حركة خارج السرب | سؤال العقل و النقد في فلسفة يورغن هابرماس
سؤال العقل و النقد في فلسفة يورغن هابرماس
2019-10-02 | 2766 مشاهدة
أشرف تلوش
مقالات

شكل نقد يورغن هابرماس للعقل منعطفا حاسما في الفكر الفلسفي المعاصر، حيث تم رد الاعتبار إلى هوية الإنسان، ليس بوصفه ذاتا منتجة أو فاعلة في التاريخ، بل بوصفه كائنا تواصليا و اجتماعي؛ فقد ساد على المجتمع المعاصر نوع من التسلط التقني جعلت العقل متمركز على ذاته، و هذا ما أكد عليه جل فلاسفة مدرسة فرانكفورت، لكن ما يميز هابرماس أنه انتقد العقل الأداتي و استبدله بعقل تواصلي، فإلى أي حد يمكن اعتبار العقل التواصلي بديلا عقلانيا للعقل الأداتي؟ وما هي الطريقة التي اعتمدها هابرماس في نقده للعقل المتمركز على ذاته؟ وعلى ماذا تبنى العقلانية التواصلية حسب هابرماس؟

يعتبر العقل الأداتي أحد المنطلقات الأساسية التي نالت اهتمام يورغن هابرماس فنقدها. و أصر على تجاوزها، باعتبار "العقل ينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل ولا يهتم بالخصوصية، ويحاول هذا العقل الأداتي تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة وينظر إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية المادية". إن مفهوم الأداتية عند هابرماس مكون من أسلوبين: "أحدهما يمثل أسلوبا لرؤية العالم، و مضمون الآخر يمثل أسلوبا لرؤية المعرفة النظرية"، هذا ما يوضح علاقة العقل الأداتي بالتفكير العلمي و أساليب رؤية العالم، فيرى هابرماس أنه يجب تكسير معطيات هذا العقل عن طريق هدم مركزه الفلسفي الوضعي، لذا سعى من خلال نظرية الفعل التواصلي إلى الانتقال بالعقلانية من كونها ممارسة الذات إلى ممارسة المجتمع، و تتجلى هذه العقلانية في الحياة اليومية للناس عبر النشاط التواصلي، حتى لا تبقى العقلانية تدور في إطار فلسفة الذات؛ أي تلك الفلسفة التي تقوم بعمل شيء ما للموضوع، في حين يرى هابرماس أنه ينبغي من العقلانية أن تكون فعلا للمجتمع من خلال اللغة بوصفها أداة للتواصل.
ينطلق هابرماس من نظرية "العقلنة" عند ماكس فيبر لبناء مشروع الحداثة، لأن "العقلانية تشكل الخط الناظم لتعاون جميع المجالات الاجتماعية"، لقد حاول فيبر فهم أصول و جذور العقلانية الغربية التي ساهمت في تطوير مختلف مجالات المجتمع، هذا ما يبرز كيفية نشوء الرأسمالية من خلال: "التخطيط و التنظيم للمجالات الاقتصادية للمجتمع، الشيء الذي دفع هابرماس بأن يطلق على النوع من العقلانية عقلانية حسابية"، هذا يدل على أن العقلانية تقوم بدور يهدف إلى تنظيم مختلف مناحي الحياة.
ينتقد هابرماس فيبر مؤكدا أن الحداثة اتخذت شكلا عقلانيا في تنظيم جل الميادين، من قبيل الميدان الاجتماعي، الثقافي، والفردي. "فعلى ضوء الخلاصات السوسيولوجية الأساسية يعزز هابرماس نظرية العقلنة، بنظرية الفعل التواصلي، ليعتبر أن الفعل التواصلي أساسي في تعريف المجتمع الحداثة".  هذا ما يوضح أهمية الفعل التواصلي داخل المجتمع الذي يهيكل عبر الجهاز التقني. في هذا المقام دعا هابرماس إلى عقلنة الملفوظات من خلال إخضاع الأفكار لنطاق المحاججة داخل الفضاء العمومي حيث: "يوجد هناك نوع آخر أكثر فعالية من العقلانية الأداتية إلا وهي العقلانية التواصلية"، من خلال هذا القول يتبين لنا أن هابرماس انطلق من مفهوم العقلنة عند فيبر الذي يخطط وينظم المجتمع، فاقترح بديلا عنه يتجلى في العقل التواصلي القائم على اللغة العادية، كما وضح هابرماس السمات الكونية للوسيط اللغوي الذي سيحل محل العقل الأداتي بالاعتماد على قوة الحجاج داخل الفضاء العمومي ''علاوة على مفهوم الفعل التواصلي في الفضاء العمومي الذي يشكل مفتاح ممارسة الديموقراطية التشاركية و يبعث الأمل بالنسبة للفاعلين السياسيين لتجاوز مخاطر الإديولوجية و التسلح بالمعرفة العلمية و المعقولية العلمية التي تحقق النجاعة و الفعالية. ربما اعتبار الأخر الفاعل هو من يميز الفعل التواصلي عن الإستعمال الأداتي للأشخاص و التعامل معهم كأدوات لتحقيق مارب شخصية'' ففلسفة التواصل لها قيم نقدية من التراث الفلسفي الكانطي، خصوصا ''مشروع السلام الدائم'' الذي ينادي بالحرية للعقل الأنواري.
'' لقد جاءت العقلانية التواصلية مع هابرماس لتحل محل العقلانية الأداتية و لتتجاوز الأفق التقنوي الإستهلاكي إلى أفق الحواري التفاعلي من أجل تأسيس نمط مجتمعي جديد من خلال ديموقراطية تشاركية عمدها التوافق و إتيقا النقاش'' ولهذا يجب التأكيد على أهمية التواصل داخل الفضاء العمومي في قضايا العلم و قضايا الإنسان و قضايا حقوق الإنسان... و هذه القضايا يلعب فيها التواصل دورا مهما من أجل التفاهم و التوافق على أفكارها و العمل بها، ''فالتواصل هو العملية التي توحد بواسطتها العلاقات الإنسانية و تتطور" فلا يمكن الحديث عن علاقات إنسانية في المجتمع دون الحديث عن تواصل بين الأفراد، فالتواصل هو ما يجعل العلاقات الإنسانية ممكنة التحقق، فالمفهوم العام الذي وضعه هابرماس يتجلى: في العقل التواصلي الذي يقدم حلولا لمختلف فلسفات الوعي كاللبيرالية و الماركسية، بل وتطويرها من أجل خدمة المجتمع معتمدا بذلك الدلالات التواصلية التي غابت عن مجتمعاتنا، فعدم التواصل هو ما يجعل الأفكار و المعتقدات الدينية تنتج التطرف.
فأساس العقلانية عند هابرماس تكمن في بعدها التواصلي، فانتقد العقلنة في بعدها الأداتي المشوه ، إذن فالعقلانية التواصلية عند هابرماس هدفها تحقيق الاندماج الاجتماعي انطلاقا من نظريته التواصلية ، " إن هابرماس في إطار حديثه عن النظرية التواصلية يبحث دائما عن المعايير الأخلاقية والاجتماعية التي تسمح لنا بتحقيق تفاهم و إجماع بين المشاركين في العملية التواصلية ".  من هنا إن هدف التفاهم بين المشاركين في العملية التواصلية هو الوصول إلى إجماع في المجتمع هذا الإجماع، هو من سيتمكن من معالجة كافة المشاكل التي يعاني منها المجتمع، ومن تم استكمال مشروع الحداثة الغير المكتمل بعد.
إن خرائطية يورغن هابرماس وشمولية فكره المنفتح على كافة الفلسفات والعلوم الاجتماعية، مكنته من وضع منهج عام لمعالجة كافة التحديات التي تواجه المجتمعات الراهنة الغربية منها، والعربية  فضعف التواصل بين أفراد المجتمع الواحد له سلبيات عديدة: كضعف الحوار بين المفكرين العرب وما له من أثر بالغ في تأزم الأوضاع العامة للشعوب العربية: فكريا، سياسيا، واجتماعيا... ناهيك عن السيطرة الأداتية التي نخرت الواقع العربي الراهن.
فالعقلانية التواصلية تسعى إلى فرض قيم الحوار الذي تنعدم بين أفراد المجتمع، و بالتالي وجب على كل مثقف عربي أن يعنى بالحوار العقلاني الهادف كما وضع معالمه هابرماس. فالحوار في الفكر العربي القديم موجود ( تهافت الفلاسفة و تهافت التهافت ) ولكنه انعدم لأسباب عدة منها سيطرة العقلانية الأداتية، وعلى هذا الأساس فالواقع الحالي يفرض علينا نفسه للتوصل العقلاني أكثر من أي وقت مضى.
حاصل القول: فالإنتقال من براديغم العقل الأداتي إلى براديغم العقل التواصلي كما جاء به هابرماس أعطى للذوات الإنسانية شرعيتها من أجل التواصل في الفضاء العمومي، و طرح كل المشاكل التي يعرفها المجتمع للحوار الهادف المبني على أخلاقيات المناقشة، التي تهدف إلى التفاهم بين الذوات في أفق التفاهم العالمي، فما أحوجنا إلى هذا التصور العقلي/ الأخلاقي/ التواصلي، في عالمنا العربي خصوصا مع ما نشهده من صراعات و تطاحنات تعبر عن غياب العقل التواصلي و طغيان العقل الشمولي المتمركز حول الذات الرافض لتعدد القيم الإنسانية المشتركة، فلربما اعترافنا بالعقل التواصلي سيفتح بابا ً جديدة لظهور أنساق فلسفية عربية تقول كلمتها للإنسانية.

أخبار ذات صلة