حركة خارج السرب | أمجد ناصر: الحياة بأكثر من اسم
أمجد ناصر: الحياة بأكثر من اسم
2019-11-28 | 2066 مشاهدة
مقالات

توفي في الأردن قبل أيّام، الشاعر والكاتب أمجد ناصر، بعدما وزّع، بإرادتهِ، وعلى مدى أكثر من أربعين عامًا، عمره وأسماءهُ الثلاثة على بلدان العالم.

تنقل باسم يحيى النعيمي كما في الأوراق الثبوتيّة الرسمية، ويحيى النميري كما في الكتابات الأولى، وأمجد ناصر كما هو موجودٌ على أغلفة الكتب، وأسماء أخرى حملتها جوازات سفرٍ جزائريّة ويمنيّة انتهت بانتهاء المهمّة التي أُصدرت لأجلها.

بدأ الشعر في حياة أمجد ناصر في مضرب للبدو في تلٍّ صغير جنوبيّ سوريا، ثم وعلى إثر رحلة إلى حلب، صار ماركسيًا، أنضجه حصار بيروت التي فرّ لها من عمّان، ولم يذكر مدينةً مثلما ذكرها في كتبه.

عمل في الصحافة الثقافيّة المكتوبة بين قبرص ولندن، الأمر الذي جعله مطلعًا على المشهد الشعري العربيّ خاصة الحديث منه، تقلّب في الكتابة، فكتب في أجناس أدبيّة متنوعة، وترك الكتابة في أخرى بعد حوارات مع أصدقاء.

العام الماضي اكتشف ناصر إصابته بالسرطان، فأوصى أول ما أوصى أن يدفن في الأردنّ في المدينة التي يسكنها أهله ولم يسكنها من قبل، بموازاة ذلك أسرع بالكتابة وواصل فيها حتّى لم يعد قادرًا على تذكّر من حوله. وفي الثلاثين من الشهر الماضي توفي، ودفن في اليوم التالي في مقبرةٍ تقع على أكثر من طريق سفر؛ طريق جابر المؤدي إلى سوريا، وطريق بغداد الموصلة للعراق، وأقرب من الطريقين تمرُّ بالمقبرة سكة الحديد التي سلكها القطار حاملًا أمجد ناصر خارج البلاد.

الرحلة التي عاد منها ماركسيًا (1955- 1974)

كل صيف، كان العسكري محمّد ينتقل من مكان سكنه في الزرقاء إلى قرية الطرّة على الحدود الأردنية السورية ليكون قريبًا من أهله الذين كانوا يقيمون على الجانب الآخر من الحدود، في قرية تل شهاب السورية.[1] صيف العام 1955 اصطحب العسكريّ محمَّد النعيمي زوجته الحامل إلى الطرّة، وخلال الزيارة فاجأها الطلق، وولدت فضة العويّد طفلًا يوم السابع من آب، أسمياه يحيى.

رجع العسكريّ إلى مكان إقامته في حي جناعة في الزرقاء بالقرب من عمله، لكنه ظلّ يتردد على الطرة وتل شهاب، وكان يصطحب طفله يحيى معه، وهناك سيتعرّف الطفل على لغةٍ جديدةٍ غير لغة أبناء الحيّ في الزرقاء «كان للّغة وظائف أخرى غير توصيل المعنى المباشر، ورسم حدود التعاملات اليوميّة. كان الشعر البدويّ أو الأمثولة أو الحكاية التي يُراد بها شيء آخر غير ظاهر المعنى». وعلى هذه العادة، أمضى يحيى فترة ما قبل المدرسة، وعُطَل المدرسة فيما بعد، هناك في تل شهاب يسمع من جده وجدتهِ الشعر والتوريات في الليل.

كبر يحيى في حيّ جناعة، ودرس الابتدائية في مدرسة حي الرشيد، ثم انتقل إلى مدرسة الثورة العربيّة الكبرى في الزرقاء في الصف الأول الإعدادي، في تلك الفترة تعرّف على الشعر في الكتب المدرسيّة فحاول التقليد، وكتب «عددًا من القصائد التي تجهد للتشبث بعمود الشعر من دون جدوى».

