الأساس هو «لا إكراه فى الدين» و«وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا» وليس «فاقتلوهم حيث ثقفتموهم»
رجال الدين الذين يجهلون الكثير من العلوم والمعارف يعادون المفكرين والمتصوفة
أنجزت عددًا كبيرًا من المؤلفات لأننى لم أسمع بيوم الجمعة ولا الأعياد والعطلات الرسمية
يعتقد الكاتب والمفكر والباحث فى الميثولوجيا «علم الأساطير» وتاريخ الأديان، السورى فراس السواح، بضرورة تحكيم العقل وترجيحه على النقل عن السلف، فالعقل هو الرئيس والمرشد والهادى للفضلاء من خلق الله، مشيرًا إلى أن «الكمال يحصل إذا تم الجمع بين الشريعة الإسلامية والفلسفة، لأن القرآن قد عقد صلة بين النبوة والحكمة عندما قال: (وآتيناه الكتاب والحكمة)».
ويؤمن أستاذ الدراسات الأجنبية بجامعة بكين، المختص بتدريس الحضارة العربية وتاريخ الأديان فى الشرق الأدنى، كما يقول فى حواره مع «الدستور»، بأن تجرؤ العقول على نقد أو إعادة النظر فى النصوص الدينية، أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، ويحتاج لسنوات طويلة، معتبرًا أن الفلاسفة أو الحكماء هم أقدر البشر على القيام بهذه المهمة، لأنهم الورثة الحقيقيون للأنبياء.
عن النصوص الدينية وكيفية التعامل معها وهى القضية التى تمثل لب تجديد الخطاب الدينى، والقول بصلاحية التعاليم الدينية لكل زمان ومكان، وغيرها من القضايا، كان هذا الحوار مع فراس السواح.
■ فى كتابك «طريق إخوان الصفاء»، هدفت إلى الكشف عن الجمود الذى أصاب الفكر الإسلامى، فهل وجدت إجابة لهذا السؤال؟
- لقد كان «إخوان الصفا» ظاهرة تجديدية فى الفكر الإسلامى فى عصرهم، أثروا بحق تاريخ الفكر فى القرن الثالث الهجرى والعاشر الميلادى، فقد قادهم التأويل إلى إنكار ما درج عليه التفسير التقليدى من الفهم الحرفى لكثير من الآيات القرآنية، ومنها تلك التى تصف عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة. وقالوا إنه لا يليق بالعقلاء أن يعتقدوا فى التفسير الحرفى للنصوص.
كما قالوا بتعدد مستويات فهم النص الدينى، لأن الأنبياء فى خطابهم للناس يستعملون ألفاظًا مشتركة المعانى يفهم منها كل إنسان بحسب ما يحتمل عقله، لأن المستمعين لأقوال الأنبياء متفاوتون فى درجات عقولهم، فمنهم عام ومنهم خاص، ومنهم بين هذا وذاك. فالعامة يفهمون من تلك الألفاظ معانى، والخاصة يفهمون معانى أخرى أدق وألطف، وفى ذلك صلاح للجميع.
وكان لهم موقف من فهم النص القرآنى يتفق مع موقف «المعتزلة»، يقوم على تحكيم العقل وترجيحه على النقل عن السلف. فالعقل عندهم هو الرئيس والمرشد والهادى للفضلاء من خلق الله، وهذا ما جعلهم يعلون من شأن الفلسفة ويضعون الفلاسفة فى مرتبة تلى مرتبة الأنبياء. فالأنبياء كما يقولون هم سفراء الله بينه وبين خلقه، فإذا مضى الأنبياء لسبيلهم، خلفهم الحكماء وقاموا مقامهم فيما كانوا يفعلون ويقولون. فمن قبل من الحكماء ما قالوه وعمل بما أمروا به، فهو على طريق النجاة والفوز.
