حركة خارج السرب | المتاجرة بالخوف: الإنسان في مرمى ثالوث الهدر
المتاجرة بالخوف: الإنسان في مرمى ثالوث الهدر
2019-05-20 | 1848 مشاهدة
يوسف هريمة
مقالات

بينك وبين أحلامك مسافة يحطّمها الخوف. كلّما زاد تلاشى أمل الوصول، هو الخوف أو ذاك الشّعور الذي يلازمنا دون أنْ نتعرف على كنهه أو ماهيته، سوى أنّه المحطم للآمال، أو الدّافع الخفيّ لكلّ المشاعر السّلبية، أو الهادر لوجودنا الذّاتي والجماعي. لا نحتاج لكثير من العبارات لكي نفهمه أو نشرحه ونحن نعيشه في كلّ لحظة، وفي كلّ سقطة، وصوب كلّ هدف، إنّه: "ليس شيئا نملكه بل هو أمر نقوم به". كما عرّفه جوزيف أوكنور. ويمكنني أنْ أضيف أنّه ليس شيئا نملكه فنتحكّم فيه، ولكنّه شيء نمارسه ليتحكّم فينا وهنا المفارقة بين الإنسان والخوف حكاية عشق لا تنتهي، فهو العدوّ والصديق في آن واحد. لهذا أكّد إدمون بيرك أنّه: "ليس هناك شعور يسلب العقل قدرة التفكير والتصرف بصورة مؤثرة مثل الخوف". لهذا كان وما زال الخوف مصدراً للاستثمار والمتاجرة والتّوظيف من كلّ من يرغب في هدر وقهر الكائن الإنساني، أو كلّ من يريد أنْ يديم سلطته الرّمزية أو المادية، أو كلّ من يسعى إلى هندسة العقل الإنساني ليحقِّق من خلاله رغباته وطموحاته.

عملية تشريح بنية التخلّف في مجتمعاتنا لا يمكن أنْ تكون إلاّ نقداً للبنى والمرجعيات والأسُس النفسية والفكرية التي تستند عليها ثقافتنا

التخلّف ليس قدَراً تدفعنا إليه الشّروط الماورائية، دون أنْ نلتفت إلى مسؤوليتنا الأخلاقية والاجتماعية، فمنْ يصنع التّغيير هو هذا الـ "نحن" السّاكن فينا، والذي استجاب لشروط التخلّف حين سمّاها قدراً، في حين أنّ كلّ هذا البناء المتداعي لثقافة مزورة لنْ يصمد ساعة حينما ننزع عنّا حجاب الخوف. فأنْ نحتجب عن هذا العالم فلا نرى إلاّ أنفسنا، أو يسكُننا الخوف فيصبح وجودنا كعدمنا، ذلك هو الأفق الذي يوصلنا إليه نمط تفكير أقصى ما يمكن أنْ يقدِّمه إليك هو أنْ يهدر إنسانيتك. فتشريح بنية التخلّف في مجتمعاتنا تبدأ من تشريح الثّقافة السائدة فيها. وعملية التّشريح لا يمكن أنْ تكون إلاّ نقداً للبنى والمرجعيات والأسُس النفسية والفكرية التي تستند عليها ثقافتنا. لهذا، فالثقافة هي ذلك الجزء المتخفّي والكامن فينا، والمتحكّم في دواخلنا؛ فحين ننتبه لسلطته نتحرّر منه.

