قد يبدو للبعض أن موضوع الحفاظ على البيئة أحد القضايا التي اهتم بها الغرب، وأخذناها عنهم، وتعلمناها منهم، لسبب بسيط وهو أن الغرب اهتم بالبيئة بقدر اهمالنا لها، وهذه معلومة ليست حقيقية، فالإنسان في كل مكان أسهم بأعماله الهمجية في تدمير البيئة حتى وصلت إلى درجة تقلص طبقة الأوزون التي تهدد الأرض بالخطر الماحق، وإلا بماذا نفسر تلك المحاولات المحمومة لتلويث البيئة وتدميرها منذ آلاف السنين، ومع جهلنا فيما كان يفعله الإنسان الأول إلا أن هناك مؤشرات يقينية على أن الهنود كانوا أول من استخدموا في حروبهم التي خاضوها قبل الميلاد بألفي عام حواجز كثيفة من الدخان والأبخرة السامة التي تسبب الارتخاء والنعاس كنوع من أنواع الحروب الكيمياوية.
وفي وقت مبكر من تاريخ العالم، وتحديدا قبل الميلاد، استعملت مملكة سونج تشاو الصينية في عصر الممالك المتحاربة، أبخرة الزرنيخ في حروبها، لتسجل هذه الأسرة أول استخدام معروف للبارود في الحروب.
ولم يستخدم قدماء اليونان الغازات السامة إلا في سنة 431 ق.م استخدموها على شكل لهب يطلق بواسطة قاذفات كبيرة (المنجنيق) وكانت على شكل الكبريت والفحم والقطران، وهذا يتعارض مع ما ذهبت إليه موسوعة المعرفة بادعائها أنهم اول من أستخدم الغازات السامة في الحروب.
وهكذا يتضح التاريخ القذر للحروب، وتسببها في تدمير البيئة منذ بدايات الوعي الإنساني، وهو أمر كان على الإنسانية أن تتجاوزه في خلال سيرورتها التاريخية، ولكنه للأسف لم يتوقف بل استمر ينمو ويتطور مع تطور الأمم حضاريا، فمنذ ذلك التاريخ، وصولا إلى القرن العشرين، كانت الحروب أحد أكثر عوامل التأثير السالب على البيئة، ولاسيما بعد أن طوع الإنسان معطيات التحضر ليستخدمها كأدوات للتدمير الممنهج الشامل.
وكم هو جالب للدهشة أن تجد أكثر الشعوب رقة ورقيا وحبا للجمال والثقافة تنبري من بين الجموع لتكون الأولى في خرق نواميس الطبيعة باستخدام ما يقتل الطبيعة، حيث كانت فرنسا أول دولة حديثة تستخدم الأسلحة الكيمائية إبان الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث استخدمت الغازات المسيلة للدموع ضد القوات الألمانية في محاولة لوقف تقدمها، وهو الأمر الذي شجع الألمان على استخدام الغازات المسيلة للدموع ضد الروس، ثم ما لبثوا أن استخدموا غاز الفوسيجين ضد القوات الإنجليزية عام 1915، واكتشفوا بعد ذلك غاز الخردل واستخدموه ضد الجيوش الأخرى، فتسبب بقتل مئات الآلاف من البشر، وترك آثارا مدمرة على البيئة.
وحتى بعد أن شعرت الإنسانية بالأثر التدميري لهذه المواد، فإنها بدل أن تسعى إلى وقف هذا التخريب الممنهج، بدأت في تطوير صناعاتها، لتتمكن بعد ذلك في مرحلة الحرب البيولوجية من استخدام أسلحة الدمار الشامل التي تسبب أضرارا جسيمة للإنسان والحيوان والطبيعة، والمصيبة الكبرى أن أكثر البلدان المعاصرة حبا للسلام ودفاعا عنه كانت السباقة في هذا المضمار، حيث كانت اليابان أول من أنتج القنبلة البيولوجية التي تحتوى على ميكروبات تسبب أمراض التيفوئيد والكوليرا والطاعون والكثير من الأمراض الأخرى. وهذا ما حفز الدول الأخرى لتبدأ في إنتاج الأسلحة البيولوجية؛ التي ضمت أنواعا أخرى من مسببات الأمراض مثل مسبب مرض الجمرة الخبيثة، ومرض الكوليرا، ومرض الطاعون، ومرض الحمى القلاعية، ومرض التيفوس الوبائي وغيرها.
