حركة خارج السرب | الفن والجمال لدى نيتشه
الفن والجمال لدى نيتشه
2018-12-08 | 1507 مشاهدة
مقالات

بقلم: فؤاد الكنجي 

لما كانت فلسفة نيتشه (فريدريك نيتشه 1844- 1900) قائمة على مبدأين هما "الإرادة"و "القوة" فان مفهوم الفن والجمال عنده لا يخرج من هذا الإطار بكون (نيتشه) اقر بان (الفن) هو وحده الذي يعيد للإرادة قوتها بما يجعلها متمكنة وقادرة على الإثبات وعلى الخروج من العدمية وإدامة ذاتها في إن واحد، باعتبارا لفن هو فائض (الإرادة)، والإرادة التي يقصدها هنا (نيتشه) يسميها بـ(إرادة القوة الديونيسية)، و (الديونيسية) هي (( إشارة إلى اله الخمر عند الإغريق القدماء، ملهم طقوس الابتهاج والنشوة)) - والذي يعطي (نيتشه) أهمية كبيرة لرموز (الأساطير الإغريقية) بشكل ملفت سنأتي ذكرها لاحقا - فـ(إرادة القوة الديونيسية) هي الإرادة التي تتوق إلى الرقص والانطلاق والانتشاء، أنها إرادة الخلق، إرادة القوه والتي هي تمثل ( الحياة ) في حيوية اندفاعاتها وإمكانياتها، وبالتالي هي لا تملك لنفسها الخلاص سوى الخلق، كون الحياة الحقيقية جوهرها يكمن في (إرادة القوة) التي هي من تخترق (الفنان) المبدع وينطلق التعبير بلسانها وتتثوب بثوبها. لنستخرج بنتيجة مهمة من خلال معطيات (نيتشه)هذه: بان الفنان كلما ابتعد عن ذاتيته وذاب في معطيات الحياة واندفاعات الإرادة والقوة أصبح الفنان اقرب إلى المفهوم الحقيقي لـ(الفن) وهذا هو جوهر (فلسفة الفن) عند (نيتشه) .  

ولكي ندرك (الفن) لا بد من وجود ميكانيكية طبيعية متمثلة بالكائن الإنسان يمتلك إحساسا ومشاعر تقوده للنشوة والتمتع بمدركات الأشياء الجميلة وبما تثر النشوة فيه فيزيولوجيا، فـ(النشوة) هي أساس كل عمل فني لان (نيتشه) يؤكد بان بدون النشوة لا يمكن انجاز أي (فن)، لان أهم ما في (النشوة) هو الشعور الذي تفرزه في أعماقنا من الطاقة والامتلاء، ومن هذا الإحساس نضيف نحن على الأشياء، لدرجة التي نطوعها لاستلام منا، وهذه العملية يسميها  بال المثلنة ليس كما يعتقد في أننا نختار الأهم وننقي الأشياء ونهمل كل صغير وثانوي، بل إن التركيز على الخاصيات الأساسية هو العامل الحاسم في جعل الخاصيات الثانوية للأشياء تتوارى وتضمحل،  بمعنى إننا نركز عن الأشياء التي تعنينا  لنعطي لها فائض من الطاقة لتصبح دعائم لقوة تلك الأشياء والتي تصبح لاحقا انعكاسا لـ(لكمال) وهذا التحول المفروض بقوة إرادتنا إلى صورة (الكمال) هو بذاته (الفن) وكل شيء، حيث يصبح ذلك (الشيء) موضوع (المتعة) يجدها في نفسه، لان في (الفن) يستمتع الإنسان بنفسه كـ(كمال)، لان الإنسان في مفهوم (الجمال) يعتبر نفسه معيارا لـ(لكمال) وهو لا يفعل ذلك لعبادة نفسه كما يقول (نيتشه)، ((لان الإنسان هو من يمنح العالم جمالا إنسانيا، فلا جمال للعالم إلا كان الإنسان مصدره، بكون الإنسان يعكس نفسه في الأشياء، ويجد الشيء جميلا كل ما يعيد إليه صورته الخاصة وحكمه بصفة كونه هو(جميل)، وهذا هو نوع من الغرور الذي ينتمي إليه)) . وعلم (الجمال)- بالمفهوم (نيتشه) - يرتكز مقوماته على هذه النقطة بالذات بكون (الإنسان هو الجميل) فان (نيتشه) يبني فكرته على هذه القاعدة بـ(( إن لا شيء (قبيح)  سوى الإنسان في طور الفساد)) وبهذا يكون (نيتشه) رسم حدود الحكم على الأشياء الجميلة عبر (القبيح)، فالقبيح عند (نيتشه) هو الضعف والانهيار والعجز، كون (القبيح) هو من يدفع ثمن الخسارة في القوة والإرادة، لان (القبح) هو مقياس الشدة ( ديناموميتر)،  فإذ شعر الإنسان بأنه منهار إنما هو شعور بوصوله إلى (القبيح)، فحيثما أحس الإنسان بان قوته وشجاعته تنهار شعر بـ(القبح)، وعكسه صحيح، كلما ارتفع وزاد، زاد إحساسه بـ(الجمال)، وكلما زاد شعوره بالفشل وانحلال والعجز زاد إحساسه بـ(القبيح) وهذه هي حقيقة قائمة في غريزة الإنسان وذاته، فكلما تعمق الإنسان وعيه بدرجات العجز والإنهاك والانهيار والإعياء وكل فعل الإكراه والتشنج والانحلال والتعفن وحتى الحالات التي يلتجئ الإنسان إلى اختزال عجزه في شكل (الرمز) تهربا من المواجهة المباشرة، وهذا ما يستعدي بالنفس إلى رد فعل بالحكم ألقيمي (القبيح) لان عبر هذه الإرهاصات ينفجر الحقد ولكن الحقد المرء على من .....؟

