخاصة واعتبارها مسائل شخصية وليست عمومية، - هو ليس خوفا هوويّا أو فشلا معياريّا أو تراجعا روحيّا، بل فقط طريقة صحّية في تحويل مفردات الحياة الخاصة إلى استعمال حيوي لما سمّاه تايلور "مصادر الذات"، وهي مصادر لا يمكن استعمالها إلاّ على مستوى شخصي، نعني في نطاق بناء الحياة الخاصة بوصفها مجالا خطيرا، حيث يجد "الفرد" كل مساحة الكرامة التي يريد أن يتمتع بها بكل أصالة. إنّ الحياة الخاصة هي مجال الأصالة الخاصة بكل "شخص" بشري بوصفه "فردا" أخلاقيا لا يحق لأيّة سلطة أن تتلصّص على استعمالاته الخاصة لنفسه أو جسده أو مشاعره أو تصوّره لمن يكون.
وإنّ فحصا سريعا لمعاجم العرب سوف يذهلنا بوفرة مادة "خصص" في العربية ووفرة المصطلحات التي تمّ نحتها من هذه المادة اللغوية في النحو والفقه والسياسة، إلخ... وبالتالي من المشروع جدّا أن نتساءل: لماذا توفّر العرب على جلّ معاني "الخصوصية" لكنّهم لم يطوّروا مقولة "الحياة الخاصة"؟ - من الطريف أن نلاحظ أنّ العرب قد مالوا دوما إلى فهم "الخاص" في معنى "السرّي" كما فهموا "العمومي" في معنى "العلانية". وهم بوجه من الوجوه قد عرفوا واقعة التمييز بين "السرّ" (وهو مجال الحياة الخاصة عندهم) و"العلن" (وهو مجال الحياة العامة لديهم). وهذا يعني أنّ الأمر لا يتعلق بالمصطلحات بقدر ما يرجع إلى نواة إشكالية أكثر خطرا. كان الفقهاء على بيّنة من معنى "الحياة العامة" ومن مشكل "التخصيص" ومن الفصل بين "العام" و"الخاص" و"الخصوص" و"العموم" و"الملك الخاص" والملك العام...ومع ذلك لم يكن يدور في خلدهم أنّ ثمة دائرة تتنزل فيها "الحياة الخاصة" لا يمكن أو لا يحق للأحكام الفقهية أن تطولها، وأن تتسلل إليها وأن تشتمل عليها. وعلى الرغم من أنّ المتن القرآني ومدونة الحديث لا يخلوان من تنبيهات على حقوق العباد في "السرية"؛ أي الحق في مساحة حرمة شخصية (البيت، الغائط، الخلوة، الاعتكاف، ...) حيث يمكن للعبد أن يستعمل جسده بمنأى عن أنظار المتلصصين أو الأغراب، - فإنّ تلك المساحة "السرية" لا تزال بعيدة عن مفهوم "الحياة الخاصة". إنّ السرّي في معجم الملة هو علاقة بالمكان وليس بالذات. ما هو سرّي هو ما لا يحق للغير أن يراه أو يتلصص عليه أو يشارك فيه. لكنّه لا يمكن ولا يحق له أن يشكّل حياة "خاصة"؛ أي نابعة من حق طبيعي في تشكيل الذات بحريّة. وكما أنّ "الحياة العامة" في أفق دولة الملة هي لا تشكّل "فضاء عموميا"، حيث يمارس "المواطنون" نقاشاتهم حول الشأن العام، فإنّ "الخصوصية" في معجم الدين لا تتعلق بحق فردي في الحياة الخاصة. إنّ "العام" الفقهي يتعلق بما هو "علني" متاح للآخرين وليس بما هو "عمومي" للمواطنين. كذلك فإنّ "السرّي" الفقهي يتعلق بما هو "محرّم" على الآخرين وليس بما هو "خاص" بالأفراد. إنّ السريّ لا يتطابق مع الخاص إلاّ عرضا.
