يربط المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان الأفكار والتمثّلات الفلسفيّة في مشاغله كافة بمعين الوجدان، ونهر الحياة، ، فهذه في نظره من المحدّدات التي يعوّل عليها من أجل تعبيد السبيل أمام الأجيال القادمة، والحيلولة دون إنتاج المزيد من الآفاق المسدودة. ويعتقد جدعان أنّ المثقف يحتاج، كي يفهم الواقع ويحلّله ويوجهه، إلى المفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة المنضبطة والضابطة؛ لأنّ التعويل يكون على «قول» المفكر، لا على «رغبة» المثقف. ويدافع جدعان، المولود في قرية عين غزال بفلسطين المحتلة، عن حتميّة البرمجة الوجدانيّة «الصحيّة»، النبيلة، النّزيهة لأبنائنا، اليوم وغدًا، ففي نظره أنّ غياب هذه القيم والمبادئ، التي ينبغي أن تقترن بها التربية الوجدانيّة المبكّرة، هو الذي يفسّر التدلّي والتخلف والعقم الذي يغلّف ويتلبّس هذه الأجيال المتأخرة من شعوبنا العربيّة.
ويدعو في مجمل نتاجه الفكري، وبخاصة كتبه الأخيرة، إلى تحرير الإسلام من التصوّرات والتمثّلات والمواقف التي تفسد صورته وتجور عليها، وتيسّر إصابته والإساءة إليه، وربما أيضًا إقصاءه من لوح الوجود الحيّ. كما يحثّ أيضًا على إقرار مبدأ «التأويل» القرآني – بالمعنى العقلاني- بديلًا لمبدأ القراءة الظاهريّة للنصوص، وهو ما يأذن بالتحوّل من سياسة «العنف» إلى سياسة «السِّلم» و«العدل» القرآنية. ويعتقد صاحب «في الخلاص النهائي» أنّ الحركات الدينيّة – السياسيّة الحديثة تريد أن تجعل «زمن الصراع» التاريخيّ زمنًا أبديًّا، وأن تكون العلاقة بين الإسلام وبين المخالفين أو المختلفين علاقة «صراعيّة» دائمة، حتى بعد أن استقرّ دينُ الإسلام في العالم وبين البشر بما هو دين أخلاقيّ إنسانيّ حضاريّ.
وفي ضوء الشقاق والصراع والاختلاف في فهم وتمثّل القيم الدينيّة، يصبح الذهاب إلى نظريّة «إنسانيّة» كونيّة في الأخلاق أمرًا لا مفرّ منه، كما يقول جدعان الذي يشدّد في حواره مع «الفيصل» على أنّ الغائيّة الأساسيّة لدين الإسلام تكمن في مبدأ (العدالة)، وإنه «حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ شرعُ الله»
ودارت مشاغل جدعان، الذي حاز الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس، على تكريس هذه المفاهيم وتجذيرها منذ كتابة «أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» الذي تبعه مؤلفات عدّة من بينها «نظرية التراث» و«المحنة» و«الطريق إلى المستقبل» و«الماضي في الحاضر» و«رياح العصر» و«في الخلاص النهائي» و«المقدّس والحرية» و«خارج السرب»، إضافة إلى كتابيه الأخيرين «تحرير الإسلام» و«مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة» اللذيْن سألناه عن بعض القضايا المستبطنة فيهما.
هنا نصّ الحوار:
● ترى أنّ الحركات الإسلاميّة الثوريّة الراديكاليّة كـ«القاعدة» و«داعش» تنهل من مرجعيّة نصيّة دينيّة. هل يعني ذلك أنّ أفعالها «شرعيّة» أم أنّ في النص الدينيّ التأسيسيّ نزعاتٍ «عنفيّة». وما السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟
– قلت وأقول دومًا، وأكرر أنّ العقدة الأساسيّة؛ العقدة البنيويّة في مشكل الحركات الإسلاميّة السياسيّة، سواءٌ أكانت ثوريّة راديكاليّة، أم غير ذلك، تكمن في المنهج الإبيستيمولوجيّ الذي يحكم علاقة منظّري هذه الحركات بالنصّ الدينيّ، أعني في طريقة فهمهم للمعطيات الدينيّة أو للمعطيات التاريخيّة ذات العلاقة بأصول دينيّة.
يقوم هذا المنهج، عند هذه الحركات، على المسلّمات التالية: هي أولًا ذات نزعة «ذريّة»، بمعنى أنها تجتزئ بالنّصوص المفردة وبالوقائع الجزئية، وتقوم بعملية تجريد وتعميم يخترقان ويتجاوزان المكان والزمان والتاريخ، ولا تلتفت إلى الوجوه العلائقيّة التي تربط بين الجزئي وبين الكلي، أو بين «الذريّ» وبين «الهولستيّ» أو الشموليّ. وهي ثانيًا لا تأبه بتاريخية النّصوص التي تسيء بها على الأقل «أسباب النزول». وهي ثالثًا تتعلق براديكاليّة مسرفة في القراءة «الظاهريّة» للنصوص الدينيّة، ولا تعترف بأنّ في النصوص الدينيّة نصوصًا لا يمكن، ولا يجوز أن تُفهم على ظاهرها، وأنّ فهمها على الظاهر يُلحق إساءات بالغة بالاعتقاد الدينيّ الإسلاميّ، حتى عندما ترفض قراءة آية المحكم والمتشابه والظاهر والمؤوّل قراءة قائمة على مبدأ العطف، لا الاستئناف، أعني القراءة الاعتزاليّة والرشديّة التي تجعل «التأويل» لله وللراسخين في العلم. عطفًا على هذا أقول: إن في النّص الدينيّ التأسيسيّ نصوصًا في القتال والجهاد وفي التقابل «العنيف» الذي يشي كله، في ظاهر النّص وفي الواقع المشخص، بهذا الذي ينسب إلى «نزعات عنفيّة». لكنّ الحقيقة هي أننا لسنا بإزاء «نزعة» بقدر ما نحن بإزاء وقائع تفرض «العنف»، لكنه العنف المتبادل الذي يفرضه «الصراع»؛ لأنّ كلّ النصوص التي تشي بمظاهر العنف مقترنة بحالة «الصراع» التاريخي التي تبلورت غداة انبعاث الرسالة الإسلاميّة، وفي أعطاف «التناقض» الوجوديّ والتاريخيّ الذي نجم بسبب هذا التقابل بين «الأوضاع القائمة» وبين «الأوضاع المستجدة».