وفي النصف الأوّل من سنة التوجيهي فُصِل لمشاركته «مع طالبيْن آخريْن في السطو على كنتين [أي مقصف] المدرسة وتخريبه». وبعدها انتقل إلى مدرسة الفلاح الخاصة في الزرقاء، وهناك تعرّف على شاب يكبره بعدة سنواتٍ هو إبراهيم المومني. وخلال العطل المدرسيّة سيقوم المومني بتزويده بالكتب الأولى التي يقرأها في حياته، لكنَّ هذه الصداقة لم تكن تروق لوالده العسكريّ الذي أراد لابنهِ دخول «الكلية العسكريّة لأتخرج فيها ضابطًا، أن أحترف العسكريّة مثله، ومثل أبيه من قبله».

كتب يحيى قصائد الشعر العمودي، وجمعها في مجموعتين لم تنشرا، هما: معبد الأحزان، وأغنيات على الطريق الترابي، وقد أسقطهما من مذكراتهِ إلى الأبد، يقول شقيقه أحمد عن هاتين المجموعتين اللتين كان قد قرأهما: «هذه القصائد هي ذاكرة تل شهاب».

وفي العام 1974 رفقة ابن عمّةٍ له يدرس في جامعة حلب، ذهب يحيى إلى سوريا «فارًا من العائلة وشظف الروح في اتجاه تركيا ومنها إلى أوروبا»، لكن ذلك لم يحدث إذ صادف معرضًا للكتاب السوفيتيّ في حلب فاشترى منه كتب البيان الشيوعي، وما العمل؟، وخطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء، والفولاذ سقيناه. قرأ بعض هذه الكتب فنسي أمر أوروبا، وأراد العودة للأردن لكنه عرف أنَّ الكتب ممنوعة على الحدود، لذا توجه إلى مضارب أقاربه على الحدود في تل شهاب، وهناك قرأ بقيّة الكتب. ونتيجة هذه الرحلة القصيرة يقول: «عدت إلى الأردن ماركسيًا».

يحيى النميري (1974-1977)

أنهى يحيى التوجيهي عام 1974، ومع بداية هذه المرحلة، مرحلة ما بعد المدرسة، كان يتنقل بين مقاهي عمّان والزرقاء ونادي أسرة القلم، مثلما كان يتنقل في الوظائف التي يدبرها له والده أو تلك التي يحصل عليها بنفسهِ، إذ عمل في الأمن العام كاتبًا مدنيًّا لأشهرٍ قبل أن يتركها وينتقل للعيش في عمّان مع الشاعر زكريا محمد «وبدعم مالي من إلياس فركوح». وعن السكنى مع زكريا قال: «أفدت من تمرّسهِ في الكتابة الشعرية، بقدر ما أفدت من ثقافته الواسعة». ومع هذه المرحلة كان يحيى يترك الشعر العمودي إلى الأبد، وبتأثير قراءاتٍ لشعر سعدي يوسف ومحمد لافي وبدر شاكر السيّاب وميخائيل نعيمة، بدأت قصائد القصيدة الموزونة بالظهور.

كانت فترة إقامة يحيى في عمان فترة الإقامة في المقاهي أكثر من البيت، رفقة ناهض حتر، وإلياس فركوح، ومنذر رشراش، وزكريا محمد، وعماد الرحايمة، وغسان زقطان. وفي هذه الفترة: «كان المقهى درس قصيدتنا الأوّل، ودرس نقدنا المصحوب باستشهاداتٍ مسهبةٍ وتشنجات تأخذ بمجامع الأعصاب».

يؤكّد فركوح أنَّ العلاقة بدأت بالفعل في تلك الفترة وكان الثلاثة: زكريا ويحيى وإلياس مجموعة لم تنشر نتاجها الأدبيّ بعد، يقول فركوح «أنا كنت معاهم في مقهى الأردن، وكان معانا ناهض حتّر، هذه مجموعة المشاغبين». في حين كان مقر رابطة الكتاب الأردنيين في جبل اللويبدة «مقهى للأعضاء الذين ثبتت قدراتهم الأدبية بالوجه الشرعي».

لأشهرٍ عمل يحيى صحفيًا في جريدة الأخبار اليوميّة الأردنيّة بدوامٍ جزئيّ، وكان فركوح صحفيًا فيها كذلك، وظهر اسمهُ في الصحافة لأوّل مرّةٍ تحت مقابلة أجراها مع فركوح حول الكتابة وكان اسمهُ يحيى النميري.

وبحسب شقيقه أحمد فقد دبَّر الوالد وظيفةً ثانية ليحيى كموظفٍ في التلفزيون الأردنيّ في شؤون الموظفين. وبالمصادفة، كتب يحيى عدة حلقات من مسلسل بدوي للتلفزيون، لا يعرف أحمد اسمه، ولكنه يعرف أنهم «كانوا يعطوه على الحلقة 25 دينار كنا نشوف الشيك». ومثل عمله ككاتب لم يكمل يحيى عمله في التلفزيون إذ طرد منه ومنع من دخولهِ ولم يعرف أحد وقتها سبب طرده من هذا العمل.

