بصرف النظر عن مفهوم المثقف البالغ الالتباس والتعقيد، والذي سنعرض إلى بعض مداليله الإشكالية، فانّه من المفترض أنّ الرسالة الأهم، التي على المثقف النقدي المتفاعل مع محيطه والفاعل فيه، المنحاز إلى الجماهير في غير ما مهادنة، ولا سكوت عن مظالم السلطة، إنّما هي الرسالة التي يحملها تجاه المجتمع الذي ينتمي إليه -لا بل تجاه كلّ المجتمعات إن بلغت طروحاته وأفكاره مرتبة العالمية- والتي لا تقتصر، على إنتاجه للأفكار ولصنوف الثقافة في تمظهراتها المختلفة ولا في محاولة بثّ الوعي المعرفي في النّاس وتحفيزهم على التفكير النقدي وتحريضهم على السعي إلى التغيير، بل تتجاوز ذلك إلى ما أهمّ، وهو قيادة تغيير الوضع القائم.
ليس هذا فقط، بل من مهام المثقف النقدي الأساسيّة قبل وبعد ذلك مهمّة طرح حلول للتحدّيات التي يواجهها المجتمع في منعطفاته الصعبة ولحظاته التاريخية الحرجة التي قد تفضي إلى التحوّلات الكبرى، وتبلغ أحيانا، حدّ استهداف وجوده في حاضره وفي مستقبله أيضا، مثلما هو حال الوطن العربي اليوم الذي يعيش أعراض المخاض "القيصري" العسير للثورات العربية المنحرفة عن مسارها. لذلك فهو ينتظر من المثقف، بما هو ضمير الأمّة وعقلها وقائدها إلى التغيير وبما يمثّله من حقّ الإعتراض ومن قوّة إقتراح للبدائل، ينتظر منه بلورة رؤيته الإستشرافية- المستندة إلى علم المستقبل لا إلى التخمينات والتهويمات الطوباويّة- ثمّ طرح تصوّراته للنهوض من وضع التشظي والتردّي لهذا الوطن العربي المكلوم، بهدف تحقيق التقدّم المأمول في اتجاه صناعة غد أفضل للأجيال القادمة.
بهذا المعنى، الذي يتحفّظ عليه الماركسيون ويرون فيه نفخا مبالغا فيه في صورة المثقف، فيما هو منسجم مع أنساق وسياقات المقاربات الحداثية لأنطونيوغرامشي (المثقف العضوي) وما بعد الحداثية لميشال فوكو ذات الصلة بتعريف المثقف، دورا ومفهوما، في السرديات الغربية. وهو منسجم كذلك مع ما جاء لاحقا في كتاب "المثقف والسلطة" للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي أفاض في طيّاته في تفكيك مفهوم "خيانة المثقف" الذي إصطلحه جوليان بندا قبل ذلك بعقود طويلة، فانّه يظلّ من الصعب الإقرار بأنّ العرب، راهنا، لهم مثقّفون يستحقّون أن نخلع عليهم هذه الصفة المقترنة أساسا - منذ الارهاصات الأولى لمفهوم المثقف - إن في أوروبا الشرقية او في فرنسا فيما بعد- بالنزعة العقلانية النقدية الإحتجاجيّة وتحدّي السلطة ومعارضتها.
بما يعني ضرورة لعب المثقف دورا توجيهيّا وتحريضيّا فاعلا ومؤثّرا في الحياة العامة، تعضدعه المواقف النبيلة والشجاعة ضدّ المظالم الاجتماعية والسياسية كما اشتغل على ذلك في فرنسا بالأمس" إميل زولا" في قضية "درايفوس" الشهيرة التي اتّهم فيها باطلا بالجوسسة لصالح ألمانيا (الخيانة العظمى)، وقد سبقه "فولتير" في مسعى مماثل في قضية "كولاس" الذي أتّهم على وجه الشبهة وأعدم على عجل على خلفية الصراع الكاثوليكي البروتستنتي (1). وهذا المسعى (الإعتراض الشجاع على السلطة والدفاع عن المظلومين) هو ذاته ما يشتغل عليه اليوم ( لا بل ومنذ عقود طويلة) في أمريكا أشهر المثقفين المعاصرين الأحياء، الفيلسوف وعالم اللسانيات نعوم نشومسكي (2)، المندّد دوما ودون هوادة بالسياسات الأمريكية الظالمة للشعوب الضعيفة، ولا سيما بمظلمة القرن العشرين، ألا وهي قضية الشعب الفلسطيني واغتصاب دولته ومباركة الولايات المتّحدة لذلك في صلف وصفاقة لا حدود لهما.