الهوية ليست حياة خاصة، بل هي خلفية انتماء عميق تحتاجه الجماعات حين يتعين الدفاع عن نفسها
وعلينا أن نسأل: كيف يجدر بنا أن نفهم الرابط التأويلي بين تقاليد معياريّة (الدين تقليد معياري) مهووسة بمعنى "الملكية الخاصة" وغياب لافت لمقولة "الحياة الخاصة"؟ - يوجد الفقه لدينا في منطقة مثيرة وقلقة تجمع بقوة بين حقوق العباد وغياب الأفراد، بين حقوق الملكية وغياب الحياة الخاصة، دون استشكال لهذا الأمر. كل مساحة الحياة الخاصة هي تقريبا تقع في دائرة الشبهات. ولذلك لا مخرج من الشبهات إلاّ باستغراق أحكام الحياة العامة، ومن ثمّ إلغاء مفهوم "الفرد" واعتناق صفة "العبد". أيّ استعمال "خاص" للجسد يجب أن يكون سلفا في تطابق أو لا يتعارض مع استعماله الشرعي. ومن ثمّ، فإنّ مساحة "الخاص" سوف تنكمش في نطاق ما هو "سرّي"، ليس بوصفه "خاصا"، بل بوصفه "حرمة" شخصية ممنوعة على ولوج الغير.
فلسفيّا، يمكننا أن نجازف بهكذا افتراض: إنّ الفاصل بين حيّز "الملكية الخاصة" ومقام "الحياة الخاصة" هو الخيط الرفيع بين "أن نملك" و"أن نكون" - إنّه الفرق بين مقولة "له" وبين جنس الموجودات أي "الكينونة". وما كان يعتمده المسلمون هو أنّ الملكيّة الخاصة تقع خارج ذات أنفسنا، وهي بمثابة مساحة العالم، حيث نلتقي بالآخرين ونتفاوض حول الحدود معهم. أمّا "الحياة الخاصة"، فهي في صلة جوهرية بمن أو بما "نكون" عليه بالنسبة إلى أنفسنا العميقة أو ماهيتنا. وبهذا المعنى، فإنّ الحياة الخاصة تقع في مساحة لا يمكن التفاوض حولها أو "التجارة" فيها، لأنّها تتعلق بنمط كينونتنا في العالم. ومنطقة "الكينونة" هي منطقة خطيرة جدّا، وهي ليست "ملكا لأحد"، بل هي راجعة بالنظر إلى الهيئة الأخلاقية التي أوكِل إليها رسم سياسة الحقيقة بالنسبة إلى "الجماعة" التي ننتمي إليها، ونعتبرها "مذهبنا" في الحياة أو "ملتنا". والنتيجة المزعجة هنا هي: أنّ الحياة الخاصة ليست ملكا فرديا. ما يفعله المؤمنون بأجسادهم ليس شأنا خاصا بهم. إنّ جسد المؤمن "أمانة" فقهية نحن مسؤولون عنها، مثلما أنّ "النفس" هي "روح"؛ أي "إعارة" مخلوقة فينا لأجل معلوم. وفجأة يبدو أنّ الحياة الخاصة هي بالنسبة إلى المؤمن تعبير مجازي أو استعارة أخلاقية لا يمكن تحمّل عواقبها. وذلك أنّها لا تعدو أن تكون مجموعة من الشبهات التي يجدر به درؤها.
هذا الاسترداد لمنطقة "الكينونة" من إرادة "الأفراد"، وجعلها تحت سلطة "الجماعة" المؤسِّسة، لابدّ أنّه كان بمثابة خسارة أنطولوجية أو ضريبة أخلاقية يبدو أنّ الفقه قد عمل على تعويضها بواسطة سنّ "حقوق" من نوع "شخصي" ولكن "غير فردي"، ألا وهي حقوق "الملكية الخاصة". لقد تم ما يشبه المقايضة المعيارية بين الملكية "الأنطولوجية" والملكية "الاقتصادية"، بين "الحياة الخاصة" و"الملكية الخاصة"، بين "أن نكون" و"أن نملك". يبدو الحق الشرعي في الملكية الخاصة بمثابة تغطية معيارية على كلّ أنواع الحقوق البشرية التي مصادرتها، باعتبارها حقوقا "غير شرعية"؛ أي تتصادم فيها "حقوق العباد" مع "حقوق الله" على نحو يؤدي إلى انهيار الملة.
