بقلم: فتحي المسكيني ، ريتشارد رورتي
لقد حدّد طوماس جيفرسون نبرةَ السياسة الليبرالية الأمريكية حين قال: "إنّ جاري لا يلحقه أيّ أذى منّي، إذا قلت إنّ هناك عشرين إلها أو لا إله البتة. إنّ مثاله قد ساعد على جلب الاحترام للفكرة القائلة بأنّ السياسة يمكن أن تُفصَل عن الاعتقادات المتعلّقة بقضايا ذات أهمية قصوى - أنّ الاعتقادات المتقاسَمة بين المواطنين حول هكذا قضايا ليست جوهرية بالنسبة إلى مجتمع ديمقراطي. ومثل عدّة وجوه أخرى من التنوير، كان جيفرسون يفترض أنّ ملكةً أخلاقية مشتركة بين المؤمن النموذجي وغير المؤمن النموذجي تكفي من أجل الفضيلة المدنية.
في ديمقراطية جيفرسونية يمكن للمواطنين أن يكونوا متديّنين أو غير متديّنين كما يشاءون طالما هم غير ’’متعصّبين’’
كان عددٌ من مثقّفي التنوير يريد أن يذهب إلى أبعد من ذلك، ويقول بما أنّ الاعتقادات الدينية قد أصبحت غير جوهرية بالنسبة إلى اللُّحمة السياسية، فإنّه يجب أن تُنبَذ بوصفها رطانة - ربما من أجل أن يُعوَّض ذلك (كما في الدول الماركسية الكليانية في القرن العشرين) بضرب من العقيدة السياسية العلمانية صراحةً التي يكون عليها أن تكوّن الوعي الأخلاقي للمواطن. ومرة أخرى، يحدّد جيفرسون نبرةَ المسألة حين رفض أن يذهب بعيدا. كان يتصوّر أنّه يكفي أن نجعل الدين أمرا خاصا، أن نرى إليه على أنّه غير مناسب للنظام الاجتماعي، ولكنّه مناسب، وإن أمكن جوهريّ، بالنسبة إلى الكمال الفردي. ففي ديمقراطية جيفرسونية يمكن للمواطنين أن يكونوا متديّنين أو غير متديّنين كما يشاءون طالما هم غير "متعصّبين". ذلك يعني أنّ عليهم أن يتخلّوا عن آرائهم أو يغيّروا منها فيما يتعلق بالقضايا ذات الأهمية القصوى، الآراء التي يمكن أن تكون قد أعطت إلى حدّ الآن معنى وغاية لحياتهم، إذا كانت تلك الآراء تؤدي إلى أعمال عمومية لا يمكن تبريرها أمام أغلبية المواطنين المماثلين لهم.
إنّ لهذا الحلّ الوسط الجيفرسوني فيما يخصّ العلاقة بين الكمال الروحاني والسياسة العمومية جانبيْن اثنين. فمن جانبه الإطلاقي، هو يقول إنّ كلّ كائن إنساني، ومن دون التميّز بوحي خاص، هو يتوفّر على كلّ الاعتقادات الضرورية للفضيلة المدنية. وتنبثق هذه الاعتقادات من ملكة إنسانية كونية، هي الوعي - الذي يمثّل امتلاكُه الماهية الإنسانية المخصوصة لكل كائن إنساني. إنّها هي الملكة التي تعطي للفرد الإنساني كرامةً وحقوقا، غير أنّه يوجد أيضا جانب براغماتي. ويقول هذا الجانب إنّه حين تجد الفردية في وعيها اعتقاداتٍ متفقةً مع السياسة العمومية بيد أنّه لا يمكن الدفاع عنها على قاعدة الاعتقادات المشتركة مع المواطنين المماثلين له، فإنّها ينبغي عليها أن تضحّي بوعيها على مذبح المصلحة العمومية.