قطعا، كان للعرب والمسلمين، في أحقاب سابقة، سبقت بقرون عديدة، الثورة الفرنسية التي أسفرت عن بروز مصطلح المثقف بمفهومه النقدي والنضالى، كتّاب ومفكّرون وفلاسفة وفقهاء سلاطين وعلماء دين صدرت عن القلّة القليلة منهم بعض المواقف الجريئة التي خلّدتهم وأبانت عن استقلالية مواقفهم لكنّها لم تكن، في الأغلب الأعمّ، في علاقة بقضايا الإنسان الأساسية، منخرطة على نحو ما في الرهان على بحث حلول لها، فيما لو استثنينا مواقف نادرة تهم الشأن العام، كموقف أحد أبرز الكُتّاب المسلمين غير العرب، ألا وهو عبد الله ابن المقفع. وهو الموقف الذي ضمّنه رؤيته في إصلاح الحكم والحاكم في ما وسمه ب"رسالة الصحابة". تلك الرسالة الشهيرة إلى الخليفة المنصور، التي لم تكتف بالإشارة إلى مساوئ النظام في علاقة بمن يحكم من ولاة وأمراء وحتّى الخليفة المنصور ذاته، وبمظاهر الفوضى والفساد وشقاء الرعية، بل طرحت الحلول الضرورية لتغيير الوضع نحو الأفضل، بما يجعل بن المقفع موضوعيّا أوّل مثقّف نقدي مسلم، فيما لو طبّقنا عليه بأثر رجعي مفهوم ومواصفات المثقّف كما أسلفنا تفصيلها. ما يعني تصنيفه خارج فئة المثقفين الذين إعتبرهم جوليان بندا خائنين- إشتقاقا من مصطلحه "خيانة المثقّف"- ووضعهم "خالد الحروب" في خانة «المثقف القطيع»، وبداهة، خارج قائمة من أسماهم بول نيزان Paul Nizan ب« كلاب الحراسة» من المطبّلين المدافعين عن خيارات السلطة. لذلك كان جزاء بن المقفع لا يختلف عن جزاء المهندس البيزنطي"سنمار"، وكانت نهايته شنيعة(2) ومأساوية إلى أبعد مدى، لا على صعيد الواقع فحسب بل وكذلك على صعيد ما فوق الواقع أي على الصعيد السريالي Surréalisme، لا بل وعلى صعيد ما فوق توثّب االخيال والتخييل الروائي والتسريد. اللافت في ذات سياق والفترة، أنّ الامام مالك بن انس، وهو قامة سامقة في الفقه والحديث، كان مطيعا لهذا الخليفة العبّاسي، حتّى أنّه ألف كتابه "الموطّأ" الشهير استجابة لطلبه ووفق أهمّ المعايير التي رسمها له مسبقا. أستذكر ذلك بصرف النظر عن القيمة العلميّة لكتاب "الموطّأ" الذي يعدّ اليوم مرجعا لا غنى عنه، إن في الفقه أوفي علم الحديث.