■ هل يعنى ذلك أن الفلاسفة هم أقدر على فهم وتفسير النص الدينى من رجال الدين؟
- نعم، كان ذلك هو اعتقاد «إخوان الصفا»، ومؤدى قولهم بأن الحكماء هم ورثة الأنبياء، لا سيما أن الفيلسوف فى ذلك الزمن كان مستودع معرفة، ضليع فى علوم عصره من رياضيات وفلك وطب وغيرها من المعارف والعلوم.
أما رجال الدين فقد كانوا على جهل بكل علم آخر عدا علوم الدين. وبما أن الإنسان عدو ما يجهل، فقد عادى علماء الدين الفلاسفة والمفكرين والمتصوفين، وحـرَّموا على أنفسهم كل علم آخر، لأن لديهم فى كتاب الله ما يكفيهم. أما «إخوان الصفا» فقد رأوا أن الكمال يحصل إذا تم الجمع بين الشريعة الإسلامية والفلسفة، لأن القرآن قد عقد صلة بين النبوة والحكمة عندما قال: «ويعلمه الكتاب والحكمة»، وما فى معناه عن أكثر من نبى. وقال: «ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا». وأعتقد أن من أوتى الحكمة والخير الكثير بسببها، هو الأقدر على تفسير النص الدينى.
■ ماذا عن موقف المعتزلة من الفلسفة؟
- لقد كان المعتزلة فلاسفة دون أن يعلنوا ذلك، لأنهم اتبعوا الأساليب الفلسفية فى البرهان على آرائهم وعلى رأسها علم المنطق. كما أنهم وضعوا العقل فى مرتبة أعلى من النقل، واعتمدوا عليه فى تمييز الأحاديث الصحيحة، بصرف النظر عن المعايير الشكلية التى وضعها علماء الحديث فى التمييز، ونقدوا الكثير مما ورد فى صحيح البخارى وصحيح مسلم وأخرجوه من الأحاديث الصحيحة.
■ لكن الفلسفة لم يكن لديها بالمقابل موقف عدائى من الدين، أليس كذلك؟
- منذ الكندى الذى أسس للفلسفة الإسلامية فى عصر المأمون إلى ابن رشد الأندلسى، كان الفلاسفة معنيين بالتوفيق بين الفلسفة والدين. ولكن علماء الدين بقوا على عدائهم للفلسفة وتكفيرهم للفلاسفة، لا نستثنى من ذلك عقلًا جبارًا مثل أبوحامد الغزالى الذى هاجم ابن رشد وفلسفته فى كتابه المعروف «تهافت الفلاسفة»، فرد عليه ابن رشد فى كتابه «تهافت التهافت».
■ إذن تقول بسلطة العقل مع «إخوان الصفاء» والمعتزلة والفلاسفة. وسؤالى الآن: ماذا تفعل سلطة العقل فى مقابل سلطة النص الدينى؟
- لا سلطة للنص الدينى خارج سلطة العقل الذى يفهمه، ولدينا شواهد على ذلك من تاريخ الدين. فالنص المقدس للزرادشتية مثلًا كان مجموعة من الأناشيد الدينية المعروفة باسم أناشيد «الغاثا»، التى نظمها زرادشت نفسه لشرح عقيدته. وبعد أن باعد الزمن بين الناس وبينه، وجد الكهنة أن تلك الأناشيد صارت بحاجة إلى شروحات وتفاسير، فظهرت مجموعة شروحات «الأفيستا الصغرى»، وبعدها بمدة ظهرت مجموعة «الأفيستا الكبرى»، وأخيرًا «الزندأفيستا»، وذلك خلال ألف سنة من عمر الزرادشتية. أى أن سلطة كلام زرادشت الأصلى قد أفسحت مكانها بالتدريج لسلطة التفسير أو العقل المفسر. ونستطيع إيراد أمثلة مشابهة من البوذية والمسيحية وغيرهما، ولكن الحديث عندها سوف يطول.