تريد الحركات الدينية – السياسية الحديثة أن تجعل «زمن الصراع» التاريخيّ زمنًا أبديًّا، وأن تكون العلاقة بين الإسلام وبين المخالفين أو المختلفين علاقة «صراعيّة» دائمة، حتى بعد أن استقرّ دينُ الإسلام في العالم وبين البشر بما هو دين أخلاقيّ إنسانيّ حضاريّ. هذا خِيار، لكنه خِيار بائس وكارثيّ. لذلك هو يتطلّب حلًّا تجاوزيًّا، وهذا الحل يكمن عندي في ثلاثة أمور:
الأول: الدفاع عن إستراتيجيّات معرفيّة تعزّز مبدأ «تاريخيّة» النصوص الدينيّة «الصراعيّة»، وما يقاربها من نصوص «مربكة» تتطلب الدراساتُ التاريخية والمفهومية المعمّقة توجيهَ فهمهما توجيهًا سديدًا.
الثاني: تعزيز الفهم المنهجيّ المستند إلى ردّ «الجزئيّ» أو «الذّريّ» إلى «الكليّ» أو «العام» أو «الهولستي» أي المقاصديّ.
الثالث: إقرار مبدأ «التأويل» القرآني – بالمعنى العقلاني- بديلًا لمبدأ القراءة الظاهريّة للنصوص. هذه المبادئ تأذن، بصراحة، بالتحوّل من سياسة «العنف» إلى سياسة «السِّلم» و«العدل» القرآنية.
● في ضوء ذلك، هل يحتاج الإنسان المسلم في هذه القنطرة الحضاريّة الملتبسة إلى نظرية أخلاق جديدة تنهل من الإنسانيّ أكثر مما تنهل من الدينيّ؟
– أنتَ تعلم أنني لست «داعية إسلاميًّا»، لذا فإنني لا أوحّد، بالضرورة، بين ما هو إنسانيّ وما هو دينيّ. ولا أعتقد أنّ المرء ينبغي أن يكون، بالضرورة، «متديّنًا» أو «ذا دين» محدّد لكي يكون «أخلاقيًّا». ثمة ثلة من القيم «المطلقة» التي يتبيّنها العقل الإنسانيّ وتطلبها الطبيعة الإنسانية «المكوَّنة» اجتماعيًّا وثقافيًّا. هذه القيم لا مفرّ منها لكلّ البشر: العدل، والحرية، والتواصل، والكرامة، والخير، والسعادة، والفضيلة، والنزاهة، والمحبّة… كلها ابتداءً ذات طبيعة «إنسانيّة» سابقة للدين. ثم يأتي الدين، تاريخيًّا، ليشير إلى سُلّمه الخاص في القيم. لكنّ قراءة الأفكار و«النّصوص» في الديانات المختلفة تتفاوت في شأن هذه القيم. وهي، في جملتها، تُزْهى بالأغلبيّ من هذه القيم، لكنّ بعضها، في قراءات متفاوتة، لا يسلّم بالأفهام نفسها لهذه القيمة أو تلك، فيحدث من ذلك التضاد والتقابل والاختلاف. ويصبح اللجوء إلى سُلّم «إنسانيّ» متوافَق عليه كونيًّا، أمرًا حتميًّا وضروريًّا. خذْ زمننا العربيّ الراهن، وما أحَلْتَ إليه من أمر «هذه القنطرة الحضارية الملتبسة».. هل تعتقد أنّ «الآمر الدينيّ» الذي تتمثّله الحركات الدينيّة – السياسيّة الإسلاميّة اليوم – وهو الآمر المستند إلى مبدأ «الثورة العنيفة» والاقتتال الذاتيّ والتقابل الذي لا يرحم- يصلح لأن يكون مبدأً لأخلاق «إنسانيّة» حقيقيّة سعيدة، فضلًا عن أن يكون مبدأً لأخلاق دينية «رحيمة» و«عادلة»؟!
في ضوء الشقاق والصراع والاختلاف في فهم وتمثّل القيم الدينيّة، يصبح الذهاب إلى نظريّة «إنسانيّة» كونيّة في الأخلاق أمرًا لا مفرّ منه. هذا لا يعني أننا نحن في الإسلام نضادّ، بالضرورة، مثل هذه النظريّة. أنا أعتقد، خلافًا لما تجري عليه التمثّلات المعاصرة المتصلّبة لدين الإسلام، أنّ هذا الدين الرحيم يحمل في «أصوله البذريّة» وفي معطياته المُحكمة، ما يوافق نظرية إنسانيّة كونيّة في الأخلاق. لكنّ هذه النظرية لا تستقيم إلا في حدود منهج تأويليّ للنّصوص الدينيّة «المتشابهة». وأنا أعتقد أنّ القيم الأخلاقيّة العليا التي ينطوي عليها (النّص الدينيّ) تُوافق القيم الإنسانية العليا، ولا تضادّها.
