يتأسس مشروع نيتشه الفلسفي على النقد الجنيالوجي,النسابي للقيم ,بما هو بحث في الأصل عن القيم والاعتقادات لمعرفة أصولها وطريقة تشكلها, وهو المسعي الوحيد في نظر نيتشه لإنجاز نقد كلي يتجاوز فلسفة المعنى والذات, ومن التباساتها الميتافيزيقية ,فالقيم عند هذا الفيلسوف يجب أن تكون نقدية, وهو ما فشل فيه سابقوه, وعلى رأسهم صاحب "نقد العقل الخالص" , كانط الذي لم يستطع تأسيس صرح فلسفة نقدية كاملة , انطلاقا من القيم التي تتطلب قلبا نقديا, من خلال عرض العناصر التفاضلية المقابلة لها. وهو السبيل الكفيل بتحرير المعنى من واحدية الرؤية والمطلق, ناسفا بذلك منطق الثنائيات بما هو تجل واضح للميتافيزيقا التي سجنت الفكر الغربي منذ أفلاطون. إن نيتشه يحل مبدأ الشمولية الكانطي بالشعور بالاختلاف أو المسافة (العنصر التفاضلي),فمن خلال هذا الشعور بالمسافة يصبح للمرء الحق في التفلسف, الذي يعني نيتشويا خلق قيم جديدة وتحديدها, انطلاقا من استقصاء نسابي للقيم التي تتعارض مع طابعها المطلق كما مع طابعها النسبي أو النفعي. وهي المهمة التي يوكلها نيتشه للفيلسوف,لأنه يطرح على نفسه بالضبط استخدام العنصر التفاضلي كناقد ومبدع, وبالتالي كطريقة, كفعل وليس كرد فعل,حتى لا يصبح النقد رد فعل,ترجمة للضغينة وروح الانتقام. إن البحث الجنيالوجي عن المعنى يمر عبر استقصاء ومعرفة القوة أو القوى التي تمتلك الشيء تفاضليا مع القوة أو القوى المسيطر عليها, والتي تجعل من الشيء أو الظاهرة كيفما كانت ليس ظهورا وبروزا بقدر ما هي علامة, بل علامات وهنا تصبح الفلسفة عند نيتشه –كما يؤكد ذلك جيل دولوز- علم أعراض symptomalogie , ونظرية عامة للعلامات sémiologie . إن دولوز , وفي سياق تشريح متن نيتشه الفلسفي ,يركز على كون هذا الأخير , يحل ويدحض كل الثنائيات, إنه يحل محل الثنائية الميتافيزيقية للظاهر والجوهر والعلاقة العلمية للعلة والمعلول,العلاقة المتبادلة بين الظاهر والمعنى, فليس هناك الظاهر والجوهر بالإطلاق والمفرد الخاضع للتعريف من طرف الوعي, بل هناك ظواهر وجواهر تتحدد انطلاقا من علاقات القوى ومستويات التوتر المتحكمة فيها والمسيطرة على الشيء ,وكل قوة هي امتلاك كمية من الواقع, والسيطرة عليها واستغلالها, وحتى الإدراك الحسي في وجوهه المتنوعة هو تعبير عن قوى تتملك الطبيعة. وهذا يعني أن للطبيعة بذاتها تاريخا. وتاريخ شيء ما هو, عموما, تعاقب القوى التي تستولي عليه, وتعايش القوى التي تصارع من أجل الاستيلاء عليه. والموضوع ذاته والظاهرة ذاتها , يتبدل معناهما وفقا للقوة التي تستحوذ عليها, والتاريخ هو تغير المعاني (دولوز ص8) . ومن هذا المنطلق يوضح جيل دولوز, باعتباره أحد أهم الفلاسفة الذين اشتغلوا بعمق وجدارة على المشروع النيتشوي ,على أنه لفهم فلسفة نيتشه, يجب أخذ تعدديتها الجوهرية بعين الاعتبار,بما هي الكفالة الوحيدة ليمارس العقل حريته , وبما هي المبدأ الوحيد لإلحاد عنيف, فتقدير القوى التي تحدد في كل لحظة وجوه شيء ما وعلاقاته بالأشياء الأخرى .