■ تقول فى مقدمة كتاب إخوان الصفاء إن النص المقدس بطبيعته نص إشكالى، ثم تورد بعد ذلك عددًا من الأسباب المؤدية إلى هذه الإشكالية، ومنها أن النص المقدس فى الديانات العالمية يُـفترض أن يكون فوق الزمان والمكان، لأنه يتوجه إلى الإنسان فى كل زمان ومكان. هل أنت مع القائلين بأن النص المقدس يصلح لكل زمان ومكان؟
- إن النص المقدس إذا كان من أصل إلهى يصلح لكل زمان ومكان، وهذه نقطة دقيقة بحاجة إلى توضيح. فصلاحية النص لكل زمان ومكان، تعنى أنه رسالة لا زمانية تتـفتح عبر مراحل الزمن من خلال التطور المعرفى للإنسان والمساحة المعرفية المتاحة لكل مرحلة، فكلما ازدادت المساحة المعرفية، فهمنا مستويات للنص لم تكن ممكنة فى المرحلة السابقة.
فما كان يعرفه الناس فى عصر الخلفاء الراشدين أو عصر الدولة الأموية لا يقارن بما توصلوا إليه فى العصر العباسى. الأول عصر انفجار المعرفة، عندما قاس علماء بيت الحكمة محيط الأرض ووضعوا خارطة جديدة للعالم بأكمله. إن أحد أسباب إشكالية النص المقدس احتواؤه على معانٍ قريبة مباشرة وأخرى بعيدة، أو معانٍ ظاهرة وأخرى باطنة، الأولى نتوصل إليها بعملية التفسير، والثانية بعملية التأويل التى تعتمد على حجم التجربة المعرفية للإنسان التى تقود إلى إدراك عمقه وتعدد مستوياته.
■ فى حفل التكريم الذى أقامته لك الجمعية التاريخية السورية، قال أحد المتكلمين إنك أسهمت فى التنشئة الفكرية لجيل جديد متجرد من الانغلاق الفكرى والتعصب المذهبى. ولكن باعتبار أن ما يحدث اليوم من صراعات يغذيها التطرف الدينى، نتساءل عن مصير تلك التنشئة التى سعيت إليها فى كتاباتك، وسعى غيرك إلى تنشئة معاكسة مهدت للتطرف؟
- عندما انطلقت حركة ما يُـدعى بالربيع العربى فى سوريا، كان عمادها مئات ألوف الشباب على مدى مساحة القطر، وجلّـهم من المتعلمين، ومن ذلك الجيل الذى أشرت إليه فى سؤالك. وعندما أشهر المتطرفون الإسلاميون السلاح، وجلّـهم من غير المتعلمين الذين كانت مطالبهم معاشية بالدرجة الأولى، عاد شباب الربيع إلى بيوتهم.
■ ما تعليقك على الادعاءات التى تقول إنه لا يوجد فرق بين الإسلام كما يفهمه قادة الحركات الإرهابية، والإسلام الحقيقى؟
- لقد حرك النبى لسانه بالقرآن على مدى ٢٢ سنة، خلال فترة عاصفة شهدت توحيد جزيرة العرب والتأسيس للدين الجديد. خلال هذه الفترة كانت الرسائل التى تحملها آيات القرآن على نوعين؛ رسائل عامة ورسائل خاصة لها مناسبات ذات صلة بتأسيس الدين الجديد.
فالآية التى تقول: «لا إكراه فى الدين»، أو التى تقول: «وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا» هى من النوع الأول.
أما الآية التى تقول: «فاقتلوهم حيث ثـقـفـتموهم» فمن النوع الثانى. ولكننا فى قراءتنا لمصحف عثمان الذى رتب السور وفق طولها لا وفق أى معيار منطقى أو تاريخى، قد لا تبين الصلة بين الآية ومناسبتها. وهنا يجب أن نعيد المتشابه من الآيات إلى المحكم.
■ يرى البعض أنك تعاملت بحذر مع نصوص القرآن فى كتاباتك، بينما تعاملت بجرأة أكبر مع التوراة والإنجيل. هل السبب فى ذلك أنك كنت تخشى الصدام مع من يدعون أنهم حراس للشريعة الإسلامية؟
- أولًا: أنا لا أخشى الصدام مع أحد، وعندما أريد أن أقول شيئًا لا أخشى النتائج، ولهذا فقد دخلت المعتقل السياسى ثلاث مرات خلال حياتى.