إنّه يمكن إزالة التوتّر بين هذين الجانبين بواسطة نظرية فلسفية تطابق قابلية التبرير من أجل الإنسانية بعامة مع الحقيقة. إنّ فكرة التنوير عن "العقل" إنّما تجسّد هكذا نظرية: النظرية القائلة بأنّ ثمّة علاقة بين الماهية اللاتاريخية للنفس الإنسانية وبين الحقيقة الأخلاقية، علاقة تضمن لنا أنّ النقاش الحرّ والمفتوح لابدّ وأن ينتج "إجابة صحيحة واحدة" للمسائل الأخلاقية كما للمسائل العلمية. إنّ هكذا نظرية إنّما تكفل لنا أنّ اعتقادا أخلاقيا لا يمكن أن يُبرَّر أمام جمهور النوع البشري هو "لا معقول"، وهكذا هو في الواقع ليس نتاجا لملكتنا الأخلاقية بالكلية، بل، هو "حكم مسبق"، اعتقاد يأتي من جزء آخر من النفس غير "العقل". إنّه لا يشارك في قدسيّة الوعي، من أجل أنّه نتاج لضرب من الوعي الزائف - شيء ليس فقدُه تضحية، بل تطهيرا.
إنّ هذا التبرير العقلاني للحلّ الوسط الذي يقترحه التنوير قد جُرِّد في قرننا من مصداقيته. لقد نفض المثقفون المعاصرون أيديهم من افتراض التنوير بأنّ الدين والأسطورة والتراث يمكن أن تُعارَض بشيء لا تاريخي، شيء مشترك بين كل الكائنات الإنسانية من حيث هي إنسانية. إنّ علماء الإناسة ومؤرخي العلوم قد شوّشوا التمييزَ بين المعقولية الفطرية ونتاجات التثقيف. وإنّ فلاسفة من جنس هيدغر وغادمير قد منحونا وسائل النظر إلى الكائنات الإنسانية على أنّها تاريخية من أقصاها إلى أقصاها. في حين أنّ فلاسفة آخرين، مثل كواين وديفيدسن، قد شوّشوا التمييز بين حقائق العقل الدائمة ووقائع الحقيقة المؤقتة. أمّا التحليل النفسي، فقد شوّش التمييز بين الوعي وبين مشاعر الحب والكره والخوف، وبالتالي التمييز بين الخلُق والكياسة. إنّ النتيجة هي محو صورة الأنا المشتركة للميتافيزيقا اليونانية واللاهوت المسيحي وعقلانية التنوير: صورةُ مركزٍ طبيعي لا تاريخي، هو محلّ الكرامة الإنسانية، مطوَّقٍ بمحيط عارض ولا ماهية له.
إنّ مفعول محو هذه الصورة هو كسر الحلقة الرابطة بين الحقيقة وقابلية التبرير. فهذا الأمر، تبعا لذلك، إنّما يدمّر الجسر الذي بين جانبيْ حل الوسط الذي يقدّمه التنوير. إنّ مفعول ذلك هو بناء النظرية الاجتماعية الليبرالية على القطب الواحد. فإذا نحن بقينا على الجانب الإطلاقي، فنحن سوف نتكلّم عن "حقوق الإنسان" التي لا تقبل الاستلاب وعن "إجابة صحيحة واحدة" للمعضلات الأخلاقية والسياسية من دون أن نحاول تأييد هكذا كلام بنظرية عن الطبيعة الإنسانية. سوف نتخلى عن الاعتبارات الميتافيزيقية لما هو الحق، ولكن مع التوكيد على أنّه في أيّ مكان، في كل الأوقات والثقافات، كان لأعضاء من نوعنا نفسُ الحقوق. غير أنّه إذا ملنا إلى الجانب البراغماتي، واعتبرنا الكلام عن "الحقوق" محاولة للتمتّع بفوائد الميتافيزيقا من دون تحمّل المسؤوليات المناسبة، فإنّنا سوف نحتاج مع ذلك إلى شيء ما من أجل أن نميّز صنف الوعي الفردي الذي نحترمه عن الصنف الذي ندينه بوصفه "متعصّبا". إنّ هذا يمكن أن يكون فقط شيئا ما في نسبة منه محلّيا وتشوبه مركزية عرقية - تقليد جماعة مخصوصة، وإجماع ثقافة جزئية. وبحسب هذه النظرة، فإنّ ما يُعدّ عقلانيا أو متعصّبا هو كذلك بالنسبة إلى الفريق الذي نتصوّر بالنظر إليه أنّ ذلك ضروري من أجل تبرير أنفسنا - بالنظر إلى متن الاعتقادات المتقاسَمة التي تعيّن مرجعية اللفظة "نحن". إنّ التماهي الكانطي مع ذات مركزية عابرة للثقافات ولا تاريخية قد عُوِّض هكذا بتماهٍ شبه هيغلي مع جماعتنا الخاصة، مفكَّرا فيها باعتبارها نتاجا تاريخيا. وبالنسبة إلى النظرية الاجتماعية البراغماتية، فإنّ السؤال عمّا إذا كانت قابلية التبرير من أجل الجماعة التي نتماهى معها تتضمّن الحقيقة هو بكل بساطة في غير محلّه.