سقوط الأيديولوجيا بدعة:
لعل هذا الأمر يُحيلنا إلى النظر في الأيديولوجيا. فهل ما زال للأيديولوجيا مكان في العالم المعاصر. هل تفكّكت المنظومات الأيديولوجيّة، أم أنها أعادت تموضعها، وإنتاج مقولاتها بشكل عنيف. وهل العنف أيديولوجيا، أم هو محض شظايا لتطاير الأفكار على نحو فوضويّ عاصف؟
– الدعوى الزاعمة بسقوط الأيديولوجيا «بدعة» اخترعتها الرأسمالية الغربيّة الظافرة غداة انهيار الاتحاد السوفييتيّ وأيديولوجيته الماركسيّة؛ أي غداة انهيار الشيوعيّة. لكن كيف يقال: إن الأيديولوجيا قد انحسرت من العالم المعاصر، ونحن نشهد صعودًا وانتشارًا وتجذّرًا عميقًا لليبراليّة الجديدة (النيو- ليبراليّة)؟ أليست (الليبراليّة الجديدة) – وهي النقيض الجذريّ للشيوعيّة والماركسيّة- أيديولوجيا؟ والعلمانيّة الراديكاليّة أليست أيديولوجيا؟ و«الإسلام السياسيّ» أليس أيديولوجيا؟
الحقيقة أنّ ما تفكّك وتراجع، في حدود، هو ما يسميه فلاسفة (ما بعد الحداثة) «السرديّاتُ الكبرى» كالعقل، والعلم، واليقين. أما الأيديولوجيا، بما هي نظام شموليّ فكريّ- اجتماعيّ- سياسيّ- اقتصاديّ- أخلاقيّ، فإنها ما زالت حية ترتع، وبشدة وعنف لا يقلّان عن شدة الأيديولوجيّات الآفلة وعنفها. هل العنف أيديولوجيا؟ لا، العنف ليس أيديولوجيا؛ لأنه مجرّد «موقف» أو «ارتكاسة» من ارتكاسات الغضب والاحتجاج أو الرفض أو القهر أو الخلل في «البرمجة الوجدانيّة» للعنيف، وهو ليس «منظومة فكريّة» شمولية وجامعة لكل الأنشطة الإنسانية الموجّهة لرؤية شاملة للفرد والمجتمع والدولة.
● تحدثت عن مبدأ «التأويل» القرآني – بالمعنى العقلاني. فهل يحتاج المسلمون الآن إلى «مارتن لوثر» على غرار ما جرى في التجربة الأوربيّة. أم أنّ عوائق كأداء تحول دون ذلك؟
– (مارتن لوثر) و(جان كالفان) أحدثا انشقاقًا في المسيحية، و(حركة الإصلاح) هي عنوان هذا الانشقاق الذي جذّر «الاختلاف» في هذه الديانة. بتعبير آخر «حركة الإصلاح الدينيّ» لم تُصلح المسيحية بقدر ما أحدثت انشقاقًا فيها: بروتستانتيّة من طرف، وكاثوليكيّة من طرف آخر. هذا الانشقاق حاصل عندنا في الإسلام منذ زمن بعيد، وهو ماثل في التقابل السنّيّ – الشيعيّ. وهو تقابل يتعذّر إصلاحه على المدى المنظور، وبخاصة أنه بات يتخذ طابعًا سياسيًّا حادًّا، على الرغم من أنه أصلًا ذو بذور وعوارض سياسيّة. المشكل في الإسلام السنيّ على وجه الخصوص هو أنّ «النواة القاعديّة» العقدية فيه لم تستجب لجهود الإصلاح التي بدأت منذ محمد عبده، وأنّ «الرؤية الاتباعية» صلبة لا تتقبّل «الاجتهادات» الجديدة، ولا تطيق مقاربة «الرؤية الإسلاميّة» التقليدية مقاربة إبداعيّة. العوائق كأداء بكلّ تأكيد، ويجذّر من الصعوبات فيها أنّ الإنكار والرفض أصبحا مقترنيْن بالتكفير والعنف الأقصى. ثم إنني أعتقد أنّ اقتران الحداثة بالحركة الاستعماريّة الغربيّة قد قلّص فرص التأثيرات الإيجابيّة التي يمكن للحداثة أن تجريها في النزعات الاجتهاديّة الإسلاميّة. وهذه نقطة خطيرة لم يتنبّه إليها دارسو هذه النزعات.
● يثار بين الفينة والأخرى حديث عن الدولة المدنيّة. ثمة من يرى أنها لا تتحقق إلا في ظل نظام علمانيّ، وهناك من يذهب إلى أنّ الدين والدولة المدنيّة ليسا متعارضين. مَن مِن الطرفين في ظنك أقرب إلى الصواب ومعقوليّة التطبيق؟
– لا ينبغي أن نخدع أنفسنا. الدولة المدنيّة دولة تحتكم إلى الاجتهادات البشريّة، إلى العقل الإنسانيّ، إلى الخبرة الإنسانيّة، لا إلى «الشرائع الدينيّة» الوَحْيية على النحو الذي يتمثّله القائلون بالدولة الدينيّة، أو الدولة «ذات المرجعيّة الدينيّة» أو الإسلاميّة مثلًا، مثلما يقول الشيخ القرضاوي، دولة مدنيّة بمرجعية إسلامية!