هنا يكن السؤال عند (نيتشه) فيجيب بأنه (حقد) على انحطاط نوعه ليس إلا.  انه (يحقد) من غريزة النوع ومن عمق أعماقه السحيقة، وفي هذا (الحقد) تبرز عمق الرؤية، وبعد النظر، فكلما كان (الحقد) أكثر عمقا كان (الفن) المنفجر أكثر عمقا ، ليصبح (الفن) كما صوره (نيتشه) فلسفة المطالب الذاتية،  لان عمق (التناقضات) في الحياة هو حافز( للفن ) في خلق مظاهر التي يجعل من تلك (المتناقضات) ممكنة إن تعاش،  لان منطلق فلسفة (نيتشه) تكمن مفاتيحها في إثبات مفارقات الحياة وتناقضاتها بمعنى قلب العدمية والانتقال من (إرادة النفي) إلى (إرادة الإثبات) وتحويلها إلى ظاهرة خلقية (فنية وجمالية) ممكن أن تعاش، لان (الفن) هو منفذ الوحيد إمام الإنسان للخلاص من تناقضات المميتة بحق الإنسان، لان بواسطة (الفن) فحسب نجعل من الحياة ممكنة أن تعاش بل وجديرة إن تعاش، لان بواسطته يمكننا (الخلاص) من المعانات والألم عن طريق (الفن) و (الجمال).  والخلاص الذي يدعو إليه (نيتشه) ليس خلاصا بالمفهوم (المسيحي) الذي هو هروبا من الوجود وعبثه، وليس الخلاص بمعنى التعلق بحقيقة ما فوق الوجود الحسي، وإنما بمعنى تحويل الألم وتناقضات الوجود وعبثه إلى (مظاهر فنية) يحول الوجود الممل والعبثية إلى وجود (جميل)، و العبث يحولها إلى سخرية وضحك، و الألم إلى الانتشاء،  لان (نيتشه)  يحول (الفن) إلى منظار للحياة يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان، لان (الفن) عنده يخرج من حدود الدائرة الجمالية، ويتحول إلى نشاط (ميتافيزيقي) ولكن ليس بمفهوم (الميتافيزيقا القديمة) التي قامت على نفي (الفن) بل وكل مظاهر الحياة الواقعية لصالح ما يتجاوزها - أي لصالح العدم وإرادة العدم - أي إرادة إنكار ونفي الحياة، ليكون نشاط (الميتافيزيقية الجديدة) حسب (نيتشه) ليس نشاطا خاصا بالفنان وحده بل أكثر منه ، فإذا أمكن تجاوز (الميتافيزيقا) فلا يكون ذلك سوى بواسطة (الفن) الذي يصنع (ميتافيزيقا جديدة) التي هي إثبات للحياة، وتعظيمها والاحتفال بها، كون (الفن والجمال) مشروع يتجاوز (الميتافيزيقا القديمة) لأنه هو نفسه يحل محلها كنشاط (ميتافيزيقي)، فـ(الفن) عند (نيتشه) هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز يقوم بالقضاء على النزعة العدمية  التي طالما شكلت خلفية لـ(لميتافيزيقا التقليدية) والتي تقوم على مبدأ الذاتية وهو نفس المبدأ الذي تنطلق منه الرومانسية ولهذا فان (نيتشه) يرفض (الفن الرومانسي) لأنه لا يجد أساسا للفن في ذات الفنان، لان (نيتشه) يستبعد الذاتية بل يعتبرها من ضروريات الفن لتجاوز (الميتافيزيقا التقليدية) لان (نيتشه) يعتقد جازما بان من يبدع في (الفن) ليس الفنان، بل هو الحياة نفسها، ولكن ليس الحياة المنحطة المتقهقرة في (القبيح)، ولما كانت (الرومانسية) تتغنى بالذاتية ولا تفارقها كما يحددها (نيتشه) في كتابه ((ميلاد المأساة)) وهو بالتالي لا تحركه إرادة القوة في (الفن)، لان (الفن) الذي تحركه إرادة القوة هو الأقرب إلى روح (المأساة) والمأساة هي ملهمة الأولى لـ(الفن)، ومن هنا يذهب (نيتشه) لتأكيد بان المأساة (الإغريقية) كانت تمثل أسمى ما في (الفن)، ولكن بمجيء (سقراط) وتحويل روح  (المأساة الإغريقية) إلى فلسفة لصالح (الجدل) هو ما انخر جسد (الثقافة اليونانية) كما يحللها (نيتشه) باعتبار (الجدل) هو أول إعراض المرض الذي شل الثقافة اليونانية،  ومن الملاحظ في كتابات وتحاليل (نيتشه) كثير ما يشخص ويستخدم المصطلحات الطبية، لذا سمى (نيتشه): ((طبيبا للحضارة)) لقدرته على تشخيص الأمراض التي أضرت بالحضارة البشرية ودمرتها، بدءا من (سقراط) الذي اعتبره المسؤول الأول عن انحطاط (الحضارة اليونانية) وانحطاط الفكر الفلسفي بصورة عامة، كونه اهتم بجانب العقل على حساب الحياة وعلى حساب متطلباتها الاستاطيقية، بكون (سقراط) اعتبر (فن المأساة الإغريقية) انحطاطا للفن وللفكر وللحضارة، لان تشخيص الذي وصل إليه عبر تحليل لكثير من وقائع طرحها (نيتشه) في فلسفة الفن والجمال، وبذلك تم له تشخيص إعراض المرض بالمقابلة والمقارنة بين المرض والصحة و بين القوة والانحطاط أو الانحلال، وراح في ذلك يقارن ويضع كل من (سقراط) ومن تبعه من (السقراطيين الجدد) الذين اعتمدوا على (الجدل) دون ان يدركوا بأنها خطوة لعرض وإرهاص للأمراض التي نخرت جسد (الثقافة اليونانية)، لتتراجع هذه (الثقافة) عن مظاهر الصحة والعافية المتجسدة في (المأساة)  بكون (الجدل السقراطي) تعالي على الحياة، وأوحد لأضداد وحل ألتناقضاتها، دون إن يعوا أهمية (المأساة) في إثبات لرعب الوجود، وتعميق لتناقضات الحياة، وإذكاء لمفارقاتها، فـ(الجدل السقراطي) كما يقول (نيتشه) هو نفي للحياة ووهن لقوتها، أما (المأساة الإغريقية) فهي إثبات للحياة وشهوانيتها، لان (المأساوية) هي (ملهمة كل فن عظيم) لأنها علامة على صحة (الفن) دون انحطاطه إلى الدرامه والرومانسية، لان(المأساة) هي المحررة لقوى الطبيعة والمطلقة من كل قيد .