إنّ رونالد دوُورْكين وآخرين ممّن أخذوا فكرة "حقوق" إنسانية لا تاريخية مأخذَ الجدّ، إنّما يصلحون مثالا عن القطب الأوّل الإطلاقي. وإنّ جون ديوي، كما سأدلّل على ذلك بسرعة، وجون راولس يصلحان أمثلة عن القطب الثاني، غير أنّه يوجد نمط ثالث من النظرية الاجتماعية - يُلقَّب غالبا بــ"الجماعوية" هو أصعب تحديدا. وبالجملة فإنّ الكتّاب الملقّبين بهذا اللقب هم أولئك الذين ينبذون معاً العقلانية الفردانية للتنوير وفكرة "الحقوق"، ولكنّهم، على خلاف البراغماتيين، يرون هذا النبذ على أنّه إلقاء بضلال الشكّ على مؤسسات الدول الديمقراطية التي ما تزال موجودة وثقافتها. إنّ هكذا منظّرين إنّما يضمّون روبارت باللاّه وألاسدايير ماكإنتاير وميكاييل صاندال وشارلز تايلور وروبارتو أنغار الأول، وعديد الآخرين. هؤلاء الكتّاب يتقاسمون قدرا معيّنا من الاتفاق مع نظرة موجودة في صيغة قصوى على حدّ سواء لدى هيدغر وضمن جدلية التنوير لهوركهاير وأدرنو. إنّها النظرة القاضية بأنّ المؤسسات والثقافة الليبرالية، إمّا لا يجب وإمّا لا يمكن أن تنجو من انهيار التبرير الفلسفي الذي كان التنوير يوفّره لها.
إنّ ثلاثة خيوط في مذهب الجماعوية تحتاج لأنْ يقع حلّها. أوّلا، ثمّة التنبّؤ الأمبريقي بأنّه ليس هناك أيّ مجتمع ترك جانبا فكرةَ حقيقة أخلاقية لا تاريخية بالطريقة اللامبالية التي يدعو إليها ديوي، يمكن أن يبقى حيّا. مثلا كان هركهايمر وأدورنو يرتابان من أنّه لا يمكن أن تكون لك جماعة أخلاقية في عالم منزوع القداسة، لأنّ التسامح يقود البراغماتية، وأنّه ليس واضحا كيف يمكننا أن نقي "فكرا خضع للبراغماتية على نحو أعمى 'من أن يفقد' صفته المفارقة وعلاقته بالحقيقة". إنّهما يتصوّران أنّ البراغماتية قد كانت الحصيلة المحتومة لعقلانية التنوير وأنّ البراغماتية ليست فلسفة قوية كفايةً حتى تجعل جماعة أخلاقية ممكنة. وثانيا، ثمّة الحكم الأخلاقي بأنّ نوع الكائن البشري الذي أنتجته المؤسسات والثقافة الليبرالية هو غير مرغوب فيه. مثلا، يتصوّر ماكْإِنْتاير أنّ ثقافتنا - وهي ثقافة يهيمن عليها، كما يقول، "فنّي التجميل الثريّ، مدير الشركة والخبير في الاستشفاء" - هي برهان الخلف على طرق النظر الفلسفية التي ساعدت على خلقها وعلى تلك التي استُدعيت الآن للدفاع عنها. وثالثا، ثمّة الدعوى بأنّ المؤسسات السياسية "تفترض" نظرية عن الطبيعة الإنسانية، وأنّ هكذا نظرية ينبغي، على خلاف عقلانية التنوير، أن توضّح الطابع التاريخي للذات والذي هو تاريخي أساسا. بذلك، نحن نجد كتّابا مثل تايلور وصندال يقولون إنّنا نحتاج إلى نظرية عن الذات تدمج وتجسّد المعنى الهيغلي والهيدغري لتاريخية الذات.