بمعنى آخر، الدولة المدنيّة دولة تقال على الدولة المضادة للدولة الدينيّة، أعني الدولة التي تستقي قوانينها وشرائعها وسياساتها النظريّة والعمليّة من الدين نفسه، بما هو وحي. وبهذا المعنى ينبغي الاعتراف بأنّ «الدولة المدنيّة» الحديثة، أي الدولة الغربيّة، دولة لا تقبل بتطبيق أحكام الشريعة مثلما يريد دعاة مبدأ «الحاكميّة». لك أن تسميها دولة علمانية. هذه التسمية مطابقة تمام المطابقة حين يتعلق الأمر بالعلمانيّة الراديكاليّة، «علمانيّة الفصل» التي تُقصي الدين وأحكامه من المجال السياسيّ والقانونيّ. لكنّ الأمر يختلف بعض الاختلاف حين نتكلّم على «علمانيّة الحياد»، التي لا تضادّ الدين مثلما تفعل العلمانيّة الراديكاليّة، وتترك المجال مفتوحًا للحياة الدينيّة والأنشطة الدينيّة، أي أنها تحافظ أو تحفظ للمؤمنين حقوقهم الدينيّة، بل إنها تقدّم المساعدات الماديّة للمؤسسات الدينيّة، لكنّها تتمسّك بالاعتقاد بأنّ تشريعات الدولة ينبغي أن تكون «إنسانيّة». أيهما أقرب إلى الصواب؟ المسألة مسألة «اختيار» لا مسألة صواب وصدق وحقيقة. أعتقد أنّ الظروف التاريخية تتدخّل وتفرض صيغًا متفاوتة في قبالة هذا المشكل. وفيما يتعلق بنا نحن، وبدين الإسلام، اليوم، نلاحظ أنّ الدين، يُوجَّه إلى صيغة أيديولوجية سياسيّة راديكاليّة، تضاد التصوّر الذي أتمثّله أنا شخصيًّا لهذا الدين بما هو منظومة اعتقاديّة، أي إيمانيّة، ذات ماهيّة إنسانيّة، وأخلاقيّة، وحضاريّة، وجماليّة، تتوافق مع «علمانيّة الحياد» لا مع «علمانيّة الفصل». أي مع «دولة مدنيّة» تصون الدين من التعدّيات والإساءات، وتحفظ لأهله الحريّة والكرامة والعدل التي هي قيم مشتركة بين الدين وبين الدولة الإنسانيّة العادلة.
في سياق متصل، تقول في كتابك الأخير «مرافعة للمستقبلات العربيّة الممكنة»: إنّ «الدولة العربيّة الحديثة لا تستطيع أن تستمر في التشبّث بالقيم الدارسة في الحكم، أو أن تتجاهل على الدوام الحقائق الثاوية وراء تقدّم العالم الحديث وظفر الحداثة وأهلها» وتنبّه لاستمرار الارتهان إلى مبدأ السيّد والعبد في علاقته مع المواطنين، أليس هذا أمرًا دنيويًّا يستند إلى منظومة الأخلاق والقوانين أكثر من استناده إلى التصوّرات الدينيّة؟
– هذا التقدير صحيح. أعني أنّ منظومة القيم والمبادئ التي تحكم المجتمع والدولة ينبغي أن تكون ابتداءً مستقاة من مسلّمات العقل الإنسانيّ، ومن مقتضيات وضرورات الواقع الدنيويّ التاريخيّ، ومن الخبرة البشريّة التي تحتكم لمبادئ العدالة. لكن ليس معنى ذلك أنّ هذه المنظومة هي بالضرورة مضادة للمسلّمات الدينيّة البديهيّة، وبخاصة حين أقول، في أمر دين الإسلام بالذات: إنّ الغائيّة الأساسيّة لهذا الدين تكمن في مبدأ (العدالة)، وإنه «حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ شرعُ الله»، وأضيف أنّ القيم العليا الإنسانية كامنة في «الأصول البذريّة» والنصوص «المُحكَمة» لهذه القيم في (النصّ الدينيّ) الذي هو عندي ذو ماهيّة إنسانيّة أخلاقيّة أولًا وآخرًا، وأنّ فهم جميع النّصوص ينبغي أن يوجّه هذه الوجهة استنادًا إلى مبدأَيِ المُحكم والمؤوّل.
● سألتَ نفسك، في حوار سابق: إن كان الإسلام نفسه، بما هو رؤية أنطولوجيّة عقديّة تديُّنيّة حضاريّة، يتقبّل الديمقراطيّة التمثيليّة، والليبراليّة الاجتماعيّة، والعَلمانيّة الحياديّة الليبراليّة، لا علمانيّة الفصل الجذريّة. وسألت أيضًا: مَنْ هم المسلمون الذين يمكن أن «يتكيّفوا» أو «يتوافقوا» مع هذه المبادئ؟
– نعم، سألتُ هذا السؤال في (المرافعة..)، وسواه، في أكثر من حوار، على نحو إيجابيّ؛ لأنني أعتقد يقينًا أنّ الإسلام هو قبل كل شيء آخر «دين»، أي أنه منظومة من العقائد الأنطولوجيّة والميتافيزيقيّة الإلهيّة -أو اللاهوتيّة- المسيّجة بمنظومة من القيم الأخلاقية الرفيعة القمينة بأن تحوّل الإنسان من «حالة الطبيعة» إلى «حالة الثقافة»، في حدود نسق حضاريّ وإنسانيّ أخلاقي قائم على العدل والرحمة والمساواة والفضيلة والحرية. وقلت: إنّ «إسلام الأغلبيّة» إسلام «التيّار العام» أو الـ (main stream)- لا الإسلام السياسيّ الذي هو محض «أيديولوجيا» تمتح من الميكافيليّة والخداع ونشدان المنفعة الخالصة والسيطرة- يتقبّل الديمقراطيّة التمثيليّة؛ لأنها تعبير عن الإرادة العامة للشعب أو الأمة، وهذا يُوافق صريح النصوص الدينيّة. وأنّ (إسلام التيار العموميّ أو الأغلبيّ) يتقبّل الليبراليّة الاجتماعيّة؛ لأنّ هذه الليبراليّة تعني الحريّة لجميع أفراد المجتمع والعدالة والمساواة لكل المواطنين، وهذا أيضًا يُوافق صريح النّصوص الدينية، وأنّ (إسلام التيار العموميّ أو الأغلبيّ) يتقبّل العلمانيّة الحياديّة الليبراليّة؛ لأنه لا يطلب إلا ممارسة حياته الاعتقاديّة الدينيّة بدون قسر أو قهر، وأنّ هذه الصيغة من العلمانيّة الحياديّة تحرص على «حفظ الدين» ودعمه في الفضاء الاجتماعيّ.
صحيح أنها لا تقبل بمبدأ «الحاكميّة» الذي يميّز الحركات الدينيّة – السياسيّة الراديكاليّة، لكنّ المؤمن في حياته المجتمعيّة لا يطلب أكثر من أن تُصان له حريته ودينه ومعتقداته وشعائره، مما يدخل في وظيفة «الدولة العادلة». وأنا أعتقد أنّ عنصر الإشكال لا يكمن في المضمون، إنما في الذيول والأطياف السلبيّة التي تتلبّس مصطلح «العلمانيّة».
ألهذا تعتقد، وتحديدًا في كتابك «تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات»، أنه من الأجدى أن ندعو إلى «إسلام متصالح مع العلمانيّة، أو «علمانيّة موافقة للإسلام»، عوضًا عن «إسلام علمانيّ». وتأمل أن يفيض المستقبل بعصر آخر يتقبّل المفهوم ويهضمه. أهو «رهاب العلمانيّة»؟!
– أكرّر ما قلته قبل قليل. المشكل يكمن في المصطلح، وفي تاريخه السلبيّ في العالم العربيّ المعاصر، إذ تمكّنت الحركات الدينيّة التقليديّة والأصوليّة من «شيطنة المصطلح». وأسهم كثير من العلمانيين في تعزيز هذه الشيطنة؛ لأنهم تمترسوا دومًا وراء المفهوم الفرنسي للعلمانيّة، أعني «علمانيّة الفصل» المناهضة لكل دعوى أو رؤية دينيّة، وذهب فريق منهم إلى تقديم هذا المصطلح بما هو قرينٌ للإلحاد، فولّد ذلك ما أسميتَه «رهاب العلمانية»! أنا لستُ «أيديولوجيًّا» على الرغم من جنوحي إلى هذه الصيغة أو تلك في مجال الأفكار والنظم الاجتماعية- السياسية. ولا أرغب في أن أكون «داعية» لهذه الصيغة أو تلك من العلمانيّة، وأتوق إلى تجاوز هذه المصطلحات التي باتت «صدئة». ما أطلبه اليوم وغدًا هو أن يحمل المستقبل لشعوبنا العربيّة ولأجيالنا القادمة، على وجه التحديد، «الدولة العادلة»، التي تكفل للمواطن العربيّ العدالة والحريّة والرفاهيّة والاستقلال والإرادة والنّزاهة والطمأنينة، وما أسماه أبو الحسن الماوردي قديمًا «الأمل الفسيح».
● تميل بعضُ التحليلات الاجتماعيّة والنفسيّة إلى تصوّر كيان تاريخيّ للأفراد، بمعنى أنهم امتداد تاريخيّ لثقافتهم، ونتاج لها. فالثقافة المؤسَّسة على العنف، وتسويغ الإذعان بوصفه طاعة، وقهر النساء بوصفه طريقًا إلى العفة، هي التي تُنجب أدبيّات دينيّة تمجّد العنف، وتدعو إلى إحراق المخالفين وسَوْمهم سوء العذاب. ولنا في تراثنا أدلّة كثيرة على ذلك. فلمَ العجب، إذًا، من شيوع «الداعشيّة» في الممارسة والسلوك، وهيمنتها على خيارات الفرد العربيّ في هذه اللحظة المرتبكة؟
– لا عجب أبدًا؛ لأنه لا شك على الإطلاق في أمرين: الأول التاريخيّة الثقافيّة للفرد، والثاني «البرمجة الوجدانيّة» المبكّرة. في الحالة الأولى تنتج الثقافة التاريخيّة أبناءها، ومن بين هؤلاء من يوجّهه «حظّه» أو «ظروفه» إلى الوقوع في براثن أفراد أو دعاة أو أحزاب أو جماعات أو أسرة «أبويّة» تمثّلت التجربة التاريخية بعيون العنف، فيذهب هؤلاء في هذه الطريق أو تلك. وفي الحالة الثانية تقوم «البرمجة الوجدانيّة» المبكّرة بتشكيل الشخصيّة وتوجيهها في هذه الطريق أو تلك. ليس ثمة أخطر من مرحلة الطفولة والفتوّة، أو الصبا. فيها تتشكّل الشخصيّة الفرديّة و(الأنا) العميقة، وفيها تتحدّد النزعات الانفعاليّة والعاطفيّة الأساسيّة التي تحكم المستقبل، لا الفرديّ فقط، إنما أيضًا الجمعيّ؛ لذا كانت «التربية المبكّرة» و«الثقافة القاعديّة» الصحيّة التداوليّة هي الضامن الأساس لنموّ سليم و«طبيعيّ»، «غير داعشيّ».
● هذا الأمر يقودنا إلى السّجال المندلع في غير ما مكان في العالم العربي حول تطوير المناهج المدرسيّة وتحديثها، وحقنها بالفكر العلميّ والعقلانيّ والتنويريّ. هل ترى أنّ ذلك ممكن في ظل «انسداد الآفاق»، لا سيما إذا علمنا أنّ تعديل المناهج لن يُثمر ما نتمناه ما دام أنّ ثمة «منهجًا خفيًّا» يتمثّل في المدرسين الذين ينتسبون، في جلّهم، إلى أيديولوجيا التزمُّت والخرافة؟
– أعلم جيدًا أنّ «الصعوبة» خارقة، وأنّ ما يشبه «الدور المنطقيّ» يتلبّس المشكل: نريد تحديث التربية بأدوات «غير حديثة»! كيف نستبدل ما هو خير بما هو أدنى؟ من أين نأتي بالمربّين والمعلّمين- العلميّين، العقلانيين، التنويريين، في مؤسسات تنضح بالتخلّف الفكريّ والعقليّ والخرافيّ؟ وأين «الدولة الحكيمة» التي تتبنى سياسات تتوافر فيها هذه الشروط في قبالة قوى ومؤسّسات رافضة؟ لن أتكلّم من جديد على «الآفاق المسدودة».. وبصراحة لا أكاد أرى من طريق للعبور والخروج إلا بمزيد من الدعوة والدفاع عن «مبادئ الحداثة»، من خلال الجهود المتضافرة التي يبذلها المثقفون المستنيرون، والمفكرون، ومنابر الرأي، والمؤسسات الثقافيّة الحديثة، والضغط المستمر على الدولة من أجل إحداث التطويرات الضروريّة. نحتاج إلى أزمنة ممتدّة لإدراك نتائج ملموسة. وعلى الرغم من أنّ «الثقافة الكونيّة» (global culture) المقترنة بـ(العولمة) تسهم في التغييرات الحداثيّة، فإنّ هذه الثقافة تحمل أيضًا عناصر مضادة للحداثة الحقيقيّة. وفي جميع الأحوال لا مفرّ من هذه التغييرات، لكنّ المشكل يكمن في قدرتنا على التحكّم فيها وضبطها والسيطرة عليها. في ظلّ الأوضاع الكارثيّة والفوضى الضاربة في كلّ مكان، ليس لديّ القدرة على «التكهّن» والتنبّؤ».
● ربما ينتسب إلى هذه الفوضى العارمة، ما نبّهتَ إليه في كتابك «تحرير الإسلام، ورسائل زمن التحولات» من هيمنة الأساطير والخرافات التي تشوّه صورة الإسلام، كما يتجلّى ذلك في فضائيّات ووسائل إعلام تُشيع أفكارًا تجعل الإسلام «دينًا خرافيًّا». ألا تعتقد أنّ بموازاة هذه الصورة المفزعة إسرافًا في إصدار الفتاوى التي تسجن الكائن في زنزانة الحرام والحلال، وتنزع عنه قدرته على التفكير بعقل مقاصديّ يُصدّع سلطة هؤلاء الفقهاء، ولا يقيم وزنًا لها؟
– بكل تأكيد. وبخاصة أنّ دائرة الإفتاء «غير مغلقة»، وأنّ الذين يتصدّون للإفتاء يأتون من كل حدب وصوب، تتوزّعهم المذاهب والأهواء والقيود، وتصدر عنهم آراء «خارقة»، فضلًا عن أنهم غرباء عن حركة العالَم وتطوّراته الجوهريّة، ويفتقرون إلى الرؤية الهولستيّة، الشموليّة، وإلى الإحاطة بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الدقيقة. أعتقد أنّ قضية «الإفتاء» واحدة من القضايا المربكة والعويصة في النظام الديني الإسلامي، وأنها تتطلّب «رؤية راديكالية». أنا أنبّه فقط إلى عقابيلها ومخاطرها، لكنّ الخوض في شعابها وفي تقنيّاتها لا يدخل في مجال كفايتي واهتمامي.
● تدعو أيضًا في «تحرير الإسلام..» وأنت تتأمل في حال الإسلام اليوم، إلى التحوّل عن منهج قياس الغائب على الشاهد، والذهاب إلى معطيات الواقع المباشرة واشتقاق المبادئ منها. على من تقع هذه المهمة؛ على المفكرين الوَجلين المرتعدين خوفًا من سلطة «الإيمان الشعبي» وغلوائه، أم على «الفقهاء» المرتبطين بمصالح السلطات الحاكمة والناطقين باسمها؟ أليس هؤلاء هم الأولى بالتحرير.. والتطهير؟!
– التحرير يجب أن يطال الجميع. العيوب والتقصير ماثلان في كلّ حيّ ومجال. منهجيًّا قلتُ دومًا: إن نقطة الانطلاق ينبغي أن تكون هي المعطيات المباشرة للواقع المعيش. والمبادرات «النقديّة» ينبغي أن توجّه إلى كل القطاعات. وفي المجال الدينيّ الإسلاميّ نحن نعلم أنّ الفقهاء هم الذين شكّلوا «العقل الإسلامي» وأسهموا، بالتالي، في الفوضى العمليّة في الحياة الإسلامية المشخصة، وذلك بسبب اختلافاتهم التي لم تكن رحيمة دومًا، وبسبب ما صدر عنهم من أحكام ومن فتاوى وتقديرات يكشف التحليل و«التفكيك» الدقيقان عن مدى ما أصاب دين الإسلام من اجتهاداتهم الملتبسة أو المربكة. لا شك أيضًا في أنّ تناقضات «المتكلّمين» وافتراقهم فرقًا ومذاهب قد فاقمت من فوضى «الاعتقاد» في الإسلام. كما أنّ استبداد «السياسيّ» بـ«الدينيّ» قد أسهم في هذه الفوضى وفي «الجوْر» الذي لحق بدين الإسلام. فالتطهير والتحرير، إذًا، مطلوبان في جميع القطاعات المعرفيّة والعمليّة الدينيّة، وليس فقط في «عقل العامة» الغارقة في التعصّب والخرافة والجهل. المشكل عميق، وشامل، ويزداد اتساعًا وشدّة يومًا بعد يوم
● تصف «الربيع العربي» ووعوده، بـ«الربيع الكاذب». لكنّك في أكثر كتبك وأبحاثك تراهن على انبعاث الإرادة العربيّة من رماد القهر والتخلّف والاستعباد. ألا يمكن أن نكون على موعد قادم مع «ربيع حقيقيّ» يفي بوعوده الجماليّة، ولا سيما أن مبرّرات ودواعي هذا الربيع «الانفجاريّ» لا تزال شاخصة؟
– لم يكن لسعادتي حدود حين انفجر الحدث الأول والثاني والثالث، وحين خرجت الجموع تصدح بالحرية وبالعدالة وبقهر الاستبداد وبالعيش الكريم. وقد عقدتُ آمالًا خارقة على المستقبل. واعتقدت أنّ تلك كانت فعلًا «أعراضًا ربيعيّة»، لكنّ «المرحلة الربيعيّة» لم تطلْ كثيرًا؛ إذ تمّت أقلَمة الظاهرة وتدويلها، ودخلت (داعش) و(القاعدة) على الخط، ولم يعد الربيع ربيعًا. وبعد أن قلت: إنّ للتاريخ حِيلَه، وإنّ الجدليّات الاجتماعيّة «ولّادة»، قلت ما قاله أرسطو وكرّره آخرون: «إنّ طائر سنونو واحدًا لا يصنع الربيع»! من المؤكد أنّ خللًا عظيمًا قد نجم -ولا داعي للإنكار- وأنّ الحدث قد فقد «براءته الأولى» ومجده العظيم، وأنّ التصوّرات الكارثيّة التي جرت وتجري ليست هي ما نطلبه من أجل الخروج من النفق. هل يتعارض هذا التقدير للأمور مع ما جريتُ عليه في جملة أعمالي؟ أبدًا. لأنني ما زلت وسأظل متعلّقًا بأنّ التاريخ «ولّاد»، وبأنّ له «حِيَله»، وأنّ علينا أن ننتظر ربيعًا قادمًا، حقيقيًّا، صادقًا، نزيهًا، جميلًا.. لسبب بيّن، بديهيّ، وهو كما تقول: إنّ مسوّغات ودواعي هذا «الربيع الانفجاريّ» لا تزال شاخصة تطلب حقوقها، وتطلب هذه الحقوق بقوة.
● تُميّز بين «المفكر» و«المثقف» فتُعلي من شأن الأول، لاعتقادك الصارم، كما تقول، بأن «الكلمة الوثقى هي لقول المفكر، لا لرغبة المثقف». ألا يكتنف هذه المراتبيّة استعلاءٌ من نوع ما؟
– هذا التمييز ضروريّ، وهو يخفى على الجميع. وليس المقصود منه اصطناع تراتبيّة أو طبقيّة، إنما المقصود التحديد «الوظيفيّ» لكل منهما. كان لي قول مفصّل في هذه المسألة، ذهبتُ فيه إلى أنّ «المفكّر» يتميّز بالمرجعيّة العقليّة، والفلسفيّة والعلميّة، والموضوعيّة -بقدر الإمكان- والنّزاهة، والتحرّر -بقدر الإمكان- من الذرائعيّة والنفعيّة والهوى أو «الرغبة»، وغائيته الأساسيّة التحليل والتنوير والنقد والاقتراح. أما المثقّف فإنه يطلب بالدرجة الأولى «تغيير الواقع»، ويلجأ في ذلك إلى «التدخّل المباشر المشخص» والجنوح الشديد إلى الأدلة «الخطابيّة» أو «الشعريّة» أو «الاحتماليّة» المقترنة بالرغبة التي تتجاوز ما هو يقينيّ «معقول» في كثير من الأحيان. لكنني أضفت أنّ المفكّر يمكن أن يكون أيضًا «مثقفًا» يطلب التغيير، ومثّلت لذلك بإدوارد سعيد. وفي جميع الأحوال، المثقف يحتاج حاجة ماسّة إلى المفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة المنضبطة والضابطة. وفي أمر فهم الواقع وتحليله وتوجيهه ينبغي، في رأيي، التعويل على «قول» المفكر، لا على «رغبة» المثقف. و«القول» يُحيل إلى العقل والعلم، و«الرغبة» تُحيل إلى الظنّ والشهوة.