كل ذلك يعود إلى فن الفلسفة الأر*قى, فن التفسير, فالتفسير وحتى التقويم , هو وزن وفكرة الجوهر لا تضيع فيه,بل تأخذ معنى جديدا, لأن كل المعاني لا تتساوى بعضها مع بعض. فلشيء من المعاني قدر ما توجد قوى قادرة على الاستيلاء عليه . وهنا يضرب دولوز مثلا عزيزا على نيتشه, وهو أن ليس للدين معنى واحد, بل عدة معاني انطلاقا من كونه يخدم على التوالي قوي متعددة (دولوز ص 9) . لذلك –يؤكد نيتشه على لسان دولوز- أن الفلسفة بما هي فن التفسير, يجب أن تمر عبر إيمانها بقناعها الزهدي متجاوزة إياه بإعطائه معنى جديد يترجم قوتها المضادة للدين, وذلك عبر اختراق الأقنعة , وبالتالي معرفة من يتقنع ولماذا؟ وبالنتيجة ما هي الغاية والهدف من وراء المحافظة على هذه الأقنعة,وهذا العمل لا يتم إلا بفضل عين الفيلسوف النسابية, وعكس الفلسفة الديالكتيكية ,فالتجاوز مع النيتشوية لا يتم انطلاقا من النفي والإنكار والإقصاء, بل بالاعتراف بالإرادة كإثبات , وهنا يختلف نيتشه مع صاحب "العالم كقوة وإرادة": شوبنهاور,الذي كان أميل إلى إنكار الإرادة المتماثلة مع مختلف تجلياتها والتي تؤدي إلى نفي ذاتها وإلغاء نفسها في الشفقة والأخلاق والزهدية. وهي تطبيقات ميتافيزيقية مقلقة, كما ينتقد في نفس السياق, الديالكتيك الهيغلي,كما يوضح ذلك جيل دولوز, من خلال تأكيده على أن العلاقة الجوهرية بين القوى لا يجب أن يفهم باعتباره عنصرا نافيا في الجوهر, بل عنصر اختلاف وإثبات . فنيتشه يحل عنصر الاختلاف العملي, محل العنصر النظري للنفي,أو المعارضة أو التناقض,فالاختلاف العملي بما هو عنصر محدد في قضية القوى هاته يكون موضوع إثبات واستمتاع , وبتعبير جيل دولوز :بهذا المعنى إنما توجد تجريبية نيتشوية مقابل مفاهيم الديالكتيك الثقيلة (دولوز ص14) .إن الاختلاف هو موضوع إثبات عملي لا ينفصل عن الجوهر ومكون للوجود. تقف "نعم" نيتشه في وجه "لا" الديالكتيكية, الإثبات في وجه النفي الديالكتيكي, الاختلاف في وجه التناقض الديالكتيكي, الفرح والاستمتاع في وجه العمل الديالكتيكي (دولوز ص15). الأمر الذي جعل دولوز يعتبر أن نيتشه بقدر ما اتخذ من الإنسان الأسمى مفهوما نقديا تجاه التصور الجدلي للإنسان , وإعادة التقويم ضد ديالكتيك التملك,وبالتالي إلغاء الاستلاب , بقدر ما كان يوجه انتقاداته لهيغل,الشيء الذي دفع دولوز للقول:إن العداء للهيغلية يجتاز عمل نيتشه, مثل خيط العدوانية (نفس المرجع ص14 ).ولفهم النقد النتشوي للهيغلية, يعطي دولوز أمثلة عن قصدية الإرادة عند كليهما,فالإرادة عند الديالكتيك يتحكم فيها العنصر النافي,الذي يجعل منها تمثل للقدرة,للتفوق, كاعتراف بين قوة المسيطر وتمثل قوة المسيطر عليه ,لا إرادة قوة تبغي الإثبات مرورا بعنصر الاختلاف في بعده التفاضلي في علاقة القوى فيما بينها, وفي هذا السياق يشير دولوز إلى مثال يقتبسه من نيتشه في كتابه "ما وراء الخير والشر " عن علاقة العبد بالسيد ليوضح الفرق بين الرجلين ومن ثم بين مشروعيهما الفلسفيين, فما تريده الإرادات, يقول دولوز, لدى هيغل, إنما هو فرض الاعتراف بمقدرتها, تمثل مقدرتها. والحال أنه تصور خاطئ تماما لإرادة القوة وطبيعتها. إن تصورا كهذا هو تصور العبد, إنه الصورة التي يكونها إنسان الاضطغان عن القوة. إن العبد هو الذي لا يتصور القوة إلا كموضوع الإعتراف, كمادة للتمثل,رهان في مزاحمة, والذي يجعلها تتبع إذا, في نهاية المعركة, مجرد إسناد قيم قائمة (نفسه ص16) . ومن هنا يقترح نيتشه الرؤية المأساوية للعالم ,لرؤية معارضة للديالكتيك