منذُ فجر الفلسفة تعرَّض مفهوم الأخلاق إلى التحليلِ والتنقيح ممّا جعل منه قضية جدلية، وهذا بدايةً بالفلسفةِ اليونانية وما بُنيَ عليها من تفسيراتٍ تتحدث عن ماهيّة القِيَم الأخلاقية وأصلها، امتداداً للأيديولجيات المُختلفة "مثل الدين" وتعريفاتها للقِيَم الأخلاقية؛ وهذا ما أنتج أيضاً نسبيَّةَ مفهومِ الأخلاق ما بين رؤية وأُخرى، وفي هذا المقال سوف ندرس توجُّه الفيلسوف فريدرك نيتشه
(Friedrich Wilhelm Nietzsche (1900-1844؛ وهو فيلسوفٌ ألمانيٌّ وعالمُ لغويَّات حثَّ على تنقيح الأخلاق التقليدية والقِيَم المسيحيَّة بغية العودة للأصول "الجينالوجيا" وبناء قِيَم جديدة، إذ يصفُ نيتشه سبب انتصاره في الفلسفة هو تَطلُّعهِ لكلِّ ممنوعٍ، ومن هذا الممنوعات في عصره كانت القِيَم الأخلاقية، فعرَّاها بالكامل ليعيدِ صياغتها من جديد، وقدَّم كتابه "أصل الأخلاق" في عام 1887، وهو يتألف من مقدمة وثلاث مقالاتٍ تتناول فيه مفهوم الأخلاق وجذورها المُستندة إلى الاعتبارات والأنماط الاجتماعية، مع وضع القوة والذكاء والاختلاف في الميزان، بغيةَ تحليل النمط الأخلاقي وسبب اتباعه لكلِّ فئةٍ من المُجتمع.
تعدُّ فلسفة نيتشه الأخلاقية غائية في التوجه، إذ يُهاجم الأخلاق المُلتزمة بالاعتبارات الميتافيزيقية "ما وراء الطبيعة"، والتجريبية "ما يَنتج عن تجربتها"، وهذا لتأثيرها الضارِّ على ازدهار المجتمع البشري "الإنسان الأعلى لدى نيتشه"، ويتضح في نصوص نيتشه عدم دعمه للمواقف الليبرالية "المساواة بين البشر على سبيل المثال"، ولكنه لم يقدم تصوّراً منهجيّاً سياسيّاً عن طبيعة الدولة، ولم يقدّم فلسفة سياسية ما، بل يهدف نيتشه إلى تحرير الكائنات بشرية المميزة بوعيها من مفهومهم الخاطئ للأخلاق؛ وليس تحويل المجتمع كله.
يُعدُّ نيتشه من أكبر الناقدين للأخلاقيات التقليدية الأوروبية والأسس المسيحية في عصره، ويعدُّ الوعيَ الأخلاقيَّ غيرَ متعلقٍ بجوهرٍ معينٍ، بل الجوهر هو ابتكار تاريخي، ومن هنا يحدد نوعين من الأنماط الأخلاقية التي مرَّ بها التاريخ وهما:
نمط جيد/سيئ good/bad؛ تدل كلمة "جيد" على امتيازات الطبقة الاجتماعية، مثل الشجاعة في مجتمع يمتلك طبقة عسكرية كبيرة، أو الشهامة في مجتمع يمتلك نخبة ثرية، أو الصدق في مجتمع يمتلك طبقة استقراطية عُليا؛ ففي مثل هذا النمط يرتبط الخير بالفضائل الحصرية للنظام من القوة والسلطة والصحّة التي يتميَّز بها النُبلاء من الاستقراطيين، بينما كلمة "سيئ" في هذا النمط تعني أن تكون فقيراً للفضائل العٌليا مثل القوة والسلطة، ويقصد بهذه الفئة طبقة العبيد والفقراء.
ونمط جيد/شرير good/evil؛ وهو النمط الذي تطوّر عن النمط الأصلي "جيد/سيء" بفعل تمرُّد العبيد على مفهوم الأخلاق السائد؛ فالأشخاص الذين عانوا من الاستبداد والتسلُّط المستمر من قِبَلِ الطبقة العليا الاستقراطية، قد صاغوا نمطَهم الأخلاقي العاطفي المتآكل من الكراهية ضد أعدائهم "طبقة النبلاء" وحولوه من الجيدِ/السيئ إلى الجيد/الشرير، المُصمَّمِ لغرض الإدانة الأخلاقية لهؤلاء الأعداء والنزعة الانتقامية ضد استبدادهم.