● سألتُ ناشرًا عربيًّا مرموقًا عما يرغب الناسُ من محبّي المعرفة في قراءته، فلفت انتباهي إلى أمر أدهشني يتمثل في إقبال عدد كبير من القراء على الفلسفة، ولا سيما إذا كانت كتبها معروضة بشكل مبسّط ومثير. هل يدهشك هذا الأمر. وإلامَ تحيله؟
– لا. لا يدهشني أبدًا. أستحضر قولًا لأرسطو في مطلع (ما بعد الطبيعة) هو أنّ كلّ الناس ينشدون بصورة طبيعيّة المعرفة، وبخاصة المعرفة المنزّهة عن المنفعة. الذي يحدث في الغالب الأعمّ هو أنّ الناس ينفرون من الفلسفة بسبب التجريد الذي يتلبّس أعمال الفلاسفة، لكن إذا قُدّمت الفلسفة لهم بلغة وأسلوب مبسّطين فإنهم سيُقبلون عليها؛ لأنهم يريدون مكافحة «الجهل» الذي يهاجمهم، ويريدون أن يفهموا العالم والعصر اللذيْن يزدادان حولهم غموضًا وتعقيدًا. ومع ذلك، فإنّ الذي يبدو لي هو أنّ «الفلسفة العمليّة» -أعني الفلسفة السياسيّة والفلسفة الأخلاقيّة- هي التي تثير اليوم الاهتمام الأكبر لدى الجمهرة من الناس.
أنا في وضع «سيزيف».. أتحمل وأطيق وأصبر وأقع وأقوم
منذ «أُسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» حتى «مرافعة للمستقبلات العربيّة الممكنة» وأنت تتنكّب سُبل الأمل، وتعدّ اليأس خيانة، مع أنّ الواقع يخون والعقل يخون والإرادة تترنّح. هل تحمي، في رهاناتك المتفائلة هذه، صورة المفكّر من التساقط في هوة العدميّة، أم أنك تتمثل هيئة «سيزيف» الذي لا يكفّ عن رفع الصخرة إلى أعلى الجبل كلما تقهقرت إلى قاع الوادي السحيق؟!
«الوضع الوجودي الذي أتقلّب فيه منذ (الخروج) هو الوضع الرواقي. كان عليّ دومًا أن أتحمّل وأطيق وأصبر وأكافح.. أقع وأقوم، ككثيرين من أبناء جيلي ووطني. بهذا المعنى أنا في وضع «سيزيف». لكن من ناحية أخرى، مقترنة بالوضع نفسه، أنا لا أطيق العدميّة، ولا أطيق «الخيانة». وبين العدميّة من طرف، والأمل من طرف آخر، أختار الأمل.. لأنه ما الذي يتبقّى حين نفقد الأمل؟!
● تحدثت عن العقل الوجداني أو التربية الوجدانية أو إعادة البرمجة الوجدانيّة للإنسان. أنت تراهن كثيرًا على «الوجدان» وتراه رافعة أساسيّة لتحقيق النزاهة. ودعني أقول: إن «النزاهة» جزءٌ منك شخصًا ومفكرًا. ماذا جنيتَ من النزاهة. وهل جنت عليك؟!
كلام جميل! لكنّني اليوم، أكثر مما كنتُ في أيّ يوم مضى أشدّ اقتناعًا وأصلب عودًا في الدفاع عن حتميّة البرمجة الوجدانية «الصحيّة»، النبيلة، النزيهة لأبنائنا، اليوم وغدًا؛ لأنّ غياب هذه القيم والمبادئ التي ينبغي أن تقترن بها التربية الوجدانيّة المبكّرة هو الذي يفسّر التدلّي والتخلف والعقم الذي يغلّف ويتلبّس هذه الأجيال المتأخرة من شعوبنا العربيّة ومن إنساننا العربيّ الغارق اليوم فيما لا تقدر لغتي «المهذّبة» على وصفه. وأنا شخصيًّا سعيد جدًّا لأنك تنسبني إلى النّزاهة، وأنا سعيد جدًّا بهذه النزاهة إن كنتُ أتّصف بها حقًّا. تسألني: ما الذي جنيته من هذه النزاهة؟ وهل جنتْ عليّ؟ أنا أسألك! هل كنتَ ستعتقد أنني سأكون أفضل لو أنني استسلمتُ للإغراءات غير النبيلة التي عرضت لي؟ هل كنت سأكون نبيلًا لو أنني فعلتُ، مثلما يفعل كثير من المثقفين و«المفكرين» الأدعياء، وبعتُ نفسي للشيطان؟ هل سيكون ضميري مرتاحًا لو أنني تنازلتُ عن كرامتي، ورضيتُ أن أتحوّل إلى «مرافق ذليل» أو مستشار تافه لرجل دولة أو مال أو جاه؟!
هل كنتُ سأكون أسمى وأعظم وأخطر لو كنتُ وزيرًا أو رئيس جامعة، أو صاحب مُلك أو مال وضيع؟! صدّقني.. النزاهة لم تجنِ عليّ.. أنا الذي جنيتُ منها.. جنيت منها كثيرًا شخصًا ومفكرًا، كما تقول. وعلى الأقل هي منحتني الرضا الداخلي، والنبل، والثقة بالنفس، والاعتزاز بالذات، واحترام الآخرين لي، واحترامي لنفسي. ويكفيني أنك أنتَ ومن يقاربك في الفهم والتقدير تنسبونني إلى هذه القيمة النبيلة، في الوقت الذي تنسبون أكبر الأسماء ذيوعًا وانتشارًا وتأثيرًا إلى النذالة والخسّة والكذب والنفاق! لقد دافعتُ دومًا عن القيم، وجعلتها المبدأ الرئيس لكل إصلاح وتقدّم. لذا كان من الطبيعيّ أن أجنح إلى النّزاهة والنبل والاستقامة، وأن يُقال بعد مغادرتي هذا العالم: كان نبيلًا، نزيهًا، شريفًا، ولم يطلب ما يطلبه الآخرون الذين يرفلون بثياب العزّ والنذالة والذلّ.
حقوق النشر :الفيصل