انتقلت عائلة يحيى للعيش في مدينة المفرق العام 1976 وفي تلك الفترة استأجر يحيى غرفة في جبل الجوفة في عمّان، وكان يزور عائلته نهاية كل أسبوع. سمع الأب من أقاربه في الجيش قصّه فصل ابنه يحيى من التلفزيون، ومنهم اكتشف، بحسب أحمد، أن ابنه كان يوزّع منشورات للحزب الشيوعي الأردني داخل مبنى التلفزيون، رغم أنه لم يكن عضوًا في الحزب.

انتظر الأب ابنه في بيته الجديد في المفرق، وفي نهاية الأسبوع موعد زيارته، قابله، واحتدم النقاش بينهما على إثر انخراط يحيى في العمل السياسي، إذ كان والده وأقاربه في الجيش، وشكّل انخراط أحد الأبناء في العمل السياسي حينها مصدر قلق. يقول شقيقه أحمد «كنت واقف على الباب من برّا، وسامع صوتهم بالداخل» كان الأب يقول ليحيى «إنت هيك فضحتنا». خرج يحيى يرافقه شقيقه أحمد حتى مجمع الباصات حيث سيغادر يحيى إلى عمان.

ووفقًا لأكثر من رواية كان يحيى ضمن كوادر حزب الشعب الثوري الأردني، في تلك الفترة دبَّر أعضاء في الحزب محاولة لاغتيال الملك حسين في عمان. كُشفت العملية التي لم يعلم بها معظم كوادر الحزب، وبسبب مطاردة الكوادر فرّ معظمهم خارج البلاد. يؤكد شقيقه أحمد انخراط يحيى في الحزب، ويؤكدها كذلك رفيقه فركوح «هذه رواية أقرب للدقة، لكنه [يحيى] لم يكن متورطًا».

بقي يحيى في عمان لشهرين دون أن يقوم بالزيارة الأسبوعية المعتادة لعائلته، وعندما بحث عنه أحد أشقائه لم يجده، ولا وجد أحدًا من أصدقائه. وهكذا فرّ يحيى إلى بيروت، إذ استقل القطار من عمّان إلى سوريا، ولم يخبر أحدًا.

غادر يحيى الأردن، وكانت آخر وظيفة شغلها هي وظيفة سكرتير تنفيذي في رابطة الكتّاب الأردنيين. ومنذ مغادرته تلك، عام 1977، لم يعد يحيى النميري موجودًا.

 

اسم وشكل وشِعرٌ جديد (1977-1982)

وصل يحيى إلى بيروت، وبعد أشهر، ترك اسمه يحيى النعيمي في الأوراق الثبوتيّة، ويحيى النميري في الأدب والصحافة، ليصير اسمه أمجد ناصر، وترك كذلك طريقته في الكتابة «مغادرتي قصيدة الوزن (التفعيلة)». وفي تموز من العام 1978 تزوج من هند الصاروط وهي فتاة من بعلبك. وفي العام نفسه حصل اجتياح إسرائيلي للبنان، وكان أمجد ناصر وقتها مراسلًا لمجلة الهدف التي تصدرها الجبهة الشعبيّة، وعن هذا الاجتياح يقول: «شهدته بأم عيني كمراسل لمجلة الهدف في جنوب لبنان».

وفي صيف العام 1979، وصلت معلومات للأب أن ابنه موجود في بيروت، اتفقت العائلة على اللقاء في أقرب نقطة حدودية بين الأردن وسوريا في درعا، يقول شقيقه أحمد: «شفناه 1979 في سوريّا، هون بدرعا، عند قرايبي، أبوي ما عرفه، شكله متغيّر». ودع العائلة في درعا ورجع إلى بيروت «وما عاد شفناه»، يقول أحمد. وفي هذه السنة تسارعت الأحداث في حياة أمجد ناصر إذ ولدت له يارا، وأصدر ديوانه الأول مديح لمقهى آخر، وقرّر الدراسة في معهد الاشتراكية العلمية في اليمن الديمقراطي قبل أن يتركه ربيع 1981.