إنّ الدعوى الأولى هي دعوى أمبيريقية وسوسيولوجية-تاريخية صراحةً تتعلق بالغِراء المطلوب ليُبقي على جماعة ما متماسكة. والدعوى الثانية هي رأساً حكم أخلاقي بأنّ مزايا الديمقراطية الليبرالية المعاصرة هي أقلّ وزنا من مضارّها والطابع البشع والقذر للثقافة والكائنات البشرية الفردية التي تنتجها. أمّا الدعوى الثالثة، فهي، بالمقابل، الأكثر إرباكا وتعقّدا. وأنا سوف أركّز على هذه الدعوى الثالثة، الأكثر إرباكا، وإنْ كنت عند النهاية سوف أعود بإيجاز إلى الاثنتين الأوليْين.
من أجل تقويم هذه الدعوى الثالثة، نحن نحتاج إلى أن نسأل سؤاليْن؛ الأول هو ما إذا كان ثمّة أيّ معنى "تحتاج" فيه الديمقراطية الليبرالية إلى تبرير فلسفي أصلا. فالذين يتقاسمون براغماتية ديوي سوف يقولون إنّه رغم أنّها قد تحتاج إلى صياغة فلسفية، فهي لن تحتاج إلى سند فلسفي. من هذه الزاوية، فإنّ فيلسوف الديمقراطية الليبرالية قد يأمل في تطوير نظرية عن الذات الإنسانية تنسجم مع المؤسسات التي يحبّها أو تحبّها. بيد أنّ هكذا فيلسوف هو بذلك لا يبرّر هذه المؤسسات بالرجوع إلى مقدمات أساسية أكثر، بل بالعكس: هو يقوم أو هي تقوم بوضع السياسة في المقام الأول ثمّ تصنع لها فلسفة كساءً. أمّا الجماعيون فهم، بالمقابل، يتكلمون غالبا وكأنّ المؤسسات السياسية لم تكن أفضل من تأسيساتها الفلسفية.
أمّا السؤال الثاني، فهو من النوع الذي يمكن أن نسأله حتى ولو وضعنا التقابل بين التبرير والصياغة جانبا. إنّه السؤال عمّا إذا كان تصوّرُ الذات الذي يجعل، كما يقول تايلور، "الجماعة مقوِّمةً للفرد"، من شأنه أن يتماشى مع الديمقراطية الليبرالية على نحو أفضل ممّا يفعل تصوّرُ التنوير للذات. إنّ تايلور يلخّص هذا الأخير بوصفه "مثلا أعلى لعدم الالتزام" يكشف لنا عن "مفهوم حديث على نحو مخصوص" للكرامة الإنسانية: "القدرة على الفعل بأنفسنا، دون أيّ تدخّل أو خضوع خارجيّ لنفوذ خارجي." وبحسب نظر تايلور، كما عند هيدغر، فإنّ مفاهيم التنوير هذه مرتبطة تماما بالأفكار الحديثة بخاصة عن "النجاعة والسلطة والرصانة." إنّها مرتبطة تماما أيضا بالشكل المعاصر لعقيدة تقديس الوعي الفردي - دعوى دواركين بأنّ نداءات الحقوق "يعلو صوتُها" على كلّ النداءات الأخرى. إنّ تايلور، مثل هيدغر، يريد أن يستبدل ذلك بتصوّر أقلّ فردانية لما ينبغي أن يكون إنسانيا بخاصة - تصوّر يفعل أقلّ للاستقلال وأكثر للتبعية المتبادلة.