التخلّف هو خصائص وشروط موضوعية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه، لخّصها مصطفى حجازي في جانين اثنين: اضطراب منهجية التّفكير من جهة، وقصور الفكر الجدلي من جهة أخرى. وبالجمع بين الخللين يمكننا أنْ نخلُص أنّ هناك عجزا تامّا للكائن الإنساني على الإمساك بواقعه، وهنا ينزع إلى سحرية العالم، عبر تفسيرات وتأويلات تنحو إلى فهم كلّ شيء متعلّق بالطبيعة بطريقة تضفي على تلك الظّواهر طابع السّحرية، أو ما يسمّيه داو كينز بالسحر الخارق ومثاله ما نجده في روايات الأساطير والجانّ. ولعلّ هذا النّزوع وتلك التّأويلات نابعة من غموض هذا العالم، وضبابية البدايات وأسرار النّشأة، وهو ما يجعل الإنسان يتوسّل بوسائل مفارقة للمنطق العقلي لتسدّ الحاجة والنّقص في آن واحد. حالة الخصاء الذهني هذه Castration Mentale تتميّز بحالة من العجز التامّ أمام ظواهر الطّبيعة، ومن النّاحية الاجتماعية بعجز وخوف مزمن من الفئة المسيطرة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الخوف من ظواهر الطبيعة أو من مجريات الأحداث التي يعيش الإنسان في خضمّها ليس معزولاً عن سياق التّنشئة والثّقافة التي ينشأ الإنسان في ظلّها. ولعلّ العامل الأساسي الذي يساهم في تذكية الخوف وحالة الرّهاب الفردي والجماعي هو منطق القداسة، أو إضفاء القدسية على الأشياء. هذا المنطق العابر للأشياء، والذي يشكل خاصية في كلّ الثّقافات كما عبّر عن ذلك روجيه كايوا[6]، إذ ليس هناك ما لا يصلح للقداسة، وبالتّالي ليس هناك ما لا يمكن استثمار الخوف فيه، فالكائنات مقدّسة (الملوك/الكهان)، والأمكنة مقدّسة (المعابد/الكنائس/المساجد)، والأزمنة كذلك (السبت/الفصح/الميلاد). وهذا كلّه هو ما يضفي قدسية على الأشياء، عبر إضفاء السّحرية عليها، بحيث يخاف الفرد والجماعة، ويتحوّل كلّ ذلك الخوف إلى حالة عصاب جماعي اتّجاه هذه الأشياء.

لا توجد أصنام دون قداسة، ولا مجتمع أو جماعة دون هذا البعد الروحاني من الاقتراب والإحساس بعوالم هي أقرب للخيال في العقل العلمي، وأقرب للحقيقة في العقل المترامي إلى أحضان الغيب. فبين الإنسان والمقدّس حكاية ومسار وتاريخ من الصّراع والوفاق، والحرب والسّلم، والتّسامح والتباغض. فالمقدّس هو الأساس الوحيد للفكر الديني، عليه تتأسّس المقولة الدينية، وبواسطته يتم الشّعور والإحساس بحصانة المؤمن من روح النّقد. أو بتعبير أدقّ: "إنّه الفكرة التي يتمحور حولها الدّين على حدّ قول هنري كوربان، فالأساطير والمعتقدات تحلّل مضمونه على طريقتها، والطّقوس تستخدم خصائصه، والكهنة يجسّدونه والمعابد والأماكن المقدّسة والصّروح الدّينية توطّده وتجذّره في الأرض ومنه تنشأ الأخلاق الدّينية. الدّين هو تدبير المقدس".

وإذا كان الدّين هو تدبير المقدّس كما تشير المقولة السابقة، فإنّ المقدّس هنا يصير قوّة فاعلة، وطاقة حيوية يرى فيها الإنسان استمراريته، وواجبه الأخلاقي تجاه المجهول بالنّسبة إليه. فالمقدّس يتجاوز فكرة الاختيار ليصير الضّرورة القصوى لحياة الجماعة، ويتحوّل إلى صنم حينما يشيّد لنفسه حصوناً من النّقد والمساءلة والشكّ والتّمحيص. وانطلاقا مما سبق ذكره، يمكننا أنْ نخلص إلى ما أكّد عليه روجيه كايوا أنّ المقدّس في صورته الأولى البسيطة يشكّل طاقة خطيرة، خفيّة على الفهم، عصيّة على التّرويض شديدة الفاعلية، وهنا تكمن خطورة اللّجوء إليها واستدعائها، فبقدْر ما يكون الهدف الّذي يسعى إليه الطالب عظيما، تتضاعف ضرورة تدخلّها، ويصبح استخدامها محفوفا بالمخاطر.

ثالوث الهدر الإنساني والمتاجرة بالخوف:

كلّ ما ذكرناه سابقا، يؤشّر بوضوح تامّ على فعالية الخوف، وقابلية الإنسان للتّرويض به وعبره بمسارات متنوّعة، وبأشكال تختلف في الأسلوب وتتّفق في المضمون. فعالية تنبع من طبيعة الأشياء التي يضفي عليها الإنسان طابع القدسية والرّهبة والخطورة إلى الحدّ الذي تتحوّل فيها هذه الأشياء إلى قوة جذب سحرية، ومصدرا للخطورة يتطلّب من القادم والجريء أقصى درجات الحيطة والحذر. كان لزاما أنْ يتمّ توظيف الخوف ضمن استراتيجيات التّدجين والتّأطير والتّلقين، ليصير الخوف هو الضمانة الرئيسة لضبط حركة المجتمع على الأقل داخل سياقاتنا الاجتماعية، من طرف ثالوث الهدر الإنساني:

أ- الديكتاتوريات: أو الأنظمة القمعية سواء كانت سياسية أو دينية، أو تحت أيّ شعار من الشّعارات التي تحمل عناوين يبدو في ظاهرها العمل على تحقيق كرامة الإنسان، في حين أنّ باطنها هو تفكيك الظّاهرة الإنسانية في أبعادها المتعدّدة. ولمعرفة خطورة هذا النّمط في الحكم والسّياسة يكفي أنْ نتحدّث عن جانبين أساسيين يطبعان السّلوك الإنساني فيها. الأوّل هو التربّص بالسّلوك، والثّاني مطاردة الفكر كما يقول حجازي، أو بتعبير آخر إنّها الحالة التي يفقد الإنسان فيها السّيطرة على مصيره وصناعة هذا المصير.

ليست الديكتاتورية خصلة فريدة من صنع المجتمعات الشّرقية فقط، فتفوّق الغرب على الشّرق لا يعود من وجهة نظر برنار نويل إلى النّظام الأخلاقي؛ أي ليست الحرية هي الفارق الكبير، وليس حقوق الإنسان هي من تكشف الوجه الآخر لديمقراطية الغرب. ولكنّ تفوق الغرب على الشّرق يكمن في اكتشاف الوسيلة الباهظة الثّمن لأنّها ذكيّة، بارعة ولا مرئية. فرغم أنّ أنظمة الشّرق وليدة من فكرة ثورية تلائمها، فقد شعرت بالخوف من هذه الفكرة التي كانت تقودها إلى التّجديد، إلى المناقشة والاحتجاجات. وبدلاً من التّجديد اختارت القمع والترهيب. أمّا الدّيمقراطية الغربية، فقد اختارت طريقا آخر وهو اختراع مسألة الإجماع، الذي يعتبر إيديولوجية المجتمع المسمّى بمجتمع الاستهلاك، ووظيفته هي ضمان الاندماج الكامل في هذه الدّيمقراطية عن طريق تزويد الجسد الاجتماعي بوهم أنّه يمثّل تفكيره. لهذا وجَّه ريجيس دوبريه[11] نقده لنظام العولمة المشيد بالانفتاح: "حيث إنّ الكلّ يشيد به، بينما تُضاعف صناعة الانغلاق (اللواقط الحرارية والنظم الإلكترونية)، وبينما يتّسع أفق المستهلكين ينكمش أفق النّاخبين، وبينما يطغى رنين مصطلح نزع الحدود عن الأراضي أو اقتلاع الحدود تزداد الحدود البحرية التي كانت مشاعية سابقا."

ب- العصبيات: هو الرّكن الثاني من ثالوث الهدر الإنساني، حيث تفرض هذه العصبيات بمختلف تشكيلاتها وأنواعها (قبلية/عشائرية/أسرية/طائفية) حصارا على أتباعها من خلال النّظام البطريركي والمتمثّل في الطّاعة والولاء مقابل الحماية والرّعاية والنّصيب من الغنيمة (المهدور25). وهنا يتحوّل الكائن الإنساني إلى كائن نفعيّ طفيليّ لا يؤمن بالجماعة إلاّ بالقدْر الّذي يتحقّق فيه مصالحه، وحينما تنتهي هذه الأخيرة تنتهي معها شبكة القيم والعقائد والأخلاق المرتبطة بها.

لفهم منطق العصبيات لا بأس من إيراد ما كتبه الجابري حول العقل السّياسي العربي، وكيف استعمل مجموعة من المفاهيم ليكشف من خلالها طبيعة هذا العقل وهذا النّظام السّياسي الذي نحيا فيه منذ لحظة التّأسيس الأولى. يؤكِّد الجابري في هذا الكتاب بأنّه اعتمد على جهازٍ مفاهيمي، يدرك هو الأوّل خطورته. فجزءٌ من هذا الجهاز استعاره من الفكر العلمي، والاجتماعي المعاصر. والآخر مستمدٌّ من التّراث العربي المعاصر. ولعل أهمّ المفاهيم التي استعملها في هذا الكتاب هو مفهوم اللاشعور السّياسي، الذي يستمدّه الجابري من دوبريه، ويتصرّف فيه، ولا يأخذ بكلّ حمولته الثّقافية والفكرية، فإذا كانت وظيفة هذا المفهوم حسب دوبريه، هي إبراز ما هو عشائري وديني في السّلوك السّياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإنّ وظيفته بالنّسبة إلى الجابري هو إبراز ما هو سياسي في السّلوك الدّيني، والعشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر.

أمّا المفهوم الثّاني الذي يوظّفه الجابري في هذا الكتاب، هو مفهوم المخيال الاجتماعي، الذي يمثِّل أهميّة كبرى في الدّراسات الاجتماعية المعاصرة. فالمقصود بهذا المفهوم هو الصّرح الخيالي المليء برأس مالنا، من المآثر، والبطولات، وأنواع المعاناة. وهنا يتبيّن حسب الكاتب أنّ العقل السّياسي بوصفه ممارسة وإيديولوجيا هو في الحالتين ظاهرة جمعية، بمعنى أنّ مرجعيته توجد في المخيال الاجتماعي، وليس في النِّظام المعرفي.

أمّا المفهوم الثّالث، فهو مفهوم المجال السّياسي الذي استعاره الجابري من برنادر بادي. وأيضا مفهوم الكتلة التّاريخية الذي استعاره الجابري من غرامشي.

إلى جانب هذه المفاهيم المعاصرة، استعان الكاتب بالحقل السّياسي التّراثي العربي الإسلامي، ليحدّد بذلك ثوابت هذا العقل السّياسي العربي؛ ومن هذه المفاهيم هناك:

القبيلة، وهي تعبيرٌ عن البعد السّياسي، أو العصبية على حدّ تعبير ابن خلدون.

الغنيمة، وهي تعبيرٌ عن البعد الاقتصادي الرّيعي، أو غير الإنتاجي.

العقيدة، وهي تعبيرٌ عن البعد الفكري والإيديولوجي، سواءٌ كان فكرا دينياً، أو علمياً.

إنّ الجابري من خلال هذا البحث التاريخي، يبيِّن لنا بأنّ الفكر السّياسي العربي المعاصر، هو امتدادٌ للعقل السّياسي العربي في مساره التّاريخي، منذ مرحلة الدّعوة المحمّدية. ذلك العقل المسكون ببنية المماثلة بين الإله والأمير، وهي البنية التي تؤسّس على المستوى اللاشعوري السّياسي ذلك النّموذج الذي يجذِب العربي حتى اليوم، نموذج المستبدّ العادل. ليس هذا فقط، بل هو محكوم بالبنية الثّلاثية التي تحدّثنا عنها سابقاً: القبيلة، الغنيمة، العقيدة. وللخروج من هذا الواقع السّياسي المتردّي، لا بدَّ من الخروج من بنية الغنيمة، التي تمثّل الاقتصاد الرّيعي، إلى الاقتصاد الإنتاجي. والخروج من بنية القبيلة إلى أُطر الدّولة الحديثة، من مؤسّسات، وأحزاب. والخروج من بنية العقيدة بالتّعامل بعقلية نقدية، وعلمية.

على الرّغم من هذا التّفكيك الذي قام به الجابري لبنية العقل السِّياسي العربي، فإنّ البعض يرى بأنّ هذه الاختزالية للوضع العربي الرّاهن في ثلاثية القبيلة، والغنيمة، والعقيدة، لا تشخِّص الوضع القائم بدقّة. فالقضية ليست مجرّد سيادة القبلية أو الاقتصاد الريعي، أو الجمود، أو التعصّب العقائدي، على خطورتها كظواهر سياسية وفكرية واقتصادية، بل القضية أساساً هي في الهيمنة الإمبريالية العالمية الأمريكية بوجهٍ خاص، على مقدَّرات حياتنا السّياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية.

ج- الأصوليات: يكتمل الثّالوث الهادر للبعد الإنساني، والهادر للطّاقات بالأصوليات بتجلّياتها المختلفة. من هنا نستطيع أنْ نقول بأنّ الأصولية الدّينية التي تعنينا هنا هي تلك التوجّهات الدّوغمائية التي تريد أنْ تقنع الناس بأنّ المجال الديني الإسلامي هو مجال تجتمع فيه ثنائية الدين والسياسة إلى الحدّ الذي يصعب فيه افتراقهما، أو تلك التوجهات التي تهمش الدور الإنساني في عملية التشريع. ويشترك في هذا التوجّه جميع الحركات الإسلامية الكبرى، بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين، ووصولا إلى ما تفرّع عنها من حركات وجماعات تختلف في الشّكل، وتتّفق في المضمون، وهو إيديولوجية الخلاص في ما يسمى عندهم بتطبيق الشّريعة. وهنا لا يسعنا إلا أنْ نتفّق مع ما أشار إليه أشرف حسن منصور بأنّه من الخطأ أنْ نعتبر الأصولي المعاصر رجل دين أو تقوى، أو أنْ الأصولية هي حركة إحياء ديني. فالعكس هو الصحيح، إذ إنّ الأصولي المعاصر هو ناشط سياسيّ بامتياز لا يهمّه من الدّين إلا التّوظيف السّياسي، كما لا يهمّه من الأخلاق إلاّ تعبئة الجماهير.

إذن فالأصولية هي شكلٌ من أشكال الكِفاح الرّوحي الذي نشأ استجابة لأزمة ظاهرة، وهي تخوض صراعاً مع أعدائها الذين يتّبعون سياساتٍ وعقائد علمانية تبدو مناهضة للدّين. وهذه المعركة لا تخاض على أنّها نوع من النّضال السّياسي، بل يتمّ خوضها كما لو كانت حرباً كونية بين الخير والشرّ كما يقول أرمسترونج. وهنا يكمن خطر الأصولية، فحربُها هي حربٌ وجودية، لا مكان فيها للمساومات أو التّنازلات أو المنافسة السّياسية، في تدبير الصّراع على السّلطة. ولعلّ شعاراتهم وتحيّزاتهم وتمسّكهم بأوهام الهويّة تبرز هذا البعد السّيكولوجي في نفسية الأصولي.

كلّ هذا الثّالوث يعمل بتناغم وانسجام ما دام الهدف واحد، وهو هدر الطاقة الإنسانية وتحويلها إلى مادّة للتّوظيف السّياسي أو الدّيني، وما دامت أيضا الوسيلة ناجعة وفعّالة في إخضاع الإنسان إلى منطق التّخويف والتّخوين والتّكفير من خلال ثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم) والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع." فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية (الأمن وما يدور في فلكه)، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم: فهو يعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها.

استراتيجية التّخويف أو كيف تُفقِد الإنسان سيطرته على المصير:

ليس هناك استراتيجية أو وسيلة يمكنها أنْ تُفقِد الإنسان سيطرته على مصيره أو قدرته على التّفكير أكثر مما سبق وأنْ أشرنا إليه في مقدّمة هذا المقال. إنّه الخوف والشّعور المزمن بعدم الأمان، والإحساس اللامتناهي بالعجز أمام الذّات والآخر والمحيط، وهنا يخوض الإنسان رحلة البحث عن الخلاص انطلاقا من مجموعة من التصوّرات تُفرض سلفاً عن طريق ثالوث الهدر.

أ- الخلاص أو الانتظار: ارتبطت فكرة الخلاص أو البحث المخلّص أو منقذ ارتباطا وثيقاً بالفكر الدّيني عموما، واليهودي منه على وجه الخصوص، وهي فكرة ضاربة في أعماق التاريخ، عبّرت في فترات تاريخية مختلفة عن عجز الكائن الإنساني، على الإحاطة بفكرة الإله المتعالي عن مدركات الإنسان المادية، والمتجاوز لحدود الطّبيعة والتّاريخ. كما عبّرت بشكل من الأشكال عن مرحلة جنينية في التّفكير الإنساني، لم تستوعب بعد فكرة الاختيار والحرية الإنسانية، في ممارسة حركة التّاريخ وفق السنن والقوانين التي تحكم الكون. هذا الوضع الجنيني في الفكر الإنساني، دفع بالإنسان ليفسّر حركة التّاريخ وفق سقفه المعرفي الضيّق، ليجعل الإله حالاًّ في الطبيعة متحكِّما في قوانينها، هذا الإله الذي ينهي كلّ المشاكل، تارة بتدخله المباشر والفوري، وتارة أخرى بإرسال المخلّص في الفكر الغنوصي[19] الوثني.

وإذا ما حاولنا تتبّع عقيدة الانتظار في أشكالها المختلفة، وعند من اعتنقوها سواء من الأوائل أو المتأخّرين، نجد أنّ هناك بعداً واحدا يتحكّم في مفاصل هذه العقيدة، وهو عقدة الإحساس بالنّقص. فكلّ الأقوام والمذاهب والطّوائف التي آمنت بها، ميَّزتْها ظروفها الاجتماعية القاهرة، وحركات الاضطهاد التي تعرّضت لها. فالعامل النّفسي هنا محرّك أساسيّ في قراءة هذا الواقع الذي يتوق إلى التّغيير من خلال الإيهام الكاذب أو خداع الذّات كما يسميها ألفرد آدلر، حيث يلجأ الإنسان إلى خداع ذاته بدل مواجهة العقبات التي تعترض طريقه[20].

منذ أنْ توقّفتْ حركة الاجتهاد، ابتعد الموروث الدّيني عن عملية النّقد، والبحث، والتّنقيب واعتمد الناس آليتي الحِفظ والتكرار

هذا ما يفسّر لنا ظهور مجموعة من المخلّصين في ثقافات متباينة وبأسماء مختلفة، قاسمها المشترك، إعادة العدل والحقّ والخير إلى الأرض، وتمكين هذه الشّعوب من الأرض، وإقامة موازين الحقّ والمساواة، وطرد الظّالمين ودحرهم. فظهرت مثلاً عن المصريين القدامى فكرة النّيل وما مثله في الوعي الجمعي حينذاك، والإله تموز عند العراقيين، وكرشنا عند البوذيين، وسوشيانت عند الزرادشتيين، والمهدي عند الشّيعة والسّنّة، والطبقة البروليتارية عند الشّيوعيين، وهكذا دواليك....

ب- تفضيل الماضي على الحاضر والمستقبل: يفقد الإنسان أيضا سيطرته على المصير، كما يبدو لعبة في يد القدر كلّما عجز عن الانخراط في مشكلات عصره، وانسياقه فقط وإقامته في الماضي باعتباره العصر الوحيد الذي استجمع شروط النّقاء والصّفاء.. يستحيل أنْ نتحدث عن العقل الأصولي تحديدا دون أن يستوقفنا هذه المكوث الاختياري، أو العبودية المختارة بتعبيبر لابواسييه للأزمنة والأشخاص، في تحدّ لا معقول لكل الشروط الموضوعية التي تميز عصرا من العصور. إنه تماهٍ واضحٍ يكرّس النّظرة الدّونية لكلّ ما هو حاضر ومستقبلي، ويمجّد الماضي بتعبيرات طوباوية لا تستقرّ إلا في ذهنية مثالية تقرأ التّاريخ بإطلاقية، اعتمادا على تأويلات ونصوص شاهدة على حجم التّزييف الذي يمكن أنْ يقع فيه إنسان يؤمن بحتمية أسطورة العود الأبدي، كما نظّر لها نتشه، وتعني أنّ مجموع الأحداث والظّواهر والأحداث سيتكرّر من جديد، بنفس النّظام والطريقة والمقدار الّذي وُجد فيه في الدّورة السّابقة على هذه الدّورة الثّانية. وهكذا تستمرّ الحال وتأتي دائما دورات جديدة لا نهائية ما دام الزّمان غير متناهٍ.

إنّ الاحتماء بالماضي بتعبير طارق حجي، وهو يعدّد عيوب تفكير العقل العربي، يعيدنا إلى نقاش إشكالية التّراث، أو الموروث الدِّيني بشكل عام، إذ لكلّ باحث منطلقاته الفكرية. ومنذ أنْ توقّفتْ حركة الاجتهاد، ابتعد الموروث الدّيني عن عملية النّقد، والبحث، والتّنقيب. ونتجَ عن هذه العملية إعادة إنتاج للماضي، بوصفه محطّة تاريخية قد جاوزَتْ حدود النّقد. واعتمد الناس آليتي الحِفظ والتكرار، وتقدّست العلوم، وتكدّست في كتب صفراء، دون السّماح لآليات مغايرة أفرزها الواقع العلمي الجديد، أنْ تقارب الموروث الثّقافي بشكلٍ يعرِّي بعض نواقصه، أو يعزِّز ما يمكن أنْ يكون محطَّاتٍ مضيئة داخل تاريخنا.

ج- ذوبان الفرد في الجماعة: هذه خاصّية من الخصائص المميّزة للأصوليات والجماعات التي تعتمد على الحشد والتّجميع والتّوحيد لكي تشعر الجماعة بوحدتها وقوّتها. وليتحقّق هذا الفعل، لا بدّ من فكرة جامعة، أو إيديولوجيا تهدف بالدّرجة الأولى إلى التّجميع والتّبرير كما هي وظائفها عند بخلر. هذه الإيديولوجيا تستمد منها الثورة روحها كما نظَّر لذلك غوستاف لوبون. ومع أنّ العقل هو مصدر الثورة، فإنّ الأسباب التي تحرّك أيّة ثورة لا تحدث تأثيرها في الجماعات إلا بعد أنْ تتحوّل إلى عواطف. فحسب لوبون الثورة مهما كان مصدرها لن يكون لها تأثير إلا بعد أنْ تهبط إلى روح الجماعات. إذ الجماعة تُتِمُّ الثورة ولا تكون مصدرها. كما تظلّ الجماعة بمعزل عن الفعل ووظائفها معطلة بمعزل عن قائد أو زعيم يقود ثورتها ويلهب حماستها.

عن مؤمنون بلا حدود