لذلك، فأنا أزعم - بل أكاد أجزم- أنّ أغلب مواقف النخب الفكرية العربيّة الإسلاميّة في الحقب التاريخية البعيدة كانت تدير الظهر لقضايا عصرها ولا تسعى إلى التغيير والإصلاح الإجتماعي والسياسي أو تطرح حلولا لمشاكل المواطنين/الرعايا، بل كانت تتعلّق بقضايا فكرية مثل (علاقة الفلسفة بالدين) أو مسائل دينية خلافية مثل (قضية خلق القرآن) و(قضيّة التشبيه والتجسيم) وهي، لعمري، لا تهمّ الرعيّة في شيء، ضرورة أنّها ( أيّ الرعيّة ) لم تكن ترداد المدارس -على قلّتها آنذاك- بالكثافة التي هي عليها اليوم، وذلك لتدنّي الوعي بأهمّية المعرفة والعلم. ليس هذا فقط، بل إن الرأي السائد عند قادة الفكر العربي والإسلامي، إلى زمن قريب، إنّما هو عدم تشريك العوام في الخوض في مثل هذه المسائل، من باب التحقير والإزدراء.
وهو ما يستبطنه عنوان مستفزّ لأبي حامد الغزالي" ألّفه في الغرض ووسمه ب"إلجام العوام عن علم الكلام". بما يعني الدعوة إلى عدم دمقرطة المعرفة، والإقرار بوجود هوّة سحيقة بين النخبة والعوام، مؤدّاها انحسار جهود قادة الفكر، في البحث والتدريس والمناظرات العلمية والسجالات النقدية في الفضاءات المغلقة داخل أسوار الجامعات وفي بطون الكتب ليس أكثر. بما يجعلهم منكفئين على أنفسهم في ابراجهم العاجية خارج دائرة الفعل المؤثر في المجتمع.
فحتّى فرقة المعتزلة رائدة العقلانيّة في الفكر الإسلامي، وإن نظرت إلى الإنسان باعتباره غاية الوجود وصاحب الإرادة والاختيار، فإنّها لم تواجه ما واجهته من حملات القتل والتعذيب، في عهد الخليفة المتوكّل، إلّا لرؤاها الفكريّة ولمتبنّياتها بتأسيس الدّين على العقل، واعتباره أقوى الأدلّة، ثمّ لمواقفها المخالفة لمواقف عموم المسلمين في قضيّة مرتكب الكبيرة وقضيّة خلق القرآن وليس لانخراطها في الشأن العام وتفاعلها مع قضايا المجتمع. لا بل وحتّى بن رشد، سليل الفكر المعتزلي هو الآخر، وهو من هو، أحد أعظم الفلاسفة العرب، إن لم يكن أعظمهم، لم ينل ما ناله من متاعب وتكفير ونفي جرّاء المؤامرات التي حيكت ضدّه وعصفت به، إلّا لأنه مشتغل «بالحكمة وعلوم الأوائل» أي بالفلسفة ولأنّه يرى أنّ الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) لا يتناقضان مثلما ذهب إلى ذلك أبو حامد الغزالي في “تهافت الفلاسفة”، ثمّ لانّ بعض شروح بن رشد لأرسطو أوّلت بانّها نالت من المقدّس كقوله «فقد ظهر أنّ الزهرة أحد الآلهة»
لقد إستدركت النخب العربية هذه النقيصة، في العصر الحديث، وتحديدا على مدى القرنين الماضيين، بفعل تأثرها وانبهارها بالحضارة الغربيّة فبذلت جهودا غير قليلة في مجالي الإصلاح الديني والنهوض الاجتماعي بدءا برفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في مصر وخير الدين باشا (1825-1889) في تونس وبطرس البستاني في لبنان، ثمّ مع محمّد عبده ورشيد رضا ومن سار على نهجهم. ولكن لضيق المجال سنعرض فقط إلى أكثرهم شهرة وتأثيرا، لأنّ مبحثنا في هذه الورقة إنّما هو المثقف النقدي وليس رواد النهضة العربية رغم دورهم المحوري في الإصلاح والتحديث.
فأمّا رفاعة الطهطاوي فقد طرح الإرهاصات الأولى للإصلاح ومنها فكرة الحريّة كسبيل للتقدم، واحترام خصوصيات الأقلّيات غير المسلمة. وهو الطرح الذي يتماهى بالتأكيد مع مفهوم الدولة المدنيّة الديمقراطيّة التي يشكل التعايش الآمن الناتج عن حريّة المعتقد أحد مرتكزاتها الأساسية وتمظهراتها في آن معا. وهو ينظر إلى الحكم باعتباره يرمي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة في آن معا. وأن سعادته في الدنيا تقتضي، توفّر حضارة مدنية كالتي قامت في أوروبا الحديثة.
