حركة خارج السرب | «ريك ومورتي»: التجربة سبيلًا لاكتشاف الذات المتجدّدة
«ريك ومورتي»: التجربة سبيلًا لاكتشاف الذات المتجدّدة
2019-02-22 | 2009 مشاهدة
مقالات

رغم أن جملته الشهيرة «ووبا لوبا دوب دوب» تعني «أنقذني، فأنا في ألم كبير»، إلا أن ريك سانشيز يعرف كيف يواجه أي إحباط يراوده تجاه عبثية الحياة. ففي كل حلقة من حلقات المسلسل «ريك ومورتي» تتضمن الحبكة الرئيسة وجود مغامرة ما يقوم بها ريك وحفيده مورتي، قد تخاض في عالمنا أو في عوالم أخرى في أكوان موازية.

ضمن سياق كوميدي، يطرح المسلسل مفهوم التجربة كقيمة للوجود الإنساني، ونرى هذا مجسدًا في شخصية ريك، العالِم العبقري. ففي الحلقة الثانية من الموسم الثالث يقول ريك: «أن تعيش يعني أن تخاطر بكل شيء، وإلا فأنت فقط عبارة عن كتلة خامدة من الجزيئات المجمّعة بشكل عشوائي، تنساق حيثما يقذفها الكون».

إن رؤية ريك لمعنى الوجود مبنية على أساس علاقة جدلية بين الذات والتجربة، حيث أن التجربة هي فعل مجدّد ومغيّر للذات، وبالمقابل فإن الذات هي الفاعل في أي تجربة وفي نفس الوقت، هي الموضوع الخاضع للتجربة.

رحلة البطل واختبار المغامرة

في كتابه «البطل ذو الألف وجه» يدرس جوزيف كامبل بناء القصص الميثولوجية على مرّ الحضارات البشرية، فيحدد الخطوات المميزة للرحلة التي يقوم بها البطل في كل قصة. إذ تبدأ الدورة بدعوة البطل للقيام بالرحلة، وعندما يلبي البطل هذه الدعوة يواجه صعوبات عدة، يتغلب عليها ليعود من رحلته بمعارف جديدة. يقول كامبل في كتابه موضحًا: «يترك البطل عالم الحياة اليومية ويفتش عن مجال المعجزة في ما فوق الطبيعة، فإذا ما تغلب على قوى هائلة، وأحرز نصرًا حاسمًا، يعود عند ذلك من رحلته المليئة بالأسرار مع المقدرة لكي يزود بني البشر من جنسه بالنعم والبركات».

ما يصفه كامبل هنا هو رحلة البطل الخارجية، والداخلية بالضرورة لكونها تنتهي باكتشاف جانب ما من النفس، إذ يختبر البطل خلال رحلته ظروفًا وصعوبات ومواقف مختلفة فيرى ويسمع ويستقبل ويعطي. هذه الاختبارات كلها عبارة عن تجارب تؤدي حتمًا لإضافات جديدة؛ إما فهم جديد أو رؤية مختلفة أو تغيير لرؤية قديمة، وينعكس هذا على البطل فيرى في نفسه ذاتًا جديدة.

ولكن، ورغم أن رحلة البطل هي رحلة تجاه النفس أولًا وآخرًا، وأنه لا يمكن التقليل من أهمية نتائج هذه الرحلة وماتم تحصيله منها من معرفة ورؤى، إلا أن المعنى الحقيقي يكمن في اختبار الرحلة وليس في التحصيل النهائي. لأنه إذا تم تطبيق هذه الخطوات الرمزية على الحياة الواقعية للإنسان، فإن رحلة البطل لا تنتهي إلا لتبدأ رحلة أخرى، وكل رحلة تنتهي باكتشافات جديدة تضاف على الاكتشافات السابقة، أو حتى تعارضها وتنفيها، لتسبب تغييرًا في الذات القديمة قد يصل في بعض الأحيان إلى موتها بالكامل.

في الحلقة السادسة من الموسم الأول من «ريك ومورتي»، تفشل تجربة علمية يقوم بها ريك، مما يؤدي إلى دمار الحياة البشرية في هذا العالم. وبسبب امتلاك ريك جهازًا للسفر عبر الأكوان المتوازية كان قد اخترعه مسبقًا، يتمكن من البحث عن كونٍ موازٍ يكون الخط الزمني فيه ملائمًا للانتقال إليه ومتابعة الحياة فيه، فيجد خطًا زمنيا تتعرض فيه شخصيتا ريك ومورتي التابعتين له إلى حادثة انفجار أثناء عملهما وحيدين في كراج المنزل، مما يؤدي لموتهما. في النهاية، تختتم الحلقة بمشهد مليء بالمشاعر المؤلمة والمربكة حيث يقوم كل من ريك ومورتي بدفن جثتي شخصيتيهما الميتتين في حديقة المنزل، ومتابعة حياتيهما في هذا الكون الآخر.

الرمزية المتمثلة بدمار الكون والانتقال إلى عالم مختلف ليست بعيدة عن الحياة الإنسانية الواقعية، إذ تتم رؤية العالم بشكل جديد تحت ضوء أي تغيير في المعرفة، مما يؤدي إلى تغيير في نظرة المرء تجاه واقعه المعاش فيبدو وكأنه يرى عالمًا مختلفًا، وهذا ما يصفه كامبل بأنه النتيجة التي تنعكس على البطل بعد رحلته. الأمر مماثل في رمزية دفن الذات، فبعد خوض تجربة ما، تحدث تغييرات قد تنفي ما كانت عليه الذات مسبقًا، إذ أن بعض الأحداث تتطلب موتًا في جوانب النفس البشرية كي تفسح المجال لجوانب أخرى للوجود.