فعاش العالم رعب الخوف من الأسلحة الكيميائية التي تحوي غازات الأعصاب مثل غاز الزاراين، والغازات الكاوية مثل الخردل، والغازات الخانقة مثل الفوسيجين، وغازات الهلوسة، وغازات الدم كالحامض الهيدورسيانيك وغيرها. ورعب الخوف من السموم الكيميائية مثل الصوديوم والبوتاسيوم والأبخرة السامة جدا التي تهاجم أجهزة التنفس أو الهضم وتؤدى إلى موت الخلايا والوفاة، فضلا عن الأثر الذي تتركه على الحيوانات والطبيعة بشكل عام. وصولا إلى استخدام الذرة الذي ابتدئ بتفجير قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونكازاكى اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، والتي راح ضحيتها بين موت وإصابة وتشويه مئات الألوف من البشر، ولا زالت آثارها التخريبية على البيئة فاعلة لغاية هذا التاريخ. وللأسف حتى مع حديث العالم عما يعرف بالردع النووي، إلا أن السعي لإنتاج أسلحة دمار شامل أخرى أشد ضراوة من القنابل الذرية بقي فالعلا إلى أن توصلوا إلى صنع القنابل الفراغية، وأنواعا أخرى لم تصرح عنها الجهات المنتجة.
ومن المآسي الكبيرة أن الطبيعة نفسها وظفت لتدمر ذاتها بذاتها بمساعدة وتدخل الإنسان، مثلما حدث في منطقة الخليج بعد حرق آبار البترول أثناء الغزو العراقي للكويت، وقيام داعش بحرق الآبار النفطية والخزانات في المناطق التي أجبرت على الانسحاب منها مثل مصفى بيجي والقيارة وعين زالة، مما تسبب في تساقط أمطار حامضية تركت أثرا تدميريا على التربة والمزارع والحيوانات والحياة النباتية والمائية.
وحتى مع كل هذا التدمير الواسع كان موقف الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية دون المستوى المطلوب، فمع استخدام تقنيات التغيير في البيئة، التي عرفتها "اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى 1976" في المادة الثانية منها على أنها: أية تقنية لإحداث تغيير – عن طريق التأثير المتعمد في العمليات الطبيعية – في دينامية الكرة الأرضية أو تركيبها أو تشكيلها، بما في ذلك مجموعات أحيائها المحلية (البيوتا) وغلافها الصخري وغلافها المائي وغلافها الجوي، أو في دينامية الفضاء الخارجي أو تركيبه أو تشكيله. حتى مع ذلك نجد نوعا من التهاون الدولي ففي الوقت الذي تأخر فيه صدور إعلان مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية الذي أقر في استكهولم في 16 يونيه/حزيران 1972، إلى هذا التاريخ، لم تُقر اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى إلى عام 1976، وحتى مع توقيع الأعم الأغلب من الدول الأعضاء عليها، ونصها في المادة الأولى منها على:
1- تتعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بعدم استخدام تقنيات التغيير في البيئة ذات الآثار الواسعة الانتشار أو الطويلة البقاء أو الشديدة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى كوسيلة لإلحاق الدمار أو الخسائر أو الأضرار بأية دولة طرف أخرى.
2- تتعهد كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بألا تساعد أو تشجع أو تحض أية دولة أو مجموعة من الدول أو أية منظمة دولية على الاضطلاع بأنشطة منافية لأحكام الفقرة (1) من هذه المادة.
إلا أن استمرار تطوير الأسلحة المدمرة للبيئة، واستخدامها المتكرر في جغرافيات مختلفة لا زال فاعلا ومؤثرا، وتكاد دول العالم الثالث والدول المتأخرة بما فيها الدول العربية التي تعاني من أزمة في تحديد الهوية وتطويع ثقافة التعايش أن تكون الضحية الأشهر لها وأن تستخدمها بنفسها يوميا حتى ضد شعوبها، مع وجود تهديدات خارجية بتدمير المنشآت النفطية وضرب المفاعلات الذرية الذي ممكن أن ينفذ في أي وقت، دون اعتبار للإنسان والحيوان والطبيعة.