وفي بيروت، دخل ناصر أجواء المدينة سريعًا، والتي تمثّلت بتيارين «يبدوان متناقضين: سياسيًا في الفاكهاني وشعريًا في الحمرا. الأول معقل الثورة الفلسطينية، والثاني مسرح الكتابة والسجالات السياسيّة والشعرية المناوئة التي تدور على طاولات مقاهي الرصيف».

قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 كان ناصر قد عُيّن مشرفًا على البرنامج الثقافي في الإذاعة الفلسطينية. وكان يسكن محلة أبو شاكر في بيروت، ويزور دمشق بين فترة وأخرى ليتنفس هواء البلاد، عبر لقاء مجموعة من الأردنيين الذين يدرسون في دمشق وبينهم الكاتب موفق محادين.

عندما بدأ القصف على بيروت من قبل الطيران الإسرائيلي كان ناصر في دمشق فعاد إلى بيروت إلى محل عمله، وشهد الحصار. «تكثّفت الغارات على بيروت، وصار عملنا في المقر الرئيسي للإذاعة الفلسطينية خطرًا فانتقلنا من الفاكهاني إلى هذا المقر السريّ قرب المدينة الرياضية». في تلك الفترة حمل ناصر السلاح لأول مرة «لم أحمل الكلاشينكوف ذا الأخمص الحديدي الذي لدي في شوارع بيروت من قبل، الآن أحمله».

وخلال حياته، كان الموت قريبًا من ناصر أكثر من مرّة، مرّة إثر نقاش سياسي وجّه له فيه مجادله الاتهام بأنه يساريٌّ يعمل في إذاعة تخضع لحركة فتح وهو ابن تنظيم ماركسي أي الجبهة الشعبية، ليرفع الاثنان أسلحتهما على بعضهما، لولا تدخل زملاء في الإذاعة «فضّوا الاشتباك الذي كاد أن يودي بحياة أحدنا»، وكان الموت قريبًا في مرّة أخرى عندما حاول فصيل مسلّح وبسبب خلاف سياسي اغتياله في العام 1979 عن طريق إلقائه من أعلى مبنى مجلة الصمود التي كان يعمل فيها ناصر محررًا.

وفي أحد أيّام الاجتياح، بدأ القصف بجوار الإذاعة فرأى ناصر الموت وبدأ الركض، لا يعرف إلى أين، وصل بيته ومن ثم هام ركضًا في أحياء مختلفة من بيروت، والطائرات تقصف «أركض ولا أعرف إلى أين، الطائرات فوق رأسي كأنها تطاردني شخصيًا».[17] بعد مدة من الركض قرر العودة، إذ كان على الإذاعة أن تواصل البثّ، وكان عليه أن يكتب على الواقف بأي ورقة تقع تحت يده.

في الحصار، تعرّف ناصر على غالب هلسة القادم حديثًا من بغداد، وعلى سعدي يوسف. وعن علاقته بالشعر في الحصار يقول «يبدو أنني غير قادر على كتابة الشعر هذه الأيّام، هناك كثيرون يكتبون لا أعرف كيف، ولكني لا أستطيع كتابة الشعر. مقابل ذلك أكتب كثيرًا للإذاعة، أحيانًا عدة مرات باليوم، مقالات وخواطر تشبه الشعر».

وقد تطوّرت شخصية ناصر الصحفية خلال الحصار، إذ كان يطلع على أغلب ما يذاع ويكتب في الصحافة والإذاعات، مثل مونتي كارلو، وصوت لبنان العربي، والصحافة المكتوبة، ويحضر المؤتمرات الصحفية، ويقيم علاقات مع مراسلين في الميدان أثناء القصف، كما كان على تماسّ مع قيادة الثورة الفلسطينية، مثل ياسر عرفات وخليل الوزير وسعد صايل، وكان يسمع كل حكايات المقاتلين التي يأتي بها غالب هلسة للإذاعة من الميدان. هكذا تشكلت شخصيّة أمجد ناصر الصحفي.

وفي يوم 19 آب 1982 سلّم ناصر بندقيته الكلاشينكوف والذخيرة، إذ كان من المقرر أن تخرج الدفعة الأولى من مقاتلي المقاومة من لبنان في اليوم التالي، وكان من المفترض أن يغادر ناصر إلى تونس. خرجت الدفعة الاولى، والثانية، وناصر حائرٌ لا يعرف إلى أين يذهب، ليقرّر في النهاية المغادرة إلى دمشق. ويوم 23 نام ناصر في مبنى الإذاعة، على أن يغادر في اليوم التالي بيروت التي لم يكتب فيها من الشعر إلّا «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» وبعض قصائد «رعاة العزلة».