لذلك نادى الطهطاوي، لتحديث المجتمع المصري، بضرورة التطوّر وإرساء الديمقراطية والحكم الدستورى وإشاعة التعليم للذكر والأنثى على حدّ السواء. وهي المفاهيم الفكرية الأساسيّة التي قامت عليها الدول الحديثة والمتقدّمة، والتي من بينها مبدأ المواطنة الذي وصفه بأنّه «المنافع العمومية التي تقوم على الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد» وهو تماما ما ترجمه قبل ذلك، شعار الثورة الفرنسيّة الذي أصبح لاحقا شعار فرنسا، منذ الجمهوريّة الثالثة. وقد حاول الطهطاوي وضع بعض أفكاره موضع التنفيذ بإنجاز مشاريع ذات طابع علمي لعلّ من أهمّها إنشاؤه لمدارس في اختصاصات متعددة وبعث مطبعة ومجلّة ثقافيّة ومكاتب محو الأمية. إلّا أنّ قدر هذه المحاولة، كان العرقلة والإجهاض من قبل السلطة، فكان جزاؤه النفي. ولكنّه يظلّ، رغما عن ذلك مثقّفا نقديّا فيما لو وظّفنا المفهوم بمفعول رجعي.
وأمّا خير الدين باشا المعروف في المشرق بخيرالدين التونسي فيعتبر هو الآخر أحد أبرز أعلام النهضة والتنوير في تونس، بل هو أبرزهم تاريخيا ومن حيث المساهمة-نظريّا وعمليّا- في بناء نهضة تونس الحديثة تماما كما الطهطاوي، حيث أنّه لم يكتف ببثّ روح اليقظة والنهوض في الأمّة وشحذ عزائم الإصلاح عن طريق نشر الفكر فحسب، بل إنّه طبّقه على أرض الواقع، فأنشأ سنة 1875، باعتباره رجل سياسة ونفوذ، المدرسة الصادقيّة لتعليم الفنون والعلوم الحديثة وطوّر مناهج التعليم التقليدي في جامع الزيتونة وأنشأ المكتبة العبدلية. ونظّم مؤسسّات الدولة تنظيما حديثا، ضمن خطة شاملة للإصلاح شملت التعليم والزراعة ونظام الضرائب وأتاحت سنّ تشريعات تخدم الإصلاح والتطور. كما سعى لبعث مصنع بخاري للسفن وتطوير شبكة الطرقات. أمّا عصارة أفكاره التي وفّقت بين الفكر الليبرالي القائم على الحكم الدستوري والحريّة الاقتصاديّة وبين التقاليد الإسلاميّة، فقد توزّعت بين كتاب "دراسة الأسس التي قامت عليها المدنيّة الغربيّة وكتابه الخالد “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الصادر 1868، وهي السنة ذاتها التي ظهر فيها الجزء الأوّل من كتاب “رأس المال” لكارل ماركس منظّر الفكر الشيوعي. وقد لمسناه فيه -كما الطهطاوي- متأثّرا بما شاهده في فرنسا من معالم نهضة حضاريّة وفكريّة واجتماعيّة وسياسيّة.
فهو يؤكّد ضمن مقدّمة الكتاب، الذي دعا فيه معاصريه إلى الاستعارة من الغرب من أجل الارتقاء بالأمة، أنّ الحكم المطلق الشمولي لا يؤدّي إلّا إلى التخلّف المزمن. وأنّ لا خوف على المسلمين إن هم اقتدوا بالحضارة الأوروبية، وأن لا غضاضة في اعتماد النظم الأوروبيّة في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصادية؛ لأنّها لا تتعارض في جوهرها مع النظم الإسلاميّة، بل إنّها تتوافق معها بشكل يكاد يكون كلّيّا، وأنّ استلهامها ليس سوى تنفيذ لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها. وهوما جعله ينادي بأن تؤسّس الدولة على دعامتي الحرية والعدل وتعدد مؤسسات الحكم ومشاركة “الرعايا”/المواطنين في إدارة شؤون الدولة، ملحّا على توفّر وعي الأمّة واستنارتها لتطالب بحقوقها ولتضمن مراقبة دواليب الحكم لتجنّب الاستبداد والانفراد بالحكم.