وأصبح هذا النمط سائداً لدى فئة كبيرة من طبقة العبيد، وتبعاً لعدم قدرتهم أن يكونوا من طبقة الأقوياء "الاستقراطية"، فإنَّهم يستخدمون المساواة المُطلقة للتخفيفِ عن أنفسهم والتعايش مع وضعهم دون أن يتزايد الحقد في نمطهم الأخلاقي ممّا يجعلهم في دائرة الخطر والمواجهة، وبواسطة إنكارهم للتفاوت الطبيعي بين الطبقات الاجتماعية، مثل القوة والذكاء والجمال، صاغ العبيد طريقتهم للهروب من مواجهة ضعفهم والتخلُّص من شعورهم بالدونيَّة أمام أخلاق السَّادة عن طريق قِيَمٍ جديدة.
ولذلك يربط فريدرك نيتشه النمطَ الأخلاقي الثاني "الجيد/الشرير" مع الأديان المسيحية واليهودية والمطالبة المساواة الاجتماعية أو الاقتصادية منها مثل الشيوعية والاشتراكية، وينتقد نيتشه مبدأ المسامحة في منظومة أخلاق العبيد؛ إذ يعدُّ ذلك ضعفاً وتهويناً على أنفسهم لأنهم لا يمتلكون المخالب "القوّة"، ولهذا ظنُّوا أنفسهم أنهم أخلاقيُّون، وروَّجَ الكهنة لهذه الأفكار في أوروبا ليخلِّصوا الضعفاء من شعورهم بالضعف واستبداله بالقِيَم الأخلاقية، وبشَّروا بالزُّهد في الحياة على الدوام لتعويضها بالوعود الماورائية مثل الفردوس الأعلى، إضافةً لتمثيلهم أن الخير والجيّد يكمن في الفقراء؛ وحسب رأي نيتشه فإنَّ هذا ترخيص واضح للدعوةِ إلى العدمية النيتشوية " وهي تسخيف الحياة وإسقاط القِيَم العُليا" التي تُنهك أوروبا والتسمم بأخلاق العبيد بدلاً من الحثّ على امتلاك القوّة للوصول إلى الإنسان الأعلى والمجتمع الأسمى.
ومن الخطابات التي واجه بها نيتشه القِيَم الدينية في النمط الثاني "أخلاق العبيد"؛ رفضه لكلِّ القِيَم التي تُبنى على الوعود الميتافيزيقيا "يقصد الحياة الأخرى في الاعتقاد الديني"، بل يرى أن القِيَم تكمن في الحياة المادية لا غيرها وهي المكان الوحيد الذي يحتويها ويُحافظ عليها ويسمح لها بالازدهار عن طريق القوّة؛ وهنا يُطرح السؤال "ما القوّة؟ ومن يجب أن يمتلكها؟" وحسب القُرّاء النيتشويُّون وتحليل نصوصه تتمثل القوّة في الحياة بذاتها "حياة البشرية" ولا سيما حياة "أعلى الرجال".
ما قدَّمه نيتشه في إطروحاته عن جينالوجيا الأخلاق هو تحليل وتنقيح يمتدّ إلى مفاصل الأخلاق التقليدية والدينية كلها دون توضيحٍ منه على نحوٍ صريحٍ لقِيَم أخلاقية مُعيَّنة يجب أن تُتَّبع، لكن مع ذلك يُؤَوّلُ نيتشه بجهاتٍ مُتعدِّدة من قبل الباحثين في فلسفته، ومع صعوبة استبدال قِيَم الأخلاق الدينية المُمتدة في تفاصيل الفكر البشري، يعتقد نيتشه أنَّ مهمة الفلاسفة هي إيجاد قِيَم جديدة على الدوام.
يقول فتحي المسكين وهو مترجم كتاب "جينالوجيا الأخلاق"، وأستاذٌ للفلسفة الحديثة والمعاصرة في الجامعة التونسية:
"يجب علينا أن نحترس من أيّ فهم "أخلاقويّ" لكتابات نيتشه: مثلاً أن نعدّه معارضاً يائساً من الأنوار الحديثة أو داعياً خطيراً إلى البربرية، أو قومياً متعصباً ضد المكاسب الحقوقية للدولة الليبرالية، تلك أفكار مسبقة أو ضروب مريضة من الفضول، إنه يمارس أنواراً جديدة ويدفع بها بعيداً عن أي أنوار سابقة [..]"
مصادر المقال:
فريدرك نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، فتحي المسكين، تونس 2010، منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، سلسلة: ديوان الفلسفة.