ومن هنا فان  (نيتشه) يوظف تأويل (الرموز) للأساطير اليونانية لتقريب مفهوم (الفن) من القارئ، بل إن هذه (الرمزية) تخترق فلسفة (نيتشه) برمتها جملة و تفصيلا، لان (نيتشه) وان كان قد اعتبر العودة إلى الأصول تؤدي إلى البربرية ولكن (نيتشه) و رغم يقينه بأنه لن يستعيد (التراث اليوناني) في معنى العودة إلى الأصول لكون (نيتشه) ليس مفكرا أصوليا، لأنه كما يقال عنه بأنه فيلسوف (النسيان) وليس فيلسوف (الذاكرة) - إن كان يصح هذا التحديد - فـ(النسيان) هو الأفق الذي يصبح فيه الحديث ممكنا عن الإنسان التراجيدي. وهذا الكلام إن كان يقال بحق (الثقافة اليونانية) لا يعني تمجيدا لهم أو تأريخا لنموذجهم، وإنما الكلام يقال لاستحضار لممارساتهم الفنية والفكرية من جهة المحاكاة لأصل فقده (الإنسان الغربي الحديث)، ومن هنا فان (نيتشه) يعود إلى تاريخ اليونان المجازي لا إلى اليونان التاريخي، لذلك تعتبر ولادة (فن المأساة) عودة تأويلية ترسم لنا نموذجا مخصوصا من البشر، عرفوا كيف يتحملون سخرية الأقدار وعبثية الوجود.