يبدو أنّ كل خطة "الملة" - أي شكل الحياة الشرعية داخل الجماعة - هي تقوم على مقايضة صريحة ببين "الكينونة" و"الِملك": أن نترك منطقة "الكينونة" خارج إرادتنا، وأن نأخذ مقابل ذلك ميدان "المِلك"، باعتباره المجال الوحيد لتحقيق "ذواتنا". وبهذا تحضر الملكية الخاصة بوصفها تعويضا بنيويّا عن مصادرة الحياة الخاصة وحصرها في ميدان "السر" بمعزل عن مجال "العلانية" الذي هو مجال السلطة التي تفرضها الجماعة بوصفه أفق المعنى الوحيد للأشخاص.
إنّ مواصلة "المجتمع" المسلم للتقاليد الأخلاقية التي فرضتها "الجماعة" الشرعية من خلال الاستمرار في اعتماد "الملة" بوصفها ذاكرة إجباريّة للأجيال هو ليس موقفا هوويّا بريئا، نعني قد يكون نابعا من آداب "الأصالة" التي تحتاجها كل حياة إنسانية. وذلك أنّ الحرص على مواصلة الخلط بين الهوية "الجماعوية" والهوية "الشخصية" هو خطة معيارية مؤسّسة وليس ظاهرة عرضية. وما يتمّ تأسيسه هنا هو تمكين الجماعة المفترضة من الاستيلاء على الميدان الحميم الذي يشكّل فيه الأشخاص "فرديتهم"، بل ومنعهم من ذلك باسم "هوية" ليس فقط تتجاوز أفق فهمهم لأنفسهم الحالية، بل تؤسس "كينونتهم" بوصفه "ملكية" على نحو متعال باسم ثالوث الأب/الملك/ الإله التوحيدية. وهنا فقط يؤدي مفهوم "الحق في الملكية" دورا تعويضيا حاسما: كل مساحة تحقيق "الذات" المتاحة للمؤمن في أفق الملة هي محصورة في مجال الملكية الخاصة. وذلك في مقابل التخلي الطوعي أو القسري على منطقة الكينونة أو الحياة الخاصة بوصفها منطقة مصادَرة باسم سلطة متعالية مهما كانت طبيعتها.
وكل طرح لمسألة الحياة الخاصة بناءً على ثوابت الهوية هي التي ستكون نزاعات تأويلية مخاتلة، لأنها تحتاج دوما إلى مواصلة الخلط بين هوية الجماعة وهوية الشخص. ومن الطريف أن الفقه الذي طوّر مقولة "الشخص" واعتمدها أساسا وجوديا ضروريا لبناء منظومة "حقوق الملكية" ("حقوق العباد" في مقابل "حقوق الله")، هو نفسه الفقه الذي تحاشى مقولة "الفرد" بطرق مثيرة. وقارئ مدوّنات الفقهاء يلاحظ تحاشي مفهوم "الأفراد" التي ترد في بعض السياقات مقرونة بمعنى "الشواذ"، وذلك تقريبا في نبرة مشابهة لذكر مقولة "الآحاد" في مدونة الحديث. كل الخطة في السياقين - تحاضي "الفرد" في الفقه وتحاشي الراوي "الواحد" في الحديث - تكمن في السيطرة على الاستعمال "الخاص" للحقيقة. لقد تمّ دوما التعامل مع "الفرد" و"الواحد" بوصفه تهديدا رمزيا لسلطة الجماعة. ويبدو هنا أنّه لا يمكن تأسيس "الحياة الخاصة" على مقولة "الهوية" طالما يتواصل الالتباس بين ما هو "شخصي" وما هو "جماعي" في معنى الهوية نفسها. فالهوية على الأغلب لا علاقة لها بالحياة الخاصة. الهوية ليست حياة خاصة، بل هي خلفية انتماء عميق تحتاجه الجماعات حين يتعين الدفاع عن نفسها. وعلينا أن نحذر من الخلط بين ما هو "خاص" وما هو "هووي". إنّ "الحياة الدينية" هي ليست "حياة خاصة" ولا ينبغي لها، إذ لا معنى لحياة دينية بلا جماعة. - وبهذا المعنى، لم يعد بديهيّا أبدا أن ننتمي إلى "أنفسنا" كما وجدناها، أو إلى أيّ شكل من "الجماعة" التي لا نشارك بقدر ما في تشكيل هويتها.
عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود