حركة خارج السرب | الفلسفة الآن أو في إمكان التفلسف
الفلسفة الآن أو في إمكان التفلسف
2019-05-13 | 1725 مشاهدة
مقالات

ليس السؤال عن ماهية الفلسفة من الماهية في شيء، بل هو من قبيل ما بعد الماهية.

يبدو أن سؤال "ما هي الفلسفة"؟ هو ذاته ذلك السؤال الذي يطرح بكيفية دائمة قديما وحديثا، هو سؤال الأمس، وسؤال اليوم، كما سيظل سؤال الغد، أي أنه هو سؤال الآن بكيفية دائمة، وكأن هذا السؤال هو من يطرح نفسه على الكائن، والكائن إنما يستعيده في كل آن تنفتح فيه إمكانية التفلسف، ولذا فهو ليس سؤالي أنا بالذات ولا هو سؤال الغير، بل هو سؤال الوجود لكونه سؤالا دائما، لقد وجدنا هذا السؤال مطروحا قبلنا، ومع ذلك فهو يحث كل كائن متفلسف على إعادة طرحه مجددا، كما نطرحه الآن. هذا الإلحاح على الطرح يكشف حقيقة لا تتعلق بماهية الفلسفة، ولكنه يتعلق بالوضعية التي يكون فيها المتفلسف في موقف وجهة نظر، ومعنى ذلك هو أنه لا جدوى من إعادة صياغة السؤال: ما هي الفلسفة؟ وذلك لأن هذا السؤال جدري بكيفية ميتافيزيقية، فنحن لن نستغني عن هذا السؤال ذاته كما هو في صيغته الناجزة، والتي تظل تساؤلا عن ماهية الفلسفة، بوصفه سؤالا لا يقبل التجاوز، وإذن سيكون سؤالنا مجرد سؤال فرعي: هل بإمكان التساؤل عن ماهية الفلسفة أن يقود إلى ماهيتها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يجب علي - كما يجب على كل متفلسف في أية لحظة من لحظات التسآل - أن أعيد طرح سؤال ماهية الفلسفة وكأنه سؤال لا يقبل التجاوز؟

إذن كل سؤال عن ماهية الفلسفة، ليس من الماهية في شيء، وذلك لأن طرح سؤال الفلسفة، لا يكشف حقيقة كون ماهية الفلسفة هي هذا الشيء، أو ذلك الشيء، إذ إن ماهيتها يتعذر انكشافها في حد أو تعيين، ولأن ماهيتها غير قابلة للحصر، كما هي غير قابلة للاختزال في هكذا تعريف، وإلا لاكتفينا بتعريف ما، واستغنينا عن إعادة طرح السؤال عينه، اللهم إلا على سبيل استفهام عن معرفة بالفلسفة كونها تعليما وحسب. والحال أن الأمر ليس كذلك، إذا كنا غير معنيين فحسب بتعليم الفلسفة، بل بتجربة فكر تختبر قدرتنا على التفلسف؛ أي على العودة للسؤال عينه، ليس من أجل الوقوف عند الماهية، وهو أمر متعذر، بل من أجل الاقتدار على الاستجابة لنداء الوجود من حيث هو نداء للتساؤل حول الماهية، غير أن التساؤل عن الماهية، وهو تساؤل مشروع، لن يقودنا قط إلى ماهية كون الفلسفة هي هذا الشيء أو ذلك الشيء، سيقودنا فقط إلى حال الماهية أو صفتها؛ أي سيتعين كتحديد لحال ليس هو من الماهية في شيء، وإنما لخطاب حول ماهية الفلسفة، أي بصيغة أدق لما بعد الماهية، وهذا الامتناع الجدري للماهية لا يؤدي إلى انغلاق أفق السؤال، بل إلى انعطاف نوعي نحو ما بعد الماهية، وفي هذا الانعطاف - الذي يظل فيه السؤال هو عينه في كل زمان ومكان ينفتح فيه الوجود على الكينونة - تنكشف تجربة الفكر، كاستجابة لسؤال الماهية، وليس كجواب عنها، وليست هذه الاستجابة سوى التفلسف كفعل نوعي ما بعد ماهوي؛ أي كنمط للتفكير في ماهية الفلسفة بوصفها تفكيرا في ماهية الوجود بما هو موجود؛ وهكذا يحيلنا كل تحديد للفلسفة، لا إلى ماهية الفلسفة، بل إلى ما بعد الماهية، وهذا الانعطاف نحو الما بعد، ليس ماهويا، بل هو كيفية في التفلسف. إذ يتعذر إدراك ماهية الفلسفة، ولكن لا يتعذر التفلسف، وكأن السؤال ليس إلا مجرد سؤال حول إمكان الفلسفة، أو هو بالذات كيف تغدو الفلسفة ممكنة، وهكذا لا يشجعنا السؤال على معرفة ما هي الفلسفة؟ بل يحثنا فقط على التفلسف، أي على كيفية تجعل الفلسفة ممكنة في كل تجربة كينونة في انفتاحها على الوجود، وهكذا لن تسعفنا التحديدات على تعرف الفلسفة، ولكنها ترشدنا إلى إمكانية تجعل تجربة الفلسفة ممكنة فينا، إنها تدلنا على طريق نحو التفلسف، بما هو طريقنا الخاص؛ أي بما هو طريق يرشدنا إلى الاقتراب من الفلسفة، بوصفها نداء للتفلسف، ولهذا كانت جل تعريفات الفلسفة هي منظورات فحسب لتجارب بعينها. ويعبر تعريف فيتاغورس للفلسفة بوصفها محبة الحكمة عن هذه المشكلة، فليست الفلسفة مطابقة للحكمة، هي فقط رغبة في الحكمة، وبهذا التعريف لا تكشف الفلسفة عن تعينها الخاص، وإنما تكشف عن كيفية في التفلسف، بما هي رغبة مقترنة بانفعال الحب، أو عشق الحكمة، فأن أتفلسف ليس معناه، أنني حكيم، بل أعشق الحكمة، وليست الحكمة سوى تفعيلا لرغبة الحب، ولذلك تظل الحكمة التي أرغب فيها من خلال انفعال الحب، نمطا للتفكير بوصفه سعيا لحكمة الحياة، والفيلسوف لا يسعى للحكمة ليصير حكيما، وإنما يسعى للحكمة ليصير عاشقا لحكمة تعلمه فن العيش، ولذلك كانت الفلسفة التي سعت مذاهب فلسفية بعينها كالمذهب الأبيقوري والرواقي إلى جعل التفلسف حكمة للحياة؛ أي مجرد كيفية لفن العيش سواء من خلال بلوغ الفضيلة كخير أعظم كما هو الشأن في المذهب الرواقي، إذ إن غاية الإنسان هي الفضيلة، وما على الإنسان سوى أن يمتلك وعيه بالفضيلة لنيل سعادته؛ أو من خلال بلوغ السعادة كخير أعظم كما هو الشأن في المذهب الابيقوري، إذ إن السعادة هي غاية الكائن الإنساني، وأما الفضيلة فليست غاية، بل هي فقط صورة القاعدة المتبعة، أي إنها أسلوب في الحياة غايته السعادة كخير أعظم. بعبارة أوضح، تكشف الرواقية على أن في الفضيلة تكمن السعادة، ولهذا كانت الفضيلة سابقة على السعادة، في حين تكشف الأبيقورية على أن في السعادة تكمن الفضيلة، ولهذا كانت السعادة سابقة على الفضيلة، فالمتفلسف الرواقي يسعى نحو الفضيلة، وفي هذا السعي تتحقق سعادته لكونه فاضلا. أما المتفلسف الأبيقوري، فيسعى نحو السعادة، فتتحقق فضيلته لكونه سعيدا. ومعنى هذا كله أن الفلسفة كمحبة للحكمة، هي تفلسف تأملي غايته عملية، وإذن فهي من خلال هذا المنظور كيفية للتمرن على الحياة غايته تحقيق الفضيلة كسعادة، أو تحقيق السعادة كفضيلة، وفق توافق يربط العقل بالطبيعة انسجاما مع الكوسموس. إذن ليس الفيلسوف منتج مفاهيم فقط، بل هو أيضا من يتخذ لذاته أسلوبا في الحياة، فينتج الفعل الذي يبتكر من خلاله ذاته، ويبدو أن لهذا المنظور امتداداته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ولهذا يمكن أن نعتبر فلسفة سبينوزا فلسفة عملية، وعلى الخصوص في تصورها للوجود باعتباره وحده هو الجوهر، وما يتفرع عنه مما نسميه موجودات، بما فيها الإنسان، فهو ليس ماهية أو جوهرا، بل هو فقط نمط للوجود، أي إنه مجرد حال لصفة من صفات الوجود، ومعنى ذلك أن الإنسان باختياره حكمة العقل؛ أي بتمرنه على العيش وفق مقتضى العقل، فإنه يصير مقتدرا على الوجود؛ أي إنه قد يصير حرّا، كما يزيد من قدرته المنفعلة بغبطة الحياة على بلوغ كمآلات عظمى، وبذلك يتخلص من عجزه الناتج عن خضوعه للضرورة وللانفعالات النفس البشرية. ولا يخفى تبني بعض الفلاسفة المعاصرين بهذا التصور العملي للفلسفة باعتبارها فنا للعيش، وهذا ما يتضح من خلال أعمال كل من بيير هادوت، مارسيل كونش، أندري كومت سبونفيل، لوك فيري، ميشيل أونفراي وغيرهم.

الفيلسوف لا يسعى للحكمة ليصير حكيماً، وإنّما يسعى للحكمة ليصير عاشقاً لحكمة تعلمه فنّ العيش

لكن لوعدنا ثانية لسؤال ما هي الفلسفة؟ فإن السؤال يعيدنا إلى منعطف أخر هو منعطف التأسيس للفلسفة كعلم دقيق منذ بداياتها الأولى، لكنها لم تستطع تحقيق هذا المسعى، وهذا ما استنتجه هوسرل الذي يسعى بدوره إلى تأسيس الفلسفة كعلم دقيق يكون أدق من العلوم الطبيعية، ولهذا يرى بأنه "أن الفلسفة لم تستطع في أي عصر من عصور تطورها أن تحقق هذا المطلب: أي أن تكون علما دقيقا، حتى في العصر الحديث الذي يمضي قدما، برغم ما في كل اتجاهاته الفلسفية من تعدد وتعارض، في مسار موحد في جوهره، ابتداء من عصر النهضة إلى وقتنا الحاضر. نعم إن الطابع الغالب على الفلسفة الحديثة لا يقوم في استسلامها، بطريقة ساذجة للنزوع الفلسفي، بل بالأحرى في محاولتها أن تبني نفسها علما دقيقا، عن طريق التأمل النقدي، وبفحصها لمنهجها على نحو أعمق دائما، ولكن الثمرة الوحيدة الناضجة لهذه المجهودات كانت تأسيس العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الدقيقة وتحقيق استقلالها، فضلا عن تأسيس المباحث الجديدة للرياضة البحثة وتحقيق استقلالها. أما الفلسفة، حتى بمعناها الخاص الذي يأخذ في التميز لأول مرة في عصرنا الحاضر فقد ظلت، كما كانت من قبل، تفتقر إلى طابع العلم الدقيق، بل إن دلالة هذا التميز قد بقيت دون تحديد علمي دقيق." ويبدو أن مطلب هوسرل نفسه لم ينته إلى نفس الغاية التي يطلبها، لسبب بسيط في نظرنا، كونه لم يصب في تأسيس علم دقيق للفلسفة، بما هي فلسفة، بل انصب في تأسيس علم الظاهريات الخالص بوصفه علما قبليا أو علما للماهية، بالرغم من سعي هوسرل إلى اعتبار هذا العلم بوصفه علم الفلسفة الأساس، بل "إنه علم جديد ينأى بنفسه عن الفكر الطبيعي لما له من خصائص مميزة مبدئية.

ومعنى ذلك أن تأسيس علم للماهية، لا يعني كونه علما يجيب عن سؤال ماهية الفلسفة عينها، بقدر ما يجيب عن إمكانية من إمكانيات الفلسفة، بوصفها في جانب من تعيناتها التاريخية، فلسفة فونومونولوجية، تتخذ موقفا من الظاهرات، بوصفها خاضعة للاستثناء الاستمهائي؛ أي إن علم الظاهريات ليس نظرية ماهية لظاهرات واقعية، بل هو نظرية ماهية لظاهرات خضعت للاستثناء المتعالي. وهذا هو ما يتأكد في مرحلة انعطاف لاحقة، حيث إن هوسرل في كتابه أزمة العلوم الأوروبية والفينومونولوجيا الترنسندنتالية، قد حول الفينومونولوجيا من بحث في الماهيات إلى فلسفة ترنسندنتالية توضح بناء موضوعات الوعي، ولهذا أيضا نأى بالفلسفة عن العلم الوضعي، حيث ذهب إلى القول بأنه "من الخطأ الاعتقاد بأن الفلسفة الفنومونولوجية ترمي بالذات إلى أن تحقق هذا المفهوم للعلم بكيفية أكثر كمالا مما تم لحد الآن، وأن تحقق بالنتيجة الفلسفة كعلم وضعي شامل بالعالم يوحد تأليفيا كل العلوم الوضعية الجزئية". ومعنى هذا النقد الموجه للنزعة للوضعية، أنما يستهدف ربط الفلسفة بمشروع يثبت الوحدة الغائية لتاريخ الفلسفة، للنفاذ إلى الفلسفة ذاتها وبلوغ إمكانياتها، وهكذا لن تصبح الفلسفة غائية إلا إذا تدخلنا نحن أنفسنا بحريتنا في التاريخ الذي نشارك فيه نحن أنفسنا وجعلنا منه غاية حقة؛ أي حركة تاريخية تكتمل فيها فعليا فكرة غاية ممتدة في اشتراك بين الذوات" ولهذا "فليس من المستحيل أن يتبين ذات يوم بأن الفلسفة ليست عموما ممكنة، إلا إذا حولت معنى مهمتها بكيفية ما - ليس فقط باستبعاد طرق للتحقيق من بين تلك التي افترضت في البداية عند الوضع المبهم للمهمة كإمكانيات، وبالنتيجة تضييق معنى الفلسفة، بل أيضا بتحويل المعنى الكلي للفلسفة بالضرورة، حيث لا يتم التخلي عن المعنى القديم، بل فقط بتحويله بكيفية تعطيه مشروعية نسبية لا يمكن إثباتها وتبريرها إلا بمراعاة التحول بكيفية متمعنة". إذن تظل الفلسفة بما هي فلسفة، ممتنعة عن أي تحديد للفلسفة حتى لو كان ماهويا، وهذا ما يمكن أن نسميه بالامتناع الماهوي للفلسفة، ولعل هذا الامتناع الماهوي هو ما يجعل الفلسفة من حيث هي فلسفة، ليست ممتنعة سوى ماهويا؛ أي كونها تمتنع عن أي تطابق بين ماهية كونها فلسفة، وبين محمولات الفلسفة، إذ لو تحقق هذا التطابق، فإنها ستفقد ماهيتها كفلسفة، إذ إن الفلسفة هي امتناع دائم عن أية معرفة تقدم ذاتها على أنها هي المعرفة الحقة للفلسفة، وهذا ما يجعل منها ممكنة دائما، فهي ما تفتأ تظهر في روح كل عصر بمظهر مغاير، وفي أنماط متجددة للتفكير؛ أي إنها ليست ممتنعة عن التفلسف. بعبارة أخرى، إن الامتناع الماهوي هو الذي يجعل كل تجربة تفلسف أصيلة ممكنة حقا، وقد عبر كانط عن هذه الحالة، حينما أقر أنه ليس بإمكاننا أن نتعلم الفلسفة، بل التفلسف فقط.

الامتناع الماهوي للفلسفة من حيث هو موجه لتجربة التفلسف

يوجد في كل امتناع ماهوي للفلسفة إمكان مفهومي، ولهذا فليست الفلسفة ممكنة إلا مفهوميا، إلا أن هناك صيغتين لهذا الإمكان المفهومي الذي ينتج عن معضلة التعذر الماهوي؛ الإمكان الأول هو إمكان تحليلي، أما الإمكان الثاني فتركيبي، غير أن الإمكان التحليلي ليس كافيا، ولهذا نسميه إمكانا ناقصا، إذ يظل ممكنا كتعيين ناقص، ولكن بالرغم من كل ذلك يظل هذا الإمكان لازما منطقيا بما هو إمكان هو اشتقاق مفاهيم من ماهية المفهوم الأصلي ذاته، كما هو الشأن في كل قضية تحليلية، في هذا الإمكان أيضا نجد أن مفهوم الفلسفة ذاته ليس مفهوما بسيطا، وإنما مركبا من مفهومين يتضمنهما، فيلو- سوفي (حب الحكمة)، أي أنه فقط مكننا من اشتقاق مفهومين مرتبطين به وظيفيا بوصفهما آليتين داخليتين للمفهوم. وبما أن كل مفهوم مركب، وليس بسيطا، حيث إن كل مفهوم قد ينطوي على مفاهيم يتضمنها في ذاته، كما هو الشأن في الصيغة التحليلية، أو قد يكون على صلة بمفاهيم لا يتضمنها، ولكنه متضايف معها كما في الصيغة التركيبية، فإن المفهوم يمتنع عن أن يكون مكتفيا بذاته، فلا معنى لأن نقول إن الفلسفة هي الفلسفة، وليست شيئا آخر؛ أو إنها هي هذه الماهية عينها التي يدعي كل متفلسف أنه بالغها. ولهذا كان هذا الإمكان في صيغته التحليلية ضروريا لتعيين معنى الفلسفة لا كماهية، بل ككيفية. غير أن هذا يعد هذا المعنى أولي، ولكنه غير كاف وحده بتاتا. ولهذا يفرض علينا الامتناع الماهوي أن نجد حلا للصعوبة الماهوية في صيغة الإمكان المفهومي التركيبي، وهذا يقتضي الخروج من دائرة المفهوم ذاته، وإنتاج مفاهيم لا تنتمي إليه ولكنها على صلة به، وهي لهذا الاعتبار تكون بمثابة مفاهيم نظيرة، ولهذا أيضا كان الامتناع الماهوي هو شرط إبداع المفاهيم في كل تجربة تفلسف أصيلة. أليست الفلسفة، إذن إبداعا للمفاهيم كما يقول دولوز، في تعريف هو بمثابة جواب عن ماهية الفلسفة، ولكن هذا التحديد للماهية ذاته، ليس ماهويا، بقدر ما هو تعيين لوجهة نظر حول وظيفية الفلسفة، بما هي ممكنة مفهوميا، أي أنه يعد تحديدا ما بعد ماهوي. ولهذا، فالامتناع الماهوي بهذا المعنى، هو ما يجعل ماهية الفلسفة غير قابلة للحصر في مفهوم بعينه كونه وحيدا، ولهذا يظل كل تحديد يقصد الماهية، مجرد منظور عن ماهية ما تكونه الفلسفة، في تجربة ما وفي عصر ما، ومن أجل غاية ما كذلك، وكل منظور من هذه الزاوية، هو منظور فلسفي، لا لأنه يعبر عن ماهية الفلسفة عينها، بل لأنه فقط يعبر عن ماهية تجربة تفلسف، ولهذا الاعتبار شكلت أرضية الفلسفة حقلا خصبا للتنازع الفلسفي حول ماهية الفلسفة؛ أي حول ما يجب أن تكونه الفلسفة، وفق تصور ما، وحول مهامها وموضوعها وغاياتها، وهو ما يعني أن الفلسفة هي مثل نهر هيرقليطس، لا ماهية لها سوى الصيرورة، وأن حياتها رهينة بالتجارب الجديدة التي تغدي مجراها الصائر بالمفاهيم والتصورات الجديدة للعالم الذي تحياه.

إننا اليوم مدعوون إلى طرح سؤال الفلسفة لا كموضوع تجربة المعرفة، بل كتجربة تفلسف تجعل الحياة ممكنة

ليس من قبيل الترف أن نتفلسف، وذلك لأن التفلسف حياة

يبدو أننا اليوم مدعوون إلى طرح سؤال الفلسفة لا كموضوع تجربة المعرفة، بل كتجربة تفلسف لا يجعل معرفة الحياة ممكنة فقط، بل يجعل الحياة نفسها ممكنة. إذ أن ثمة فرق بين معرفة الحياة التي نعيشها ونعيش فيها، بوصفها موضوعا لمعطى وجود سابق على كائن المَكُون L’être de l’étant، وبين إمكان حياة لا نختارها فقط، وإنما نبتكرها كنمط لتجربة الفكر؛ أي لقدرة تركيبية للفكر تجعل حياة يرغب فيها الجسد بوصفه توسطا بين الأنا وبين العالم ممكنة؛ أي إنها تجعل الرغبة ذاتها ممكنة، كما تجعل من فعل الرغبة في حياة مرغوبة ممكنا أيضا، وحيث إن الرغبة لا تظهر من غير قدرة الفكر على تركيب ليس موضوع الرغبة، وإنما تعينها كرغبة، إذ إن الرغبة بما هي رغبة تقصد وتعي ماهية كونها رغبة، إنما تصير إذن شرطا للفعل في حياة معطاة قبلا للَمكُون؛ أي بمثابة فعل يعين معطيات الحدس للرغبة بواسطة صورتي الحساسية المحضتين؛ أي بتوسط الزمان والمكان باعتبارهما يتضمنان قبليا شرط إمكان الموضوعات بوصفها ظاهرات بالمعنى الكانطي، فما يعتمل في رغبتي يكون تلقيا لموضوعات تتعين كحدس لرغبتي، ما دامت تتشكل كقدرة على الانفعال بمتنوع موضوعات الرغبة التي أتلقاها كتعينات لما تحدسه هذه الرغبة، أي ما تتلقاه وتتأثر به إنما يكون بواسطة الحدس، ومعنى ذلك أنها رغبة منفعلة بشروط الحساسية في الزمان والمكان، لكونها هي أيضا رغبة محدوسة، إذ لا رغبة تكون لا مشروطة، فهي بهذا الاشتراك في العلاقة إنما تتشكل في الجسد المتعين في الزمان والمكان، وبما أن الرغبة ليست مجرد قدرة لتلقي الحساسية وحسب، بل هي أيضا وعي بماهية كونها رغبة، من حيث كونها رغبة لأنا راغبة، كما هي وعي بموضوعات رغبتها المحدوسة في زمان ومكان؛ إذ إن كل ما ترغب فيه، وتتصوره موضوعا للرغبة، إنما يصير موضوعا للفكر، وبذلك فإن الرغبة بهذا المنظور هي مبدأ للاقتصاد السياسي للفكر، وفي مبدأ للرغبة كهذا يكون الأنا راغبا في ما يفكره، وأن ما يفكره، أي ما يرغبه في الفكر، ليس مجرد معطى ماثل للحضور، أي مجرد موضوع يمثل للحدس، إذ يعي الأنا أفكر، أنه أنا موجود في العالم، أمام موضوعات هي بمثابة أشياء للرغبة، كرغبة للتملك والاقتناء من أجل تلبية أغراض الرغبة العارضة للجسد، أي من أجل تلبية نزوع رغبته في حفظ وجوده وبقائه موجودا.

إذن ينشأ الفكر، بين رغبة الكينونة، ومشيئة الوجود، إذ بقدر رغبة الكينونة، بقدر استجابة الوجود في انكشافه للفكر، ذلك لأن الفكر هو نمط إدراكنا الواعي لذواتنا وللأشياء؛ أي للعالم الذي نستدعيه في أفق وجودنا كتجربة عيش تبتكر المفاهيم التي نحيا بها، وليس وفقها؛ أي بوصفها محايثة لكينونتنا، إذ إن كل مفهوم يعرض لنا في تجربة الوجود ليس مفارقا لنا، وإن كان المفهوم بما هو مفهوم شرط إمكان تعالي الكينونة، ومعنى ذلك أنه ينشأ فيها وليس في ما هو مفارق لها، ولهذا نحن ككينونات لا نعيش وفق المفهوم، بل نعيش تجربة المفهوم. غير أن المفهوم حين يلفه الإضمار يغترب عن ذاته المفهومية في الإدراك اللاواعي، فيصير في خدمة نزعة فكرانية تنفلت عن الفكر وعن الوجود، حينها تصبح عقيدة ولاء، تجبر كل موجود على أن يكون نمط عيشه وفقها لا غير، وهذه مهزلة الثقافات التي نشأت عبر التاريخ، وكان من نتائجها إخضاع الكائنات لإرادة الإضمار، وليس لرغبة الكينونة. ولذا يحق لنا أن نقتحم تجربة توقيع مفاهيمنا بكيفيتنا الخاصة، إن رغبنا في الكينونة، وإن سعينا بحق إلى الفلسفة، وإلا فلن نكون سوى مقول الإضمار... (الإضمار وهو المفهوم الذي نحاول من خلاله فهم نمط موجودية مفصولة عن الكينونة)...