إنّه يمكنني أن أستشرف ما هو آت بأنْ أقول إنّني سوف أجيب "لا" على السؤال الأول حول الدعوى الثالثة للجماعويين و"نعم" على الثاني. سوف أدلّل على أنّ رولس، متّبعا ديوي، قد بيّن لنا كيف تستطيع الديمقراطية الليبرالية أن تتدبّر أمرها من دون مسبّقات فلسفية. هو قد بيّن لنا بذلك كيف يمكننا أن نتجاهل الدعوى الجماعوية الثالثة. لكنّني سوف أدلّل أيضا على أنّ الجماعويين مثل تايلور هم على حقّ حين يقولون إنّ تصوّرا للذات يجعل الجماعة مقوِّمةً للذات، إنّما يتلاءم جيّدا مع الديمقراطية الليبرالية. ذلك يعني، متى أردنا أن نكسو صورةَ-ذاتنا لحما من حيث نحن مواطنو هكذا ديمقراطية بواسطة نظرة فلسفية للذات، أنّ تايلور يقدّم لنا إلى حدّ ما النظرة الصائبة. لكنّ هذا النوع من الكساء الفلسفي ليس يملك الأهمية التي أولاها له كتّاب من قبيل هوركهايمر وأدرنو، أو هيدغر.
ودون ديباجة أكثر، أنا أنعطف الآن نحو رولس. سوف أبدأ بلفت النظر إلى أنّه في نظرية العدل وما لحق بها جميعا، هو قد ربط موقفه الخاص بالمثال الجيفرسوني عن التسامح الديني. ففي مقال سُمّي "العدل بما هو إنصاف: سياسي لا ميتافيزيقي"، هو يقول إنّه "يذهب إلى تطبيق مبدأ التسامح على الفلسفة ذاتها"، ويذهب في القول:
"إنّ النقطة الجوهرية هي هذه: ليس هناك تصوّر أخلاقي عام يمكن، من حيث هو مسألة سياسية عملية، أن يوفّر قاعدة يقوم عليها تصوّر عمومي للعدل في نطاق مجتمع ديمقراطي حديث. فإنّ الشروط الاجتماعية والتاريخية لهكذا مجتمع إنّما تملك جذورها ضمن حروب الأديان التي تلت الإصلاح وتطوير مبدأ التسامح، وفي نطاق نموّ الحكم الدستوري ومؤسسات اقتصاديات السوق الواسعة. إنّ هذه الشروط تؤثّر بشكل عميق على متطلّبات تصوّر للعدل السياسي قابل للتشغيل: إنّ هكذا تصوّر ينبغي أن يضع في حسبانه جملة متنوعة من النظريات وتعددَ التصورات، المتصارعة وفي الواقع غير المتقايسة، للخير الذي ينادي به أعضاء المجتمعات الديمقراطية الموجودة."
إنّه يمكننا أن نقول بخصوص رولس بأنّه كما أنّ مبدأ التسامح الديني والفكر الاجتماعي للتنوير قد اقترحا أن نضع بين قوسين عديدَ الموضوعات اللاهوتية النمطية عند مناقشة السياسة العمومية وبناء المؤسسات السياسية، كذلك نحن نحتاج إلى أن نضع بين قوسين عديد الموضوعات النمطية للبحث الفلسفي. فبالنسبة إلى مقاصد النظرية الاجتماعية، نحن يمكن أن نضع جانباً موضوعات من قبيل الطبيعة الإنسانية اللاتاريخية، وطبيعة ذاتيتنا، وحافز السلوك الأخلاقي، ودلالة الحياة الإنسانية. نحن نعالج هذه الموضوعات باعتبارها غير مناسبة للسياسة كما فكّر جيفرسون في المسائل المتعلقة بالتثليث والمتعلقة بتحوّل القربان.
وبقدر ما اعتنق هذا الموقف، جرّد رولس عديد الاعتراضات النقدية التي كانت قد وُجِّهت إلى الليبرالية الأمريكية على أثَر هوركهايمر وأدورنو، من سلاحها. ويستطيع رولس أن يوافق على أنّ جيفرسون وحلقته قد تقاسما عدة وجهات نظر فلسفية مشكوك فيها، وجهات نظر يمكننا أن نأمل الآن في التخلص منها. نحن يمكننا حتى أن نتفق مع هوركهايمر وأدورنو، كما كان يمكن لديوي أن يفعل، على أنّ وجهات النظر هذه كانت تحتوي على بذور انهيارها. لكنّه يعتقد أنّ العلاج قد لا يكون بأنْ نصوغ وجهات نظر فلسفية أفضل حول نفس الموضوعات، بل (من أجل النظرية السياسية) بأنْ نتجاهل لأسباب صحّية هذه الموضوعات. وكما يقول:
إنّ العدل بما هو إنصاف هو تصوّر سياسي، في شطر منه، لأنّه يبدأ انطلاقا من تقليد سياسي معيّن
"بما أنّ العدل بما هو إنصاف هو مقصود باعتباره تصوّرا سياسيا للعدل بالنسبة إلى مجتمع ديمقراطي، فهو يحاول أن يقوم فقط على أفكار حدسية أوّلية هي مطمورة في المؤسسات السياسية لمجتمع ديمقراطي والتقاليد العمومية لتأويلها. إنّ العدل بما هو إنصاف هو تصوّر سياسي، في شطر منه، لأنّه يبدأ انطلاقا من تقليد سياسي معيّن. نحن نأمل في أنّ هذا التصوّر السياسي للعدل قد يُسنَدُ على الأقلّ من قِبل ما يمكن أن نسمّيه "الإجماع المتداخل"، بمعنى، من قِبل إجماع يتضمّن كلّ المذاهب الفلسفية والدينية المتعارضة التي يُرجَّح أن تدوم وأن تكسب مُوالين لها في نطاق مجتمع ديمقراطي ودستوري بخاصة بقدر أو بآخر."
ويتصوّر رولس أنّ "الفلسفة من حيث هي بحث عن الحقيقة التي من شأن نظام أخلاقي وميتافيزيقي مستقلّ ... لا يمكن أن توفّر قاعدة عملية ومتقاسَمة لتصوّر سياسي للعدل ضمن مجتمع ديمقراطي". لذلك هو يقترح علينا أن نقصُر أنفسنا على تجميع "هذا النوع من القناعات الراسخة من قبيل الاعتقاد في التسامح الديني ورفض العبودية" ومن ثمّ "أن نحاول تنظيم الأفكار والمبادئ الحدسية الأوّلية المتضمَّنة في هذه القناعات في إطار تصوّر متّسق للعدل."
إنّ هذا الموقف هو بالكلية تاريخاني ومضاد للكونية. فقد يمكن لرولس ، على نحو صادق، أن يتفق مع هيغل وديوي ضدّ كانط ويستطيع أن يقول إنّ محاولة التنوير تحرير النفس من التقليد والتاريخ، والدعوة إلى "الطبيعة" أو "العقل"، قد كانت مخيّبة للآمال، وهو يمكن أن يرى هذا النوع من الدعوة محاولةً غير سديدة لجعل الفلسفة تفعل ما فشل اللاهوت في فعله. إنّ جهد رولس الهادف، حسب عباراته، إلى أن "يبقى، في المستوى الفلسفي، على السطح"، يمكن أن يُنظر إليه بوصفه يدفع تحاشي جيفرسون للاهوت خطوةً أخرى.