فـ(روح المأساة)- كما يذكرها (نيتشه) في كتابه الموسوم ((ميلاد المأساة)) - تمثل عند( نيتشه) بالإله( ديوميزوس)، رمز النشوة والإسراف وهو رمز تدفق قوى الطبيعة وانفلاتها من إدراكها وهو ما يغني ويغذي كل منابع (الفن)، فـ(ديونيزوس) هو رمز لعودة الإنسان إلى أصله الطبيعي - الحيواني الذي طالما افتقده للعيش في تناغم كوني، وما مسخ الإنسان في الأسطورة (اليونانية) إلى كائن (نصفه آدمي ونصفه حيواني) سوى عودة لهذا التناغم الكوني المفقود وتحرير للإنسان من ذاتيته، والفن (المأساوي) هو مشاركة للقوى (الديونيزوسية ) في انطلاقها واندماجها، ومن هنا فان (نيتشه) اخذ بتأويل أصل المأساة الإغريقية انطلاقا من ثنائية (الأبولوني) و (الديونيزوسي) ويتعلق الأمر بشرح كيف يعيش اليونان حدسهم (الأبولوني) و (الديونيزوسي) باعتبارهما إلهان أودع فيهما (الإغريق) أعمق معتقداتهم الجمالية، حيث يمثلان رمزان لصراع بين غريزتين (الحلم) و (النشوة) لتنتظم فرجة (الفن المأساة) حسب تدرج بطل المأساة والمتفرجون و الكورس، لتشكل هذه الوحدات الثلاثية كلا واحدا، بكون هذا النمط من التنظيم (الوحدوي) يعبر عن عبقرية (فن المأساة الإغريقية) وعن عظمتها، ويحاكي هذا التناسق انسجام عناصر الطبيعة، لذلك تتماه شخصية (الفنان) كليا مع وحدة الوجود الأزلي، ويتحرر من كل ما هو ذاتي ومن الفردي والأنانية ليصبح شخصية (الفنان) دون ذات، فينجو من الإرادة الفردية المتغطرسة بفضل ظهورها على نحو فني، ومن هنا أدرك (نيتشه) أن أسطورة (ديونيزوس) هي الكفيلة بإحياء إرادة الشعب أفقدته الأضواء و كل أشكاله البدائية للتدين، وسحبته وراء صراع ذاتي الناجم عن ضياع خلفية التضامن الاجتماعي حتى في طقوسه المسرفة ، لان (نيتشه) أدرك أن عودة لـ(ديونيزوس) ليست لها غاية أخرى غير العمل على تحرير الشعوب من سلطة الذاتية. فبنقده للحداثة عبر( المأساة الإغريقية)، إنما ذلك يأتي من اجل إعادة النظر في ذاتية التي فرضت بشكل استبدادي، ليخلصها من عزلتها ومن ضيقتها، وتصبح منفتحة على إمكانيات التحرر كل التحرر، لأن (الفن) إسراف وانتشاء لا محدود، غير أن (الديونيزوسي) بما هو زخم ودفق للقوى اللاعقلانية ليس سوى وجه لعملة (الفن) و منبعه الأصيل .