إن المعنى لدى ريك لم يكن مرتبطًا بعالمه السابق ولا بذاته القديمة، بل مرتبط فقط فيما يستطيع اختباره بالتجربة المستمرة. ولكن تبني موقف كهذا تجاه الحياة يتطلب إدراكًا لمفهوم الذات يتخطى أي تعريف حتمي.

نقشت عبارة «اعرف نفسك» على باب معبد أبولو، دون أن يُعرف من كتبها حقًا. وكان أول من وضعها تحت قيد الدراسة الفيلسوف الإغريقي سقراط الذي قرر أن يسعى لمعرفة نفسه، وأمضى حياته محاولًا ذلك، ليفشل في النهاية، ويستنتج استحالة معرفة أي شيء. إن سقراط أخذ على عاتقه هذه المهمة بحثًا عن حقيقة نهائية، جوهرية وثابتة، يمكن الوصول إليها. ولو أنه نظر للأمر بموضوعية أكبر لرأى في الواقع أن النفس متغيرة ومعرفتها لحظية، وأن الحقيقة تكمن باختبار هذه التغييرات.

في المقابل، تقدّم الفلسفة الهندوسية نظرة آنية إلى الذات البشرية تتخطى كل ما يمكن أن يتحول إلى قيدٍ على الحرية الوجودية، فنصوص البهاغافاد غيتا تعرّف النفس بأنها ما بعد الجسد وما بعد العقل والشخصية. إن عبارة «أنا لست أفكاري، أنا الانتباه الشاهد عليها» تفسّر أن للإنسان طبيعة لامركزية، مستمرة بالتغيير، وبالتالي فإن سياق اللحظة الحالية فقط ما يمكننا من تعريف الذات.

إن رغبة ريك بالمجازفة بكل شيء نابعة عن وعي بلا مركزية ذاته، وعن فضول تجاه ما يمكن أن يستخرج منها بالتجارب المختلفة، فهو على علم بأن التجربة كفيلة بإيجاد احتمالات متعددة للكينونة.

لعل أكثر ما يمثل هذه الفكرة هو الجانب المتعلق بتعدد الأكوان في المسلسل، فعلى الرغم من طرحه كخيال علمي، ولكن من الناحية الفلسفية فهو واقعي للغاية. إن فكرة الأكوان المتوازية مبنية على أساس تمثيل جميع الاحتمالات الممكنة لأي سياق، وبالتالي فإن الكون المتعدد لا نهائي. يتحدث مهندس النانوكيمياء عمر قاسم عن الفكرة موضحًا أن «أي حدث يقع في الكون ينجم عنه نشوء أكوان أخرى متفرعة، عددها يساوي عدد احتمالات نتائج الحدث الذي وقع بالفعل، وهذا يعني أن هذه الأكوان المتعددة تتكون في كل لحظة، وأن عددها لا نهائي». فإذا ما تمت رؤية الذات على أنها احتمال واحد من احتمالات لا متناهية، تنشأ عن هذه الرؤية حرية وجودية تحمّل الذات مسؤولية إضفاء المعنى فيما يمكن أن تختبره.

في الحلقة السابعة من الموسم الثالث يذهب كل من ريك ومورتي إلى مدينة أطلانتس، حيث أن هذه المدينة مسكونة فقط من قبل شخصيات ريك وشخصيات مورتي من الأكوان الموازية، فنجد اختلافًا في الصفات لدى أية شخصية مطروحة لريك مثلًا، ومع ذلك فإن كل الشخصيات المقدمة لريك حقيقية، وتمثل ريك ذاته، ولو أنها وصلت لأقصى التناقض فيما بينها. إن هذه التعددية ليست إلا تمثيلًا لجميع الاحتمالات الممكنة لكينونة ريك التي تتنوع بتنوع التجارب المخاضة.

الطريق وليس نقطة النهاية

إن رحلة البطل منذ البداية حتى النهاية، وما تتضمنه من تجارب، هي المعنى، وليس نقطة الوصول، إذ أن قيمة التجربة لا تحدَّد بمقياس النهاية السعيدة أو التراجيدية، بل على العكس، التجربة تتمثل باختبار ومعرفة كل المشاعر الايجابية والسلبية للأقصى، ورؤية انعكاسها على الذات في الأوقات العصيبة والأوقات الساحرة، الانسجام والغربة، الحب والوحدة، الموت رمزيًا والحياة من جديد.

وعلى هذا الأساس فإن شخصية ريك مثيرة للجدل إذ يتجلى لديه إدراك بعبثية الوجود، ومعرفةٌ بتحمله مسؤولية خلق المعنى في الحياة عن طريق التجربة من خلال النفس التي لا تنضب. بهذا المعنى، يمكن اعتبار ريك تمثيلًا لإنسان نيتشه المتفوق بسعيه للتخلص من المثالي والجوهري وإتاحة الحرية للذات كي تجدد القيم فيصبح مكتفيًا بذاته، ليجد في كل حدث فرصة للمغامرة، وللتسلية، ولقضاء وقتٍ ممتع.