وبحسب جهة النظر الديوية التي أنسبها إلى رولس، ليس اختصاصا من نوع "الأنثروبولوجيا الفلسفية" هو ما هو مطلوب باعتباره مقدمة للسياسة، بل التاريخ والاجتماع فحسب. وعلاوة على ذلك، إنّه من الضلال أن نظنّ بوجهة نظره كما صنع دواركين: كونها "مبنية-على-قاعدة-الحقوق" في مقابل "المبني-على-قاعدة-الأهداف"، إذْ إنّ مصطلح "القاعدة" لا يدخل في نكتة الأمر. ليس أنّنا نعرف، لأسباب فلسفية سابقة، أنّ من شأن ماهية الموجودات الإنسانية أن تكون لها حقوق، ومن ثمّ أنّنا نجري السؤال كيف يمكن لمجتمع أن يحفظ وأن يحمي هذه الحقوق. فإنّ رولس هو، في مسألة الأولويّة، كما في مسألة نسبية العدل بالنظر إلى وضعيات تاريخية، أقرب إلى فالزار منه إلى دواركين. بما أنّ رولس لا يعتقد أنّنا، فيما يتعلق بمقاصد النظرية السياسية، نحتاج إلى التفكير في أنفسنا بوصفنا نملك ماهية تسبق وتتقدّم التاريخ، فهو لن يتفق مع صاندال على أنّنا، فيما يتعلق بهذه المقاصد، نحتاج إلى امتلاك بيان عن "طبيعة الذات الأخلاقية"، التي هي "بمعنى ما ضرورية، غير-عرضية وقبلية إزاء أيّة تجربة جزئية." قد يمكن أن يكون بعضُ أسلافنا قد طالب بهكذا بيان، تماما كما طالب بعض أسلافنا الآخرين ببيان عن علاقتهم بخالقهم المفترض. ولكن نحن - نحن ورثة التنوير الذي أصبح العدل عنده الفضيلة الأولى - لا نحتاج لا هذا ولا ذاك. بوصفنا مواطنين وبوصفنا منظّرين اجتماعيين، نحن نستطيع أن نكون غير مبالين إزاء الخلافات الفلسفية حول طبيعة الذات بقدر ما كان جيفرسون إزاء الاختلافات اللاهوتية حول طبيعة الربّ.
وقد توحي النقطة الأخيرة إلينا بطريقة لزيادة حدّة دعواي بأنّ دفاع رولس عن التسامح الفلسفي هو توسيع مستساغ لدفاع جيفرسون عن التسامح الديني. "الدين" و"الفلسفة" هما الاثنان مصطلحان شاملان غامضان، والاثنان هما موضوع لتعريفات جديدة مقنعة. وحين يُعرَّف هذان المصطلحان على نحو بيّن كفايةً، فإنّ أيّاً كان، حتى من الملحدين، سوف يقول إنّه يملك إيمانا دينيا (بالمعنى الذي قصده تلّيش عن "رمز ذي أهمّية عليا"). إنّ أيّاً كان، حتى أولئك الذين يجتنبون الميتافيزيقا ونظرية المعرفة، سوف يقول إنّه يمتلك "مسبّقات فلسفية." بيد أنّه من أجل تأويل جيفرسون ورولس، نحن ينبغي أن نستعمل تعريفات أكثر دقة. لنجعل "الدين" يعني، بالنظر إلى مقاصد جيفرسون، خصومات حول طبيعة اسم الربّ وحقيقته - بل حتى حول وجوده. ولنجعل "الفلسفة" تعني، بالنظر إلى مقاصد رولس، خصومات حول طبيعة الموجودات الإنسانية وحتى حول ما إذا كان ثمّة شيء مثل "الطبيعة الإنسانية". باستعمال هذه التعريفات، يمكننا القول إنّ رولس يريد من الاعتبارات حول طبيعة الإنسان وغايته أن تُفصَل عن السياسة. وكما يقول، فهو يريد من تصوّره للعدل أن "يتحاشى ... الدعاوي المتعلقة بالطبيعة والهوية الجوهرية للأشخاص." وهكذا من المحتمل أنّه يريد من المسائل المتعلقة بنكتة الكيان الإنساني، أو دلالة الحياة الإنسانية، أن يُحتفَظ بها للحياة الخاصة. إنّ ديمقراطية ليبرالية ليس فقط سوف تعفي الآراء حول هذا النوع من القضايا من الإكراه القانوني، بل سوف تتوجّه نحو فصل النقاشات حول هذا النوع من المسائل عن النقاشات المتعلقة بالسياسة الاجتماعية. وعلى ذلك، هي سوف تستعمل القوة ضدّ الوعي الفردي، وذلك فقط بقدر ما يقود الوعيُ الأفرادَ إلى الفعل على نحو يهدّد المؤسسات الديمقراطية. وعلى خلاف جيفرسون، فإنّ حجة رولس ضدّ التطرّف ليس أنّه يهدّد الحقيقة المتعلقة بالخصائص التي من شأن نظام أخلاقي وميتافيزيقي سابق بتهديد النقاش الحر، بل بكل بساطة أنّه يهدّد الحرية، ومن ثمّ يهدّد العدل. إنّ الحقيقة المتعلقة بكيان هذا النظام أو بطبيعته قد سقطت.
إنّ تعريف "الفلسفة" الذي كنت اقترحته للتوّ ليس مصطنعا ومن ثمّ ليس كما قد يبدو. فمن عادة مؤرّخي الأفكار أن يعامل "طبيعة الذات الإنسانية" بوصفها المبحث الذي هو شيئا فشيئا قد عوّض "الإله" عندما علمنت الثقافة الأوروبية نفسها. ذلك كان المبحث الرئيس للميتافيزيقا ونظرية المعرفة منذ القرن السابع عشر إلى الوقت الحاضر، و، للأحسن أو للأسوأ، تمّ اتخاذ الميتافيزيقا ونظرية المعرفة من أجل أن تكونا "لبّ" الفلسفة. وبقدر ما يفكّر أحدٌ بأنّ النتائج السياسية تتطلّب أسسًا خارجة عن السياسة - بمعنى، بقدر ما يفكّر أحدٌ بأنّ منهج رولس عن التوازن المتفكّر ليس جيّدا كفايةً - فهو سوف يرغب في توضيح "النفوذ" التي من شأن هذه المبادئ.
وإذا شعر أحد بحاجة إلى هكذا شرعنة، فهو سوف يرغب إمّا في مدخل ديني أو في مدخل فلسفي للسياسة. سوف يكون مستعدا على الأرجح لأنْ يشاطر هوركهايمر و أدورنو خوفهما من أنّ البراغماتية ليست قوية كفايةً لكي تحفظ لمجتمع حرّ تماسكه. لكنّ رولس يرجع صدى ديوي حين يقترح أنّه بقدر ما يصبح العدل الفضيلة الأولى للمجتمع، فإنّ الحاجة إلى هكذا شرعنة قد يتلاشى الشعور بها تدريجيا. سوف يصبح هكذا مجتمع متعوّدا على التفكير بأنّ السياسة الاجتماعية لا تحتاج إلى النفوذ بقدر ما تحتاج إلى تكيّف ناجح بين الأفراد، الأفراد الذين يجدون أنفسهم وُرَثاء التقاليد التاريخية نفسها ويواجهون المشاكل نفسها. سوف يكون مجتمع يشجّع "نهاية الأيديولوجيات"، ويتّخذ التوازن المتفكّر بوصفه المنهج الوحيد الذي يُحتاج له عند مناقشة السياسة الاجتماعية. وحين يطلب هكذا مجتمع المشورةَ، حين يجمع المبادئ والحدوس من أجل أن يؤخذ بها في تحقيق التوازن، فهو سوف يميل إلى نبذ تلك المنتزعة من البيانات الفلسفية عن الذات أو عن المعقولية. وذلك لأنّ هكذا مجتمع سوف ينظر إلى هكذا بيانات ليس بوصفها أسسًا للمؤسسات السياسية، بل بوصفها، في أسوء الحالات، رطانة بلا معنى، أو، في أحسن الحالات، بوصفها مناسبة للبحوث الخاصة عن الكمال، ولكن ليست مناسبة للسياسة الاجتماعية.