يضاف إلى ذلك دعوته إلى العدل والمساواة بين المواطنين وإصلاح أنظمة الحكم، ومناداته بمقاومة الدكتاتوريّة. ليس هذا فقط، بل نادى (وفق تعبيره) بحرية “المطبعة” بما هي حرية للرأي والكتابة والنشر وركن أساسي في إرساء الديمقراطيّة.
ومثلما عرقلت محاولة طهطاوي فإنّ محاولة خير الدين باشا عوّقت من قبل المعارضين للإصلاح وخاصةّ منهم باي تونس /الملك الحاكم. لذلك قال بلهجة المنكسر: «لقد حاولت أن أسير بالأمور في طريق العدالة والنزاهة والإخلاص، فذهب كل مسعاي سدى(...)»
ورغم أنّ خير الدين باشا لم يحقّق مراده من الإصلاح إلّا أنّه ترك بصمته الإصلاحيّة الواضحة في المجتمع التونسي الذي أصبح في موقع المركز، على الأقل، من حيث المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل ومن حيث انطلاق شرارة الثورة العربيّة الراهنة وتثبيت مسار ودعائم الحكم الديمقراطي في تونس رغم تعدّد المعوّقات الظرفيّة وكثرة الانفلاتات وتعدّد الأعداء المتربّصين بتونس وبثورتها من بين الأصدقاء والاشقّاء.
وما يمكن الإشارة إليه في النهاية، أنّه رغم أنّه قد برز إلى السطح في العالم العربي فكر تنويري نقدي، إصلاحي وتحديثي، إلّا إنّه لم يمثّل حركة نقدية إصلاحية جذريّة كإفراز لمنظومة فكريّة متكاملة تحمل مشروعا واضح المعالم وتمثّل مرجعيّة صلبة كما حدث في أوروبّا خلال القرنين السابع والثامن عشر بفضل لفيف من فلاسفة التنوير الغربيين الذين اعتبروا مثقّفين -بمفعول رجعي- وقد جمعهم هاجس القطع مع النظم السائدة والدفع إلى صياغات لفكر ونظم سياسية جديدين. بينما ما جمع بين المفكرين المعاصرين العرب الإصلاحيين إنّما كان مجرّد تفاعل إيجابي مع الحضارة الغربيّة أوردّة فعل على مشاريع التغريب، أكثر منها إبداع فكر إصلاحي ثوري لم يسبق إليه الآخرون، معضود بالانخراط في قضايا الشأن العام، تلك هي الإشكاليات التي واجهت التفكير الاصلاحي العربي الذي اكتفى باستجلاء الأسئلة والطروحات القديمة. التي طرحها الغرب فبل وأثناء نهضته.
ما نستخلصه في نهاية التحليل، هو إنّ العرب -عموما-لا يتوفّرون على مثقّفين وازنين، لأنّ وهجهم الثقافي باهت ولأنّ اهتماماتهم لا تلتفت إلى الشأن العام. ثمّ إن أغلبهم لا يخرج عن فلك السلطة فهو إمّا "مثقّف قطيع" أو "مثقّف خائن" أو مثقّف من فصيلة "كلاب حراسة" السلطة. ومن بين إستتباعات ذلك إنّ الوضع العربي يزداد إستفحالا كلّ يوم، ولا يكاد يخرج العرب من مطبّة حتّى يقعون في مطبّة أكبر منها. وأنا أردّ ذلك لا إلى ضحالة وبؤس السياسيين وفشلهم المريع فحسب، بل وكذلك إلى غياب المثقف النقدي/العضوي، حتّى لا أقول ضحالة وبؤس وفشل "المثقف" العربي في إثبات الذات في الحياة العامة، خارج الجدران المغلقة والإطار الأكاديمي المحدود.
عن شبكة نبأ