إما الرمز (الابولوني)  فهو الإله الذي ينظم هذه القوى المندفعة في المظهر (الجميل) ووجهها الآخر، فـ(الفن) يتغذى من (الديونيزيسي) زخما وانطلاقا وإسرافا ومن (الابولوني) يتغذى اعتدالا وانسجاما ومقدارا، لان الإله (أبولون) صانع المظاهر الجميلة، وبعبارة أخرى، أن (الفن) كما يحدده (نيتشه) اندماج لقوة (ديونيزوس) وجمال (أبولون)، ولكن هذا الاندماج أبعد ما يكون عن المصالحة أو المهادنة، إنه صراع حتى الموت، فالقوى (الديونيزيسية) المنفلتة من إدراكها، تشكل تهديدا مستمرا لاعتدال المظهر (الابولوني)، إنها الفوضى التي تهدد النظام، وما جمال واعتدال المظهر (الابولوني) سوى تأجيل لتهديد ونفي القوة (الديونيزيسية)، هذا التقابل بين (ديونيزوس) و(أبولون)، بين الإسراف والاعتدال، بين القوة والمظهر، بين الفوضى والنظام، هو ما يجعل (ديونيزوس) موسيقيا، و(أبولون) مصورا.

فـ(الموسيقى) تناسب اندفاع (ديونيزوس) وانتشاءه، و(التصوير أو الرسم) يناسب اعتدال (أبولون) وجماله، لأن الموسيقى اندفاع، والصورة انسجام واعتدال.

إن (الموسيقى) في نظر( نيتشه) هي الشكل التعبيري الأسمى عن روح فن (المأساة)، وبفضل ما تحتويه من ترانيم وتراتيل وتنغيم هي ترجمة لاندفاعات الشهوة والحسي، إنها تترجم ما ليس بعد كلاما وحوارا، وما ليس بعد موضوع تفكير جدلي أو تزهد أخلاقي، ولا يقصد (نيتشه) الموسيقى المترجمة للأفكار، فهذه لا تتعدى كونها مجرد وجه آخر للكلام والحوار وهو ما يتمثل في الغناء والأوبرا، لان الموسيقى التي يقصدها (نيتشه) هنا، هي تلك التي تضعنا وجها لوجه أمام المرعب واللا معقول .

إما عن (الشعر) فان (نيتشه) رجع منشئه مؤول منبعه إلى (الموسيقى) وما الشكل المقطعي في (الشعر) سوى (موسيقى)، وبالتالي فإن أصل (الشعر) هو (موسيقى)، وأول شكل من إشكال (الشعر) عرفته الإنسانية وخاصة الإغريق هو (الشعر الغنائي)، وهو في مجمله ترانيم وتراتيل وإنشاد، بمعنى آخر هو (موسيقى).

ومن هذه الحقيقة اخذ (الموسيقى) مكانة مهمة في فلسفة (نيتشه) لأنه أدرك بان (الموسيقى) أقدر شكل تعبيري على الجمع بين الحسي والمجرد. ومن هذه الحقيقة رفض (نيتشه) كل ما جاء في (الجدل السقراطي) أو بالأحرى الميتافيزيقا السقراطية كونها هي أبعدة (الموسيقى) بينهما، وأقامت وجعلت بينهما هوة سحيقة، لان (الموسيقى) بما هي شكل من إشكال التعبير الأكثر بدائية، فهي جديرة بأن تعيدنا إلى المنسي، إلى الطبيعة، إلى الرعب، إلى ما ليس بعد موضوع تفكير.

وهكذا يحتل (الفن) في فلسفة (نيتشه) مكانة الصدارة، ففلسفته تستدعي (الفن) بشكل قوي إلى الحد الذي يجعله يقول في كتابه ((ميلاد المأساة)) الذي اخصه بالحديث مسهب عن (الفن) بقوله (( أن كل مظهر من مظاهر الحياة تقوم على المظهر والفن والوهم وزاوية النظر والرؤية والخطأ )).

فـ(الفن) عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز- وكما ذكرنا ليس بالمفهوم القديم -  و هو الحد الذي يصنع (الفن) لكل المظاهر، والمظهر عند (نيتشه) ليس تمثيلا للحياة فحسب بل هو الحياة.

عن :الحداثة وما بعد الحداثة