وفي العودة إلى مقدمة الموضوع التي ورد فيها قولي: " قد يبدو للبعض أن موضوع الحفاظ على البيئة أحد القضايا التي اهتم بها الغرب، وأخذناها عنهم، وتعلمناها منهم، لسبب بسيط وهو أن الغرب اهتم بالبيئة بقدر اهمالنا لها". أود الإشارة إلى أن دين الإسلام وضع قواعد مهمة للتعامل مع الطبيعة وموجوداتها، ابتداءً من المهمة الأولى التي أعطاها الرب للإنسان، إذ هناك في كتاب الله آية تقول: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)البقرة: 30.
وهي حوارية بين الرب وملائكته، يخبرهم الرب فيها بأنه سيخلق إنسانا، ويسكنه الأرض، وأشار إلى هذا المخلوق بلفظ "الخليفة"، والخليفة لغة: من يخلف غيره ويقوم مقامه! بمعنى أن لهذا المخلوق أهمية قصوى، وستوكل له مهمة الحفاظ على الكون المحيط به، باعتبار أن الأصل الذي هو الله تعالى، خلق ذلك المحيط من أجل منفعة هذا المخلوق، كما في قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، وان الرب رتب أمور الكون العامة لتصب في مصلحة المخلوق الخليفة المبتكر، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (*) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (*) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (*) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 30ـ 33) ولذا أمره بأن يحافظ على البيئة ويتعامل معها باحترام كبير ويبتعد عن تلويثها حتى ولو من خلال التلوث الضوضائي البيئي، ومن هنا خاطب الربُ الإنسان بقوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ{(لقمان: 19).
أما على مستوى السنة النبوية فهناك منظومة حديثية وتشريعية واسعة ومهمة، تُقيد الإنسان ضد أي تعامل قاسِ مع الطبيعة، فعلى سبيل المثال، أعطى الإسلام للحيوان (113) حقا لا يجوز انتهاكها، كما في قول النبي(ص): "من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله يوم القيامة يقول: إنّ فلانا قتلني عبثا، ولم يقتلني منفعة".
وقال(ص): "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".
وقال(ص): "غُفر لامرأة مومس مرت بكلب على رأس ركي يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك".
وفيما يخص البيئة، أمر بالحفاظ عليها، وحثهم على تجميلها، كما في حديث جابر أن رسول الله(ص)، قال: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منو طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". وحديث أنس بن مالك، قال: "كانت شجرة في طريق الناس تؤذي الناس، فأتاها رجل، فعزلها عن طريق الناس. فقال النبي (ص): "لقد أ ريته يتقلب في ظلها في الجنة". وأجمل تلك الآراء بقوله(ص): "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فيه له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يُرزؤُه أحد إلا كان له صدقة".
فضلا عن ذلك، أمر(ص) بزراعة الأرض الصالحة، وإصلاح الأرض الميتة والإفادة منها، كما في قوله: " من أحيا أرضا ميتة فهي له". وقوله: "من كانت له أرض فليزرعْها، أو ليمْنحْها أخاه". بل وصل الأمر أنه أمر بالزراعة على كل الأحوال حتى عند أكبر المصائب، فقال: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها".
وأمر بإكرام الأشجار المثمرة، فقال(ص): " أَكْرموا بني عمّاتكم النّخل"
وفي جوانب أخرى، نهى رسول الله (ص) عن الاغتسال في الماء الراكد حتى لا يلوث فقال: "لا يغتسلنَّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". وفي رواية أخرى، قال: "لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه".
وأمر بترشيد استهلاك المياه حفاظا على البيئة، فقد "توضأ ثلاثا، وقال: من زاد فقد ظلم وأساء". وفي حادثة أخرى: "إنه (ص)، مرّ بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وان كنت على نهر جار". ثم أجمل الرؤية الإسلامية بقوله: "ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء"