العبور والحدود…كلمتان متلازمتان من زاوية التّضمِين الدلاليّ لإحديهما إزاء الأخرى. فالحدّ يفترض عبوراً لوضعةٍ مّا متقاطعاً معها، بينما يطرح العبورُ شكلاً من أشكال الحدود. ودوماً لن يكون ثمة عبورٌ ما لم يكن ثمة حدٌ قابلٌّ للتّخطي. الأمر نفسه أكثر دلالةً بصدد الثقافة، إذ تمثلُ كلمتا الحدود والعبور قدرتين على التّجاوز وقطع المسافات والتّرحال نحو ما ليس معروفاً.
إنَّ أبنية الثقافة الواحدة – بخلاف الشائع- ترددُ أصداءً عميقةَ الجذور لثقافات أخرى بقدر ما تلتئم مع ذاتها ولا تنغلق على هويتها طالما تحتمل المغاير لها. هذا الجدل، التّكوين، يتأتَّى من نقاط غارقةٍ في التّداخل. وما الخطوط التاريخيّة والجيُوسياسيّة والأنثروبولوجيّة بين ثقافات نراها متباعدةٍ إلاَّ خطوط وهميةٍ أشبه بخطوط الطُول والعرض.
هي إشكاليّة بالنسبة للمُفكر أو المُثقف صاحب الوضع الثّابت التزاماً برؤيةٍ ما. لأنَّه بهذا الحال يعجز عن مبارحة مكانه ويخشى أشباح اللاّحدود أينما ذهب. وهذا يدعونا إلى ما يلي: كيف نُسائل ذلك الوضع السّاكن للمثقف؟ هل هو وضع يتغير مع انفتاح الآفاق كونياً وتماهي الحدود المعرفيّة؟ ماذا عن مفكّرين استطاعوا أنْ يترجلوا فوق الحدود ولا يقبلوا سقوطاً داخل انغلاقها؟ هل يؤدي ذلك إلى تعريف جديد للثقافة والمثقف وكذلك للفكر والمفكّر في المجتمعات الإنسانية؟
نقاط مزدوجة
الحدود بين (وعبر) الثقافات هي النقاط المزدوجة بين داخل وخارج دون تمركزٍ. وتؤكد فائض طاقات الفكر على الإطلالة نحو المختلف والتأثر به على غرار تأسيسيٍّ. من ثمَّ كانت الحدود دعوة إلى اللاحدود في الوقت عينه. إنَّ الحد في اللغة يقف بنا عند شأفة الخروج، الّتيه، البُعد، الخوض فيما هنالك بعيداً لدرجة الانتهاك.
اللّغة إزاء ما هو غامض تطرحُ ما يعني الشيء ونقيضَّه. فالحدّ أيضاً عبارة عن قيدٍ وانفكاكٍ، مساحة ضيقة وفضاء لا نهائي، شيء ولا شيء، تماثل واختلاف، قُرب ونأي. وفعل العبور ملاصق لأيّ حدًّ يناله التجاوز. ولولا إمكانية عبوره ما كان ليُسمَّ باسم كهذا، ولِما أدركنا كونِّه مرسوماً بالصفةِ ذاتها. وينقل الحدُّ فكرةَ سيولة المكان مرتبطاً بالزمان الّذي يتفلت منه، لأنَّ كلَّ حدٍّ هو بلوغ نهاية ما سرعان ما تتسع كلما تضيق. وإلى حين القول بوجود الحدّ، سيكون هناك تباعد ممتدّ بقدر امتداد الوصول إليه.
هل نقول طُوبى لمن يسكن الحدود النائية ثقافياً دون احتواءٍ؟ فلا تنتزعه هويَّة واقعاً في شراكِّها ولا يدفن دماغه برمال متحركةٍ هي الأنا جمعاً أو فرداً. المفكِّرُ بملء الكلمةِ يحترق إبداعاً ورمزاً على نطاق أعمّ ليُضيء لغيره، فلم يُولد ثقافياً من عاش لنفسه بأيّ حجمٍ كان. عندئذ لن يتحول إلى رمادٍ بل إلى نار ساريةٍ في مسارب غير متوقعة. يرتَّحل مع رياح الثقافة شارعاً عقله على الحدود القصوى للثقافات الناشئة والخابية منذ القِدم.
في كل حدودٍ (ولو افتراضية)، لا تُوجد جزر ثقافية منعزلة بذاتها إذا أخذنا الوضع التواصُلي لإنسان اليوم. ثمّة آثار ماضيةٌ لا تُمحى هي الإرث العميق لكياننا الإنساني وأيضاً ثمة آثارٌ مستقبلية تأتي بالمجهول من أيِّ مكانٍ. لكن ما هو هذا المجهول، أي كيان سيمثل، ماذا عن جوهره.. بل ما هو مستقبله؟ هذه أمور مؤجلةٌ لمزيد من السير تجاه القادم. والآثار بمثابة آفاق ممكنة لتخصيب الحال الراهن. إنَّها بصمات لعقول فذةٍ تتجولُ عبر المسافات وتبث المفارقات داخل جغرافيا الثقافة الكونية. إنَّ التخوم تُولِّد أُناساً مختلفين على الدوام، تبتكر جنوناً مهموماً بالتجاوز، وتولِّد فروعاً معرفية أكثر تنوعاً بأدوات ومفاهيم جديدة.
هناك من المثقفين من لا يرضى بديلاً عن عبور الحدود، يقتات على الهوامش، ويشعل جذوة الحوافّ الخطرة كأنَّه قناص للمستحيل. فالرؤى تتحطم، والأبعاد تنكسر، والتصورات تتشذّر وتترك مصيرها قيد التحول. ثم أنَّهم يتشردون على بساط الإنسانية الفسيح بحجم العالم. هذا لا يحدث اعتباطاً، لأنَّ التوزُع الحدودي غير المتماسك هو الّذي ينتج تنوعاً في الأفكار. ما أبلغه من موقف ثقافي يبتعد بقدر ما يذهب اختلافاً إلى درجة اللاعودة.
تراث الحدود
خطورة التّصور الآنف أنَّه يضع تاريخاً بأكمله حول معنى الفكر والثقافة والمعرفة في إشكاليات فلسفية. تاريخ المفكرين مع حدودهم الإيديولوجية والعرقية والتراثية والسياسية والمذهبية على صعيدي الإنتاج (الإبداع) والتلقي(القراءة). أين ينغرسون بأقدامهم، وهل مازالوا يحملون عقولاً هاهنا فوق رؤوسهم؟! فلم يكن محتملاً ذكر مصطلح ” الفكر” thought دون الالتصاق بمرجعيات بعينها، بل قد ينقل المصطلح السابق انحيازاً وتصنيفاً مسبقين. أي إنَّ التصور العابر للحدود يعرقل آراءنا حول الانتماء الثقافي والأيديولوجي لمن ينتج أفكاراً ومعاني.
فماذا يعني أنْ نفكر، أنْ نتثقف، أنْ نتفلسف؟ هل معناه انتاج الفكر بلا دلالة نوعيه؟ هل الفكر يزحف على أرض الواقع دون أرجل أم يطير دون أجنحة؟ ليس مفترضاً ذلك إلاَّ حين يُثار الطابع التاريخي لماهية الفكر بالنسبة لثقافة من الثقافات. إنَّ المطروح عندئذ بصدد المفكر هو التعبير عن “هنا والآن” Here and Now، أي أنَّ المثقف التقليدي هو من يفكر بطريقة تجعل أفكاره مفهومة بهذه الخلفية دون سواها. لكنه لا يذهب إلى ” هناك بلا آنٍ”There without Now.
وبشكلٍّ قوي هناك شيء غير مطروق في لاوعي المجتمعات، حيث تذهب إليه الهواجس والمخاوف. شيءٌ ينال قسطاً غير منتهٍ من التحذير. وهذا مرتبط بطبيعة الأوضاع الإنسانية الّتي تلقي ما تريد حيثما لا تريد. بمعنى أنَّ مجتمعاً أو آخر يصنع هامشاً من النأي الّذي لا يجب أنْ يبلغه أحدٌ محاولاً التحكم فيه عن بعد ٍ(فوبيا السلطة).
قد يقال بأنَّ ذلك هو جانب اللامفكر فيه، وهو حدّ لا يطرقه مثقف مثل العلاقة بالآخر أو كشف نقيض الأوضاع القائمة أو البحث عن المسكوت عنه. لكن الحدود هي أقصى نقطة لم تعد متاحةً للجميع من أول وهلةٍ. هي بطبيعتها تشكلُّ داخل الثقافة نقاط تحول وعبور يصعب انجازها بسهولة. ذلك الوضع الّذي يتطلع إليه المفكرون غير أنَّهم يخشون بلوغه بوصفه خروجاً عن دائرة السلطة السائدة. قد نعرف ذلكم بوضوح لو أدركنا أنَّ أي حد يتبادل مع سواه انكشافاً كلياً على المستوى نفسه. فمن يبلغ الحدّ يستطيع كشف المحتوى الّذي كان غارقاً فيه، طبيعته وآلياته وماذا ينتظره على الأقاصي، مثله مثل الوقوف بأعالى الجبال في الهواء الطلق كما يقول نيتشه.
كان تاريخ “المفكرين” مسرحاً لتحول الوجود الإنساني المحدود بالزمان والمكان إلى الوقوف على التقاطعات البينية للحياة. وأغلب مفكري المجتمعات يسقطون في فخ الدفاع عن النمط الغالب من السلطة وإنْ بدا غير منحازٍ. في التراث الفلسفي والأدبي لعبت المُثل العقلية والمطلقات دليلاً على ما يعبر عن الاحتواء داخل حدود بعينها. فالميتافيزيقا كانت انعكاساً مقلوباً إلى أعلى نتيجة رسم حدود للواقع بدرجة حاسمة من المركزية. وكان الأدب مجالاً خلفياً لسريان مفاهيم وقيم سائدة للهيمنة على الخيال والكتابة والأنواع الأدبية كنتاج رمزي في المجتمعات.
إنَّ كلَّ مثال أو غاية أو نموذج خارج الواقع، هو ترويض لقدرات تغييره لأجل الهيمنة عليه في أشكال أخرى. إذ يفرز مزيداً من الاحتماء بما هو متاح. فأفلاطون امسك زناد ميتافيزيقي (عالم المثل) لربط العقول بسياسات السلطة. واستطاع وضع هندسة ميتافيزيقية حول كيفية التصرف في تفاصيل الحياة. إنَّ أفلاطون تعامل مع المجتمع كخريطةٍ عضويةٍ ترسمها السلطة وتهيمن عليها. فكانت النتيجة على المنوال نفسه: الحاكم هو بمثابة الرأس من جسد المجتمع بينما العمال والموظفون هم الصدر أو الجذع والجنود هم الأذرع القوية أما العبيد فهم الأرجل والأقدام.
وإلى أنْ جاء وسيطاً، لم يكن القديس أوغسطين حين قال(آمن كي تتعقل وتعقل كي تؤمن) إلاَّ واضعاً لحدود التعامل مع النصوص اللاهوتية. لقد كان واضعاً لنوع من الحدود المقدسة الّتي تخطط الفهم المتعالي لأجل سلطة الاعتقاد. ثم كانت مهمة التنويريين ملتبسة بتأسيس حدود بين نفوذ الكنيسة اللاهوتي وبين استعمال العقل في الحياة المشتركة. لدرجة أنّ التنوير تميّز بكونه فنّاَ لتحديد قدرات الإنسان والنقد وتخوم المعارف والكائنات المحيطة، ذلك بقدرته على إعطاء العقل قدرات أكبر في المجال العام وتداول الأفكار.
بمجملها كانت الفلسفةُ في العصر الحديث تقنيةً لتعيين الحدود حتى تركت بصمات بارزة على إقامة الذات المفكر فوق هوة سحيقة من التحديدات الصارمة. ذلك على غرار دلالة الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر، إذن أنا موجود) حتى انطوى الوجود تحت خطوط ذاتية شملت مفاهيم الدولة والمجتمع والحقيقة والتاريخ كنوعٍ من المؤسسات المعبرة عن ذوات ضخمة بحجم الوجود الإنساني. وإذا كان الفكر هو أساس التفلسف بشكلٍّ أو آخر، فالحدود امتدت إلى المستقبل لضمان التطور والتحكم في كيان المجتمعات ومسيرة البشرية. وتلك الفكرة انطوت على بذرة الهيمنة. فالاستبداد والديكتاتورية والشمولية أشياء وُلدت يوم ولدت الحدود مع الأنا أفكر. وغدا المثقف خادماً لتوليد الديكتاتورية وترويج صورتها والدعاية البراقة لمضامين حدودية لم تأت اعتباطاً في شكل متأخر من أنظمة سياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين وما زالت.
إنَّ النازية والفاشية والماركسية المغلقة والرأسمالية الاستهلاكية الّتي تشتغل بسفك الدماء حدّ التخمة لم تكن سوى نتائج فات أوانُها لتراث الحدود في الفكر الغربي. هذا التراث الّذي أنتج مذاهب وفلسفات متورطة مباشرة في انتاج الكائنات المشوهة. لأن تضخم الذات لم يجد تفريغه الخفي طوال سنوات من التنوير إلاَّ في الجانب السياسي الهش. وهذا الجانب يُغطى بكمٍ مهولٍّ من الحدود ولاهوت السلطة لدرجة أننا لا نتابع ما يجري بالداخل، لكن إذا ما اهترأت الحدود، ظهر ما تضمره من رصيد الدمار الّذي لحق بالإنسانية والانفتاح على الآخر وسط عقلانية أوروبا وتوجهاتها العالمية.
في هذا يجب ألاَّ نغفل التَّجسُد العيني لتلك الفكرة في جدار برلين (برلينر ماور Berliner Mauer). حيث كان جداراً طويلاً يفصل شطري برلين الشرقي والغربي والمناطق المحيطة في ألمانيا الشرقية. وكان الغرض منه تحجيم المرور بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية، وبدأ بناؤه في الثالث عشر من أغسطس عام 1961، وجرى تحصينه على مدار الزمن، ولكن تمَّ فتحه في التاسع من نوفمبر 1989وهُدم بعد ذلك بشكل شبه كامل.
وكان هدمُ جدار برلين اعلاناً للاحتفاء بالحياة دون محظورات، هدم الحدود الّتي تكبل حرية الفكر وتحرر سياسات جديدة للجسد. حتى بات العالم- في وجود ظواهر وتطورات عولمية أخرى- بلا حدود. فلئن كانت ثمة ظاهرةُ لكافة الظواهر في هذا العصر(ما بعد-الحداثي) فهي ظاهرة انعدام الجدران وسقوطها. لتغدو الجدران الحقيقية هي حرية الترحال للإنسان حاملاً مصيره إلى أي مكان واقعاً من الإنسان الآخر موقع الوطن.
منذ ذلك الوضع انكشف تاريخ المثقفين المدجنين بوصفهم يتوارون خلف عبارات براقة من الالتزام بحثاً عن سلطةٍ مفقودةٍ. إنهم موظفون لدى بلاط السلاطين في إهاب عولمي مستخدمين أبرز نتاجات العصر وتقنياته للمنافحة عن السلطة القائمة. وهذا حطم لدى القارئ تصوراً حول “المثقف العضوي” الّذي يلتحم بحركة الحياة كما يذهب أنطونيو جرامشي وحول الأديب الملتزم الّذي يتحمل تبعات الأقدار معيداً الكرة ثانيةً على طريقة سيزيف، ولا سيما في الثقافة الشرقية الّتي تؤصل لظاهرة المثقف بآليات الحدود المشبعة بها.
إنَّ صور المثقف التقليدية أقنعة سرية لإعادة تدويره في بيئة نوعيةٍ دون النظرة الإنسانية الأوسع. ولئن كان كلُّ مثقف – بمعناه الراهن – هو فنان في اختراق الحدود مهما تكن، فهناك جملة نقاط إزاء ما شاع من صور المثقف المعمول بها الآن حتى بالنسبة لفكرة المثقف العضوي.
المثقف العضوي يرتبط بمهمة الدفاع عن قضايا تخص المجتمع. وهو ما قد يضيق بظروفه الوجودية بينما المثقف العابر للثقافات ينظر إلى الإنسان كإنسان.
الالتزام لا يتولد من الانكفاء على أي حالٍّ كان. فالمثقف يتولَّد من الولاء للإنسانية عبر الحدود، خارج الحدود، مزحزحاً للحدود، مقاوماً لها، مخترقاً لدلالتها.
المثقف أما أنْ يكون بصيغة اللاحدود أو لا يكون. بل إنَّ إمكانية الثقافة هي إمكانية الإبعاد العابرة للحدود الّتي لا تتأتى من القريب. فالثقافة تتكون دوماً بالاختلافات البعيدة.
العبور للحدود يتأتى من السكنى في العالم كوجود حيّ وسائل بشكل يومي، وأنه لم يعد عرضاً بل أخذ التزامن التواصلي والسياسي تجلياً جذرياً له.
العالم غدا سؤالا يوميّا في أدقّ التفاصيل الحياتية ولم يكن الفرد بعيداً عنه ولا المجتمع. وفي مجمل الأحوال يكون العالم هو الوسيط بين الإنسان ومجتمعه ورؤاه حول نفسه وحول أفعال الآخرين. ولذلك يمثل المثقف بمعناه الكوني العابر للحدود ضرورة تاريخية راهنة.
أبناء اللاّحدود
هكذا كما لو كان القول التالي هو المهم: عِش كمثقف بحريةٍ على تخوم سائلة لا تتوقف، ولتكُّن قصّاصَ أثرٍ هنالك حيث لا يعترضك شيء ولا تستطيع أنْ تلتئم على نفسك. إنَّ الفلاسفة والشعراء الكبار: ماركس، نيتشه، فرويد، جاك دريداً، هوسيرل، أبو حيان التوحيدي، ابن عربي، الحلاج، جلال الدين الرومي، أبو الطيب المتنبي، إميل سيوران، رامبو، جوته، جورج باتاي، جان جنيه…وغيرهم هم قصاصو أثر بامتيازٍ.
هؤلاء هم أبناء اللاحدود اليتيمة الّتي تنبت هناك في المكان الخفي، والّتي لا نهاية لها ولا يتوقع أيُّ شخص الوصول إليها. وإذا كان المثقفون المروَضُون يعيشون داخل حدود اصطنعوها أو داخل أقفاص السلطة، فابن الحدود يرتحل، يغامر، يضيق ذرعاً بأية سدود كالنباتات والأعشاب البرية. إنَّه المثقف المجرِّب الكوني للحياة في عمق خطرها المحدق، هو فوق مستوى الطاقة لغة وفكراً ومفاهيم وخيالاً.
على سبيل المثال، تركَ ابنُ رشد أثراً غيرَ قليلٍ على الثقافتين الشرقية والغربية عبوراً لحدود الشمال والجنوب كضفاف ثقافيةٍ حول البحر المتوسط. فهو الشارح والمؤول لأرسطو بكل محمولاته الحضارية في بقعه انتجت مفاهيم العقل والفكر. وابن رشد بمثابة “النص الضخم” الّذي أعادت كتابته الثقافة الغربية تأثراً بترجماته حين احتضنتها بعض الفلسفات الغربية في العصر الوسيط وعصر النهضة. لقد ترك أثراً من هذا القبيل على كثيرٍ من المعارف البينية، بدءاً من الفلسفة وليس انتهاء بالطب وبعض علوم الطبيعة والكونيات. ناهيك عن تأثيره شرقاً على الفقه والعلوم الشرعية والفتاوى والدراسات القرآنية وقراءة النصوص ومناهج الشُروح والتفسيرات والنقد والفيلولوجيا والترجمة.
وليس هذا إلاَّ تعاملاً مختلفاً مع الحدود الّتي اجتازها في وقت مبكرٍ من عمر التقاء الثقافات والمعارف القديمة بالأخرى الناشئة. وثمة دراسات ثقافية عابرة للحضارات تناولت ابن رشد كموضوع مزدوج لا ينتمي إلى البيئة العربية الإسلامية فقط، بل إلى حضارة عصره وإلى التراث الإنساني العالمي. لقد درسه الشرقيون في خضم التفاعلات بين حضارتي اليونان والعرب. كما كان ابن رشد حاضراً مستنيراً على خلفية الحوارات الفكرية بينه وبين الفقهاء وعلماء الكلام والمتصوفة كالغزالي وابن عربي وغيرهما بمنطق اللاحدود نفسه.
في إطار كهذا ينطبق على ابن رشد كمفكر عابر للثقافات فكرة الاختلاف. والعبور برأي جيل دولوز هو الارتحال عبر فضاءات جيوسياسية للفكر البشري، ارتحال يُحدث تنوعاً لا نهائياً ويجعل الانغلاق حدَّاً مستحيلاً. ليثير أسئلةً عصية على التجاوز تاركةً بصمات تاريخية بالغة الثراء.
إلى هذا الاتجاه كان المثقف العابر للثقافات هو التطور المتواصل لمفاهيم متنوعة الدلالة خاصة بصورة العالم والحياة وفهم أوضاع الثقافة الكونية والانخراط في عملية التواصل الحي للتكنولوجيا وانعكاسها في أفق العقل. بات المثقف يفكر في الإنسان مهما تكن جذوره أو أوضاعه. حتى أنَّ تخلُفاً عن تلك المهمة شيءٌ قد يثير السخرية والرثاء. فاستعمال التقنيات التواصلية وانهزام المسافات فتحا هناك مساحةً لرؤى مبتكرة ومجالات معرفية خصبة. لدرجة أننا بتنا نرى مفكرين أسهموا في هذا النطاق مقدمين فكراً جديراً بالاعتبار. هم أبناء صورة العالم بلا جغرافيا لهويةٍ أحاديةٍ.
التّفكير هناك
التفكير من خارج(عبر) الحدود ينطوي على مفارقة النظر إلى هنا من هنالك، أي من أقصى نقطة يمكن أن تكون عميقة وقابلة للتحوّل. وهي ثرية بما يكفي إلى حيث النظرة الكلية الّتي تأتي بشكل مختلف.
إنَّ إدوارد سعيد نموذج لهذا المثقف العابر للفضاءات. فيصعب تصنيفه، لأنَّ أفكاره تنتمي إلى عدة حدود ولا تنتمي بالوقت نفسه إليها، في خلفية نصوصه توجد: الفلسفة والدراسات الانثروبولوجية واللغة والأدب والشعر والموسيقى وعلم النفس والنقد والدراسات الدينية والحوارات. وهي فروع لا تقبل إدوارد سعيد الموصوف بأيَّة صفة تقليدية، لكنها تجسد إدوارد المتعدد في كيان واحدٍ.
إدوارد سعيد مفكّر عابر للثقافات بامتياز، فهو كما يصطلحُ على نفسه خارج المكان. بالطيع هو خارج الحدود أيضاً، لأنَّه غير محصور في المكان ولا في الزمان كما عبر عن ذلك في سيرته الذاتية ” خارج المكان Out of Place ” الّتي ألفها عام 1999. وفيها يكتب عن كونِّه خليطاً من دماء مختلفٍ في كيان واحدٍ، وله لغتان هما العربية والإنكليزية وكلتاهما بمثابة لغته الأمّ على حدّ سواء، لدرجة أنَّه لم يكن قادراً على فهم أيِّ فصل بينهما.
كان سعيد يترجم في عقله ما يقول بالعربية إلى الإنجليزية ثم يترجم ما يقول بالعربية إلى الإنجليزية في إحالة لا تنتهي. هو بالتزامن يترجم في التوقيت الّذي يتحدث فيه كأنَّه يتحدث لغتين في لغة واحدة. كما يذكر إدوارد سعيد في ملاحظاته، يصبح تعريف الثقافات والمجتمعات شديد التغير والتقلب وفي غاية التنوع.
وكان سعيد منتمياً إلى أكثر من تراب: نبت ونما وأثمر عبر فلسطين، مصر، أمريكا، أوروبا بحسب ما تنقل ودرس، لكنه أيضاً اخترق حدود الزمان كاتباً عن جذور الاستشراق في الأدب مروراً بالثقافة والإمبريالية والدين والإعلام ومقاومة التزييف والنقد وليس انتهاء بالفن والإبداع. وإذا حاولنا الإمساك بفكره فهو يعكس جميع هذه الجوانب. وقد أدخل الحدود عبر نصوصه الفكرية معتبراً أنه خارج التصنيف وليس خارج المكان فحسب.
ولذلك فإنَّ إدوارد سعيد في نصوصه الأساسية هدم الثنائيات بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، بين الـ”هنا” والـ”هناك”. وهو الأمر الّذي يمكن تتبع أثره في كل مؤلفاته معرفة ارتباطه بالقضايا الراهنة سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، حيث يحرص سعيد على انتهاك المنطق الثنائي في العلاقات المتضادة نتيجة الميراث الغربي والشرقي. وهو منطق بات يهيمن على تحليل العلاقات الاجتماعية وعلى طريقة فهم التفاعلات فيما بينها. ففي عبور الحدود لا توجد مساحات منعزلة ولا ثنائيات إنما هناك منطق مركب وشبكي إنْ صحت العبارة. هناك شيء مختلف دوماً عما هو مطروح تحت الاستقطاب والاختزال المتبادلين لعلاقات ثرية.
وأبسط وجوه هذه العلاقات الصراعية الّتي تجاوزها سعيد هي علاقة الـ”أنا نقيض الآخر” أو “نحن أعداء الآخرين” (مهما يكن هذا الـ أنا أو هؤلاء الـ نحن). وهذا الشيء فكَّكه إدوارد سعيد واصفاً إياه بالإشكالي مراراً. فخلال جهده الساعي لتجاوز تناقضات الأفكار والأفعال بحث سعيد مفاهيم المعرفة والسلطة والتمثيل والمكان والزمان والسفر. لا ليعيد انتاجها، بل ليبطل مفعول دلالتها الحدية. إنَّ دراساته دوماً بينية، فهي إما تتناول قضايا العرب من زاوية الاستشراق كاشفاً آليات الهيمنة على الطرف الآخر، وإما تعتبر الأدب وسيطاً لبلورة ما هو سياسي واعطائه قدرات خارج مجاله.
يرى سعيد أنَّ وضعية التفكير الصحيحة، ولاسيما بصدد التفكير السياسي، هي أنَّ يكون الإنسان جوالَّاً، متنقلاً لا يقف لدى أيّة حواجز. فكلما انطلق خارج حدوده استطاع استيعاب التغيرات الّتي تحدث وكان قادراً على اكتشاف جوانب أخرى ما كان ليسبر أغوارها لو كان مقيداً بالمكان والزمان. وهذا يجعل الإنسان مسافراً، عابراً باستمرار. والعالم الّذي نعيش فيه هو ضرب من السفر المتواصل رغم اتساعه وتعقيده.
إنَّ المسافرين يوقفون هناك مع تجريب إيقاعات وطقوس جديدة. وبالوقت عينه فالمسافرون، خلافاً للمقيمين، الّذي يتعين عليهم الإقامة بمكان واحد والدفاع عن حدوده، يعبُرون الأراضي ويتخلون طيلة الوقت عن مواقعهم الثابتة. وبالتالي يرى إدوارد سعيد في الانحراف عن المسارات المحددة والمعروفة فِعلاً تحررياً كون هذا الانحراف يفضي إلى “الحرية ولو للحظات وجيزة”.
يُضاف إلى ذلك أنَّ فضاءات الحياة والمعرفة لها طبيعة متعددة الطباق. وهي طبيعة ناجمة عن التواجد خارج مكان ما أو بعيداً عن داخله. فضلا عن أنَّها ناتجه عن عدم وجود حق ميتافيزيقي في العيش في مكان ما أو العيش في نقيضه. وهو ما يشير إلى تجربة إدوارد سعيد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية حين يرى أن ازدواجية المكان المتناقضة الّتي يشعر بها ما هي إلاَّ مثال على وجود عدد كبير من الكائنات الحية المشوَّهة بمن فيها نحن. وهي مثال على مكانة البلد الرائع بالنسبة إليهم ولكن بالطبع ليس بالنسبة إلينا. إذن كيف يحل هذا التناقض؟!
اللامكان أو خارج الحدود تجربة ثرية مشبعة بجوانب نفسية وإنسانية وعضوية وتختلط بالخيال والتشرد الجسدي. وتباعاً هناك صور العودة والحنين والتطلع إلى الجذور جنباً إلى جنب البحث عن جذور جديدة. إن النباتات المترحلة من مكانها تمد جذورها العشبية تجاه التربة الّتي تمتد فوقها ثانية وتتطلع إلى قطرات الحياة في شكل مياه. فبالنسبة لسعيد كان المكان وهو فلسطين متحولاً من الأساس. لقد تم تغيير خريطته سياسياً وعضوياً ليصبح إسرائيل كأن هناك تراث مغاير ظهر فجأة في المكان الّذي يتأهب لرحيلنا عنه. وقد دخل على الأرض أراض جديدة لم يكن ليتوقعها مواطنو الأرض الأم.
إذ ذاك تصبح لدينا ذاكرة للحدود بلا نهاية، الذكريات ليست وضعاً اعتباطياً، هي خيال يرتهن بتجاوز الموطن ويرنوا إليه، قد يتألم حين يتزحزح بعيداً بيد أنه يفتح نفسه على المغامرة القصوى لوجود الإنسان. وفي سياق كهذا يصف إدوارد سعيد حال أسرته ولاسيما رد فعل عائلة أبيه إزاء الوطن الّذي ضاعت إمكانية العودة إليه بعد احتلاله عام 1948 وبعد طمس اسم فلسطين تحت اسم إسرائيل. إذ يبدو أنَّ والد إدوارد لجأ- مع احتلال فلسطين- إلى لعب الورق، وهي لعبة الزمن الّتي تستنفد ذاتها. في إشارة إلى استعادة اللعب الّذي لا طائل من ورائه تمضيةً للوقت. إزاء الحدود قد ينهمك الإنسان في التقليل من وطأتها في اللهو الّذي يضعف ذكرياتها.
ويسترجع إدوارد سعيد ذكريات العيش إلى جوار والده حينذاك. وكنوع من العقاب الرمزي على سوء تصرف أبيه، يعزو إدوارد سعيد لعب والده بالورق إلى الخواء وتحطم الآمال. فهو تصرف سلوكي يدل على سلبية التفاعل العاطفي، كما أنه وسيلة لخفض القلق إلى حده الأدنى بحيث يصبح القلق غير مشعور به، بل وهروباً من الواقع. كل ذلك يخفض عدد الكلمات الحروف وهذا يعني: الصمت.
كل صمت إزاء الواقع والأحداث يتجول في موقعه إلى أقاصي الحدود، لأنّه بمثابة إغلاق لجهاز الكلام تلقاء خطوط العبور فوق الاحتمال. وهو يرسم حدوده الخاصة الّتي يسكت عنها الآن. في الصمت تأتي حدود أخرى إذا ما كان الإنسان غير قادر – اضطراراً أو اختيارا – على العيش داخل حدوده. ولذلك وحين كان سعيد يشاهد لعب الأوراق يبتعد عن هذا الحال من خلال التخيل. فهو يرى أنَّ الخيال يعمل على التحرُّر من جحيم المكان الّذي لم يعد يُطاق.