ثانيًا: أنا ملتزم منذ كتابى الأول بمنهج علمى موضوعى يستبعد المواقف المسبقة وكذلك أحكام القيمة اللاحقة.
ثالثًا: أنا متعاطف مع الدين ومع المتدين الحقيقى الذى يستوعب معنى الآية القائلة: «لكم دينكم ولى دين» ولا يتعصب.
رابعًا: لا تنسَ أننى أول من فتح باب المقارنة بين النص القرآنى وما سبقه من نصوص حضارات الشرق القديم، ونصوص أهل الكتاب، وذلك فى مؤلفى «مغامرة العقل الأولى» الذى صدر قبل أربعين سنة، وألهم جيلًا من الباحثين الذين ساروا على طريقه.
وبعد ذلك بفترة عالجت مسألة التناص بين النص القرآنى والنصين التوراتى والإنجيلى فى كتابين، الأول صدر تحت عنوان «أساطير الأولين» خصصته للمادة التوراتية بعد أن نشرته متفرقًا على موقع مجلة «الأوان»، والثانى بعنوان «الإنجيل برواية القرآن».
■ كنت مقيمًا فى العاصمة الصينية بكين منذ العام ٢٠١٢، وحتى صيف ٢٠١٨ فأى رياح ساقتك إلى هناك، ولماذا الصين بالذات؟
- لطالما كنتُ مولعًا بالثقافة الصينية، وقد تُوّج ولعى هذا بتأليفى كتابًا صدر عام ١٩٨٨ تحت عنوان «التاو تى تشينغ - إنجيل الحكمة التاوية فى الصين»، وهو يضم مقدمة عامة فى الفكر الصينى، وعلى نص الكتاب لمؤلفه الفيلسوف القديم «لاو تسو» بترجمتى عن عدد من المصادر، وعلى شروحاتى المطولة على المتن.
وبعد عدة سنوات زار دمشق المستعرب الصينى، الدكتور شوى تشينغ قوه، واقتنى نسخة من الكتاب، وبعد عودته إلى الصين راسلنى، وانعقدت بيننا أواصر صداقة توطدت بزيارات أخرى قام بها إلى دمشق، وبزيارة لى إلى بكين للمشاركة فى ندوة الحوار الثقافى الصينى العربى التى عقدتها إحدى الجامعات هناك.
وقد تُوجت هذه الصداقة بإنجازنا كتابًا مشتركًا عن التاوية صدر فى بكين بالعربية، مع النص الصينى للتاو تى تشينغ تحت عنوان «لاو تسو» عن دار النشر باللغات الأجنبية فى بكين. وفى صيف عام ٢٠١٢ اتصل بى هاتفيًا، وكان قد عُـيّن عميدًا لكلية الدراسات العربية فى جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، وأخبرنى بوجود مكان شاغر فى الكلية، وطلب منّى أن أتولى هذه المهمة، وبالفعل وافقت، وقضيت ست سنوات فى الصين، وأخطط للعودة إلى سوريا فى العام المقبل، والتقاعد من التدريس الجامعى.
■ ما السر وراء غزارة مؤلفاتك؟
- قبل سفرى إلى بكين قال لى أحدهم، وكان قد شاهد برنامج «قصة نجاح» على الفضائية السورية والذى خصص مُـعدّه معن الصالح حلقتين للحوار معى، إن المحاور لم يسألنى أهم سؤال، وهو: ما سر نجاحى؟ فقلت له: «منذ أن تفرغت للكتابة بشكل كامل قبل ثلاثين سنة، وأنا أعمل ٨ ساعات فى اليوم، و٧ أيام فى الأسبوع، وأربعة أسابيع فى الشهر، و١٢ شهرًا فى السنة. لم أسمع بيوم الجمعة ولا بالأعياد والعطلات الرسمية. ولو أن إنسانًا محدودًا اتبع هذا البرنامج لكانت له قصة نجاح».