والمسيحية مؤكدا أن للمأساة, كما يدلي بذلك دولوز, ثلاث طرق للموت:إنها تموت مرة أولى بفعل ديالكتيك سقراط,وهذا موتها الأوربيدي, وتموت مرة ثانية على يد المسيحية , ومرة ثالثة تحت الضربات المشتركة للديالكتيك الحديث وفاغنر شخصيا, وبالرغم من كل هاته الإنتقادات فإن نيتشه لم يستطع التخلص نهائيا من المفاهيم الديالكتيكية في التحليل ,في كتابه الأول:"ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى" الذي نشر سنة 1871 ,والذي جاء نتيجة تأثير صديقه فاغنر, قبل أن يقطع نيتشه حبل الود معه وينتقده فيما بعد بضراوة, والكتاب هو في العمق استقصاء فكري تحليلي لتراجع التراجيديا اليونانية في القرن التاسع عشر ,بسبب تغلغل الفكر العقلاني, وانتشار الفلسفة ذات العمق الجدلي,بعدما تم تفكيك تلك الوحدة المتناغمة والمتسقة التي عرفتها التراجيديا والموسيقى ,لكن طبيعة اشتغال نيتشه التحليلية أدركته هيغليا, وهذا ما يستشفه دولوز من خلال قراءته النقدية لهذا العمل, يقول دولوز:"بالرغم من أن نيتشه ليس ديالكتيكيا فهو بالأحرى تلميذ لشبونهاور, ونحن نتذكر أيضا أن شوبنهاور ذاته لم يكن يقدر الديالكتيك كثيرا, ومع ذلك ففي هذا الكتاب الأول, لا تتميز الترسيمة التي يقترحها نيتشه علينا , تحت تأثير شوبنهاور, لا تتميز من الديالكتيك إلا بالطريقة التي يتصور بها التناقض وحله, وهو ما أتاح لنيتشه أن يقول, فيما بعد, عن أصل المأساة:"تفوح منه رائحة هيغلية بصورة خطيرة كفاية"...إن التناقض في أصل المأساة هو ذلك الخاص بالوحدة الابتدائية والتفريد, بالإرادة والظاهر,بالحياة والألم.هذا التناقض الأصلي يشهد ضد الحياة, يوجه الاتهام للحياة ,الحياة بحاجة لأن تبرر,أي لأن تفدى منة الألم والتناقض, إن أصل المأساة يتطور في ظل هذه المقولات الديالكتيكية المسيحية:التبرير,الفداء والمصالحة(نفسه ص 17) . لكن يبقى أن أصل المأساة سوف تجعل نيتشه الذي اكتشف انزلاقا ته الجدلية, يحسم نهائيا مع مفاهيم الديالكتيك وطرق اشتغالها,وتجاوزها بمفاهيم ومضامين جديدة, كما أن هذا العمل جعله يكتشف جينيالوجيا أن أصل التعارض هو في إحلال الفكرة محل الحياة وهو أصل الانحطاط, لذلك نجده يقول في أصل المأساة,ص15:" إن سقراط هو عبقري الانحطاط الأول, يعارض الحياة بالفكر, ويحكم على الحياة بالفكرة, يطرح الحياة كما لو كان يجب الحكم عليها, وتبريرها وافتداؤها بالفكرة.إن ما يطلبه منا إنما هو التوصل انطلاقا من ذلك إلى الشعور بأن الحياة المسحوقة تحت ثقل النافي, غير جديرة بأن تشتهى لأجل ذاتها, وتعاني في ذاتها, سقراط هو الإنسان النظري النقيض الحقيقي الوحيد للإنسان المأساوي"(نفسه ص20 ).إن الإنسان المأساوي,كما اكتشف ,دولوز من خلال قراءته للمتن النيتشوي, في الوقت الذي يعي فيه عدوه الحقيقي الذي يمارس مهمة النفي, يجب أن يكتشف في نفسه/جسده العنصر الخاص بالإثبات,أما بخصوص انتقاداته للمسيحية, فإن نيتشه يكتشف فيها سيطرة العنصر النافي والعدمية, لذلك نجده يقول بأن المسيحية تشرح المأساة انطلاقا من مرجعية النفي والعدمية,فالحياة هي دائما موضع اتهام, فمادام هناك ألم يعني أن هناك ظلم وذنوب ومن هذا المنطلق وجب تبريرها وإفتداؤها, الأمر الذي يسميه فيلسوف إرادة القوة, "بالإحساس بالخطأ" أو "استبطان الألم", ولشرح النقد النيتشوي جيدا للمسيحية بخصوص المأساة, ينتقل بنا جيل دولوز, إلى كتاب إرادة القوة, القسم الرابع ,ص464, ليسوق شرحا يقارن من خلاله نيتشه ديونيزوس بالمسيح, فالحياة الديونيزوسية " تثبت حتى العذاب الأكثر حدة" أي أنها لا تحل الألم عن طريق استبطانه, إنها تثبته في عنصر خارجيته, وانطلاقا من ذلك ينمو التعارض بين ديونيزوس والمسيح, وهنا يستشف نيتشه أن مفاهيم المسيحية هي نفسها مفاهيم الديالكتيك, بل إن الديالكتيك الحديث هو الإيديولوجيا المسيحية بالتحديد, هكذا إذا فإن مفاهيم من قبيل:الحياة الخاضعة لعمل النافي, التناقض المتطور, حل التناقض ومصالحة التناقضات...سوف يستغني نيتشه عنها معوضا إياها بالإثبات التفاضلي, وباقي مفاهيم إرادة القوة,. فالمأساة تتحدد بالفرح المتعدد, بالفرح الجمعي باعتباره بعدا جمالياً, وليس معطى يتطلب الخوف والشفقة,كتطبيقات الأخلاقية, الذي لا يحل شيئا بقدرما يرجع الحيلة إلى الفعل النافي وإلى العدمية, وبتعبير دولوز, فإن المأساوي لا يتأسس في علاقة بين النافي والحياة, بل في العلاقة الجوهرية بين الفرح والمتعدد, بين الإيجابي والمتعدد, بين الإثبات والمتعدد (نفسه ص25) .لهذا السبب يتخلى نيتشه عن تصور الدراما الذي كان يدافع عنه في أصل المأساة , لأنها لا تزال تفخيما مسيحياً للتناقض وهنا بالضبط يوجه انتقاداته لصديق العمر الموسيقار فاغنر الذي ألف في المرحلة التي ذاع فيها صيته في ألمانيا , موسيقى درامية, أنكر في تأليفها ومن خلالها الطابع الإثباتي الخاص بالموسيقى.
- ما الوجود عند نيتشه
يتحدد الوجود عند هذا الفيلسوف تحديدا جينيالوجياً وذلك بالعودة إلى الأصول المحددة له, من خلال المفاهيم الفلسفية السابقة, والقيم التي تحكم المجتمع الأوربي, وهي أصول إغريقية , وقبل مسيحية, والتي جعلت من الألم وسيلة للبرهان على ظلم الوجود الذي استمر في صيرورته معلناً الظلم والإحساس بالخطأ عنواناً, تتصارع منة خلاله الأشياء في ماهيتها ومفكرة بصورة متبادلة عن ظلمها لصالح كائن أصلي نفتدي من أجله, فعزو الأخطاء والمسؤوليات, والاعتراض الحاد والاتهام الدائم, والإضطغان أو الضغينة, إنما تشكل جميعاً تفسيراً ورعاً للوجود, بما هي مقولات الفكر السامي والمسيحي, وفي تفسير الوجود والتفكير , وهنا يقترح نيتشه طريقة جديدة في التفكير, تتمثل في إعطاء اللامسؤولية معناها الإيجابي, يقول في إرادة القوة:" لقد أدركت اكتساب الشعور بلامسؤولية كاملة, وأنن أجعل نفسي مستقلاً عن المديح وعن اللوم, عن الحاضر وعن الماضي". إن اللامسؤولية هي أعظم وأنبل وأجمل سر لدى نيتشه, بتعبير جيل دولوز, فطريقة نيتشه الجديدة في التفكير هي السبيل الجينيالوجي لاكتشاف العمق الأخلاقي للقيم والعدمية التي ترد الحياة إل عالم مفارق, عالم الله , فليس هناك, من وجهة نظره, شيء خارج إرادة القوة, فكل شيء يتعلق بقوة قادرة على تفسيره وكل عجز يمكنه أن يرجعنا إلى العالم المفارق وإلى الحياة كعدمية وكعمل ناف, هو في العمق فصل للقوى عما تستطيعه وبالتالي إدراكها كمذنبة, وبالتالي يصبح الوجود في تعريفه, هو الوجود المقدر. القوة غير المفصولة, والإرادة الغير المشطورة, وهذا ما يستفيض في شرحه في: " إرادة القوة".
إن قراءة عاشقة للمتن النيتشوي كفيلة بجعل القارئ يكتشف أن نيتشه يعتبر أن الفلسفة الإغريقية عرفت إشراقات قبل سقراط, بل إن الفلسفة سوف تعرف بداية الإنحطاط والإندحار مع هذا الفيلسوف الإغريقي, لذلك, وكما يورد ذلك جيل دولوز, فإن نيتشه وجد في هيراقليطس المفكر المأساوي الوحيد , ومشكلة العدالة تنطرح على امتداد مؤلفاته. فهيراقليطس يرى الحياة بريئة وعادلة بصورة جذرية. إنه يفهم الوجود انطلاقا من غريزة اللعب, بل إن الوجود ظاهرة جمالية, لا ظاهرة أخلاقية أو دينية. لذلك فإن نيتشه لا يتوانى في معارضة انكسيماندر بهذا الفيلسوف المأساوي, كما يفعل نيتشه الأمر ذاته مع أستاذه شوبنهاور. فالوجود لا يتحدد إلا بالصيرورة وإثبات المتعدد الذي هو إثبات الواحد في حد ذاته, لذلك لم يرى هيراقليطس أي ذنب للوجود, وأي عقاب للمتعدد, وأي تكفير عن الصيرورة, من هنا يأتي إعجاب نيتشه بهذا الفيلسوف , خاصة وأنهما يلتقيان في نقطة أساسية وجوهرية في تفسير الوجود وفهمه, بعبارة أخرى, يصبح الوجود لا علاقة له إطلاقاً بالذنب أو المسؤولية, وبالتالي فإن اثبات الصيرورة واثبات وجود الصيرورة هما زمنا لعبة ما, يتألفان مع حد ثالث هو اللاعب, أو الفنان أو الطفل اللعبة التي يشبهها نيتشه برمية النرد, التي تثبت الصيرورة, وتثبت وجود الصيرورة. إن زهور النرد التي نرميها في اللحظة الأولى هي إثبات الصدفة التي هي الضرورة, وفي اللحظة الثانية هو التركيب الذي تكونه وهي تسقط , هو إثبات الضرورة, وبهذا يجعل نيتشه من الصدفة إثباتاً .لذا يكفي معرفة اللعب والتحدي, بما هو إثبات الصدفة وليس إلغاؤها عبر إسقاطات المنطق السببي والغائي, والتي يرجعها نيتشه نسابياً إلى العقل بما هو روح الانتقام والضغينة والإحساس بالخطأ.فإذا كان إثبات الصدفة هو إثبات الصيرورة, فإن هذه الأخيرة لا يحكم عليها من خارجها, من عالم مفارق حيث لا تتلقى قانونها من مكان آخر, فهي تمتلك قانونها الخاص المتمثل في الحركة الدائرية, في العودة الدائمة بتعبير نيتشه, في هذا السياق يؤكد جيل دولوز, أننا نفهم أن نيتشه لا يتعرف إطلاقاً على فكرته عن العودة الدائمة لدى سابقيه. فهؤلاء لم يكونوا يرون في العودة الدائمة وجود للصيرورة بما هي كذلك, الواحد المتعدد, أي العدد الضروري المنبثق بالضرورة من كل صدفة, وربما باستثناء هيراقليطس, لم يكونوا قد رأوا "حضور القانون في الصيرورة, واللعب في الضرورة"(نفسه ص41) .
فمادام أن الفكر المأساوي قد تم تعويضه بالفكر المسيحي و الديالكتيكي, فإن نيتشه يطلق على هذا المشروع من العدمية, نفي الحياة والحط من قدر الوجود والذي يعود إلى روح الانتقام, بما هي العدمية وأشكالها:الضغينة, الإحساس بالخطأ, والمثل الأعلى الزهدي,. كونها تشكل نموذجاً لا ينفصل تيبولوجياُ, ففلسفة نيتشه والتي من خلالها نكتشف أن العدمية ليست حدثا تاريخياً أو محدداً سيكولوجياً, بقدر ما هي محرك التاريخ أو المعنى التاريخي الذي يجد في المسيحية في لحظة ما تجليه الأكثر ملاءمة, إن روح الانتقام هو العنصر النسابي الخاص بفكرنا, العنصر الصوري لطريقتنا في التفكير, للميتافيزياء في حد ذاتها, بما هي تجل للعدمية. من هذا المنطلق يأتي المشروع النيتشوي لهدم الميتافيزياء, وذلك بالدعوة لميلاد الإنسان الأسمى – والتي يسميها نيتشه بالرسالة الفرحة - الذي لا يعرف المثل الأعلى الزهدي ولا يشعر أصلاً بالخطأ, كما لا تحركه الضغينة ورد الفعل, إنه الإنسان الفاعل بامتياز. في هذا السياق تأتي إرادة القوة كمشروع انقلابي ضد الأفلاطونية والفكر الأوربي بما هي طريقة جديدة,يقول عنها دولوز:"يسمي نيتشه رسالته الفرحة الإرادة, هكذا يسمي المحرر ورسول الفرح , إن الرسالة الفرحة هي الفكر المأساوي, لأن المأساوي ليس في اعتراضات الإصضغان, أو في نزاعات الإحساس بالخطأ, أو في تناقضات إرادة تشعر أنها مذنبة ومسؤولة. ليس المأساوي حتى في الصراع ضد الإصضغان, أو الإحساس بالخطأ, أو العدمية. لم يفهم الناس يوماً في رأي نيتشه, ما هو المأساوي:مأساوي =فرحان. طريقة أخرى لطرح المعادلة الكبرى:إرادة=خلق. لم يفهموا أن المأساوي هو إيجابية خالصة ومتعددة, بهجة دينامية. المأساوي هو الإثبات:لأنه يثبت الصدفة, وفي الصدفة ضرورتها, لأنه يثبت الصيرورة, وفي الصيرورة الوجود,لأنه يثبت المتعدد, وفي المتعدد الواحد. مأساوية هي رمية النرد. وكل ما تبقى عدمية, تفخيم ديالكتيكي ومسيحي, كاريكاتور للمأساوي, كوميديا بالخطأ "(نفسه ص49), وهنا نجد جيل دولوز يعلن أن هذا النقد موجه حتى إلى الذين تفلسفوا مأساوياً أكثر من أسلافهم, وذلك من أجل توضيح أصالة وتفرد المتن النتشوي, من خلال تبيان الفارق بين نيتشه والفلاسفة السابقين, يقول دولوز:" حين تجتاحنا الرغبة في مقارنة نيتشه بكتاب آخرين سموا أنفسهم أو جرت تسميتهم (فلاسفة مأساويين), يجب ألا نكتفي بكلمة مأساة. علينا أن نأخذ بالحسبان إرادة نيتشه الأخيرة (وصيته), لا يكفي أن نسأل:بم يفكر الآخر؟ هل هذا شبيه بما يفكر به نيتشه؟ بل يجب أن نضيف كيف يفكر هذا الآخر؟ ماهي, في فكره, الحصة الباقية من الاصضغان والإحساس بالخطأ ؟ هل يبقى المثل الأعلى الزهدي وروح الانتقام في طريقته في فهم المأساوي؟ لقد عرف باسكال وكييركغارد وسيستوف,بصورة عبقرية, كيف يمضون بالنقد إلى أبعد مما فعل سابقوهم. لقد أوقفوا الأخلاق, وأطاحوا العقل . لكن لما كانوا عالقين في شباك الاصضغان, كانوا يستمدون قواهم بعد من المثل الأعلى الزهدي. كانوا شعراء لهذا المثل الأعلى. إن ما يعارضون به الأخلاق, العقل, لا يزال هذا المثل الأعلى الذي يغوص فيه العقل, هذا الجسم الصوفي الذي يمد جدوره فيه, الداخلية-الرتيلاء. لكي يتفلسفوا, يحتاجون لكل الموارد ولخيط الداخلية, القلق, التنهد, الذنب, لكل أشكال الاستياء (نفسه ص50) .بهذا يكون جيل دولوز قد أنهى الفصل الأول من كتابه " نيتشه والفلسفة " خاتما إياه بكون الاصضغان, والإحساس بالخطأ والمثل الأعلى الزهدي, والعدمية هي حجر المحك لكل نيتشوي.ثمة يستطيع تبيان إذا كان قد فهم المعنى الحقيقي لفن المأساة او لم يفهمه (نفسه ص 52)
- الفاعل وراد الفعل:
إذا كان الفرق بين الإثبات والعدمية, هو إثبات الحياة كتجل لغياب روح الإنتقام, ونفي الحياة كتجل لسيطرة الفعل النافي, فإن جيل دولوز, يقتتح في سياق توضيحه وشرحه للمتن النيتشوي, الفصل الثاني من هذا نفس الكتاب, بالحديث عن الفاعل وراد الفعل, انطلاقا من الفصل المنهجي بين الوعي واللاوعي, فالوعي لدي نيتشه, هو دائماً وعي أدنى بالنسبة إلى الأعلى الذي يخضع له, أو يلتحق به. ليس الوعي وعيا للذات أبداً, بل هو وعي أنا moi بالنسبة على الهو soi , الذي ليس وعياً, من جهته. ليس وعيا للسيد, بل هو وعي العبد بالنسبة لسيد لا يلزمه أن يكون واعياً وبتعبير نيتشه في كتابه إرادة القوة, القسم الثاني ص227, "لا يظهر الوعي عادة إلا حين يريد كل أن يتبع كلاً أعلى...يولد الوعي بالنسبة لوجود قد يمكننا أن نرتبط به", وهذه هي كما يقول دولوز: عبودية الوعي: إنه يشهد فقط على تكون جسم أعلى وهو ما يشكل في العمق نقدا نيتشوياً لفلسفة الوعي, إذ يعتبر الوقت قد حان للنظر للوعي ليس روحيا إطلاقا, بل بكونه دلالة تحول أعمق ونشاط قوى,الأمر الذي يحيلنا على عودة الجسد باعتباره حقل قوى, وبنية مغذية تنازعها جملة من القوى وليس كمية من الواقع, بل كميات من القوى في علاقة توتر دائم بعضها مع البعض الآخر, إذ في الأخير ما يحدد هذا الجسم أو ذاك هو العلاقة بين قوى مسيطرة وقوى مسيطر عليها,وهذه القوى في علاقاتها تشكل واقعا اجتماعيا, سياسيا,بيولوجيا وكيميائياً, لذا فالجسم هو دائما ثمرة الصدفة, بالمعنى النيتشوي, التي هي جوهر القوة, وما الجسم الحي إلا كناتج تعسفي للقوى التي يتركب منها, وفي جسم ما, تسمى القوى المسيطرة فاعلة والقوى المسيطرة عليها أو الدنيا رادة الفعل أو إرتكاسية , وبتعبير دولوز:تتحدد القوى الدنيا كرادة الفعل: إنها لا تفقد شيئا من قوتها, من مقدار قوتها, وهي تمارس فيما تضمن الإواليات والغائيات , فيما تنفذ شروط الحياة ووظائف الحفظ والتكيف والمنفعة, ومهامها(نفسه ص55) وهذه القوى الإرتكاسية في حد ذاتها لا يمكن أن تفهم إلا بعلاقتها بالقوى الفاعلة, التي لا تقع في متناول الوعي, خاصة وأن النشاط الرئيسي غير واع,فمن المحتم أن الوعي ارتكاسي من حيث الجوهر الجسم من وجهة نظره, وأن يفهمة بطريقته, أي بصورة إرتكاسية, ويحصل للعلم أن يتبع طرق الوعي مستنداً إلى قوى إرتكاسية أخرى, الجسم منظوراً إليه دائما من الجدة الصغيرة, جهة ردود الفعل الخاص به(نفسه ص 56). فالمشكلة الحقيقية عند نيتشه هي اكتشاف القوى الفاعلة التي من دونها لا تكون ردود الفعل بحد ذاتها قوى, وهنا يؤكد نيتشه على نشاط قوى اللاوعي والذي يجعل من الجسم شيئا ما أعلى من ردود الفعل. إن قوى الجسم الفاعلة هي ما يجعل من الجسم هو soi الهو, ويحدد الهو كأعلى ومذهل, وبالتالي فعلى العلم أن يبحث في النشاط بما هو علم اللاوعي الضروري, وهو ما يسميه بالعلم الفرح le gai savoir , عكس ما تذهب إليه فلسفة الوعي/والوضعية التي تشكل الخلفية المرجعية للعلم الحديث الذي لم يتخلص من توجيه الأخلاق طالما لم ينطلق من اللاوعي, وهذا ما حذا بنيتشه إلى توجيه انتقاداته لداروين الذي يفسر التطور, أو الصدفة في التطور بصورة إرتكاسية, فلا يجب أن ننسى أن رد الفعل يدل على نموذج من القوى مثلما هي حال الفعل, إذ يؤكد دولوز أنه لا يمكن إدراك ردود الفعل, أو فهمها علميا كقوى, إذا لم نربطها بالقوى العليا التي هي بالضبط من نموذج آخر. إن كلمة إرتكاسي هي صفة أصلية للقوة, لكن لا يمكن تفسيرها بما هي كذلك إلا في علاقتها بالفاعل, انطلاقا من الفاعل (نفسه ص 57) . في هذا السياق يثير دولوز مسألة أساسية شكلت صلب مفهوم القوى عند نيتشه, وهي الكم والنوع, والتي يصبح تحديدها كميا صرفاً أمرا مجرداً وناقصا وملتبساً في نفس الوقت, ففن قياس القوى يستدعي تفسيرا للصفات وتقويما لها وبعبارات نيتشه " لا يريد التصور إلاوالي التسليم بغير كميات, لكن القوة تكمن في النوعية, لا يمكن الإوالية إلا أن تصف ظاهرات, لا أن توضحها...ألا يمكن أن تكون كل الكميات علامات نوعية؟ ..إن إرادة تحويل كل النوعيات إلى كميات ضرب من الجنون" إرادة القوة. فإذا كانت الإشكالية الجوهرية في هذا السياق, هو كما يقول جيل دولوز:إذا لم يكن بالإمكان فصل قوة عن كميتها, لا يمكن فصلها أيضاً عن القوى الأخرى التي هي في علاقة بها ؟ وهي الإشكالية التي طرحت كثيرا بصدد المتن النيتشوي,فإن دولوز وانطلاقا من فهمه العميق لهذا الأخير يوضح أن النوعيات ليست شيئا سوى الفرق في الكمية, الذي يتناسب معه في قوتين يفترض على الأقل أن بينهما علاقة...إن النوعية تتميز من الكمية, لكن فقط لكونها ما لا يمكن مساواته في الكمية, ما لا يمكن إلغاؤه في الفرق في الكمية. إن الفرق في الكمية هو إذا, بمعنى ما, العنصر القابل للتحويل في الكمية, وبمعنى آخر, العنصر غير القابل للتحويل إلى الكمية بالذات, ليست النوعية شيئا غير الفرق في الكمية (نفسه ص 59) . وهذا بالضبط ما جعل نيتشه يوجه انتقاداته للعلم, ليس من منطلق اهتمامه بالعودة الأبدية كما أسيء فهمه, يقول دولوز:"صحيح أن نيتشه لا يمتلك الكثير من الجدارة العلمية أو الميل إلى العلم, لكن ما يفصله عن العلم هو اتجاه, طريقة في تفكير. إن نيتشه, سواء كان مخطئا أو محقاً, يعتقد أن العلم, في معالجته للكمية يتجه دائما إلى التسوية بين الكميات, والتعويض من حالات اللامساواة . إن نيتشه ناقد العلم لا يتذرع أبدا بحقوق النوعية ضد الكمية, إنه يتذرع بحقوق الفرق في الكمية ضد المساواة, وبحقوق اللامساواة ضد التسوية بين الكميات( نفسه ص 60) لكن يبقى أمام نيتشه بحسب دولوز, مهمة تعويض هذا النقص في المسعى العلمي,والذي يقترح له العودة الأبدية كمذهب كوسمولوجي وفيزيائي, فالعودة الدائمة كما يتصورها نيتشه تفترض نقد الحالة الختامية أو حالة التوازن التي يسعى العلم إليها , فلو كان- كما يقول- للكون وضع توازن, لو كان كان للصيرورة هدف أو حالة نهائية, لكانت بلغتها, والحال أن اللحظة الراهنة كلحظة تمر, تثبت أنها لم تبلغ بعد: إذا ليس توازن القوى ممكناً (إرادة القوة - القسم الثاني) . الأمر الذي يجعل نيتشه ينتقد الفلاسفة القدامى في نظرتهم للصيرورة انطلاقا من الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل, فاللحظة يجب أن تكون حاضرا وماضيا, حاضرا ومستقبلا,في الوقت ذاته يجب أن يتعايش الحاضر مع ذاته كماض وكمستقبل, كعلاقة تأليفية للحظة مع ذاتها والتي تشكل في العمق العودة الدائمة جوابا على مشكلة العبور, فليس الوجود هو الذي يعود, بل العودة بحد ذاتها تشكل الوجود, لذا كما يقول دولوز شارحا فكرة نيتشه:" يجب التفكير في العودة الدائمة كتأليف: تأليف للزمن وأبعاده, تاليف للمتنوع ولإعادة إنتاجه, تأليف للصيرورة وللوجود الذي تثبته الصيرورة , تأليف للإثبات المزدوج" (نفسه ص 65) .إن عزل العودة الدائمة عن تعالقها المفاهيمي في سياق المتن النيتشوي لا يمكننا من فهما واستيعابها مفاهيميا وفلسفيا, لكونها , أي العودة الأبدية, تشكل في العمق تعبيراً عن مبدأ هو سبب المتنوع وإعادة إنتاجه, والفرق وتكراره, إنه إرادة القوة بما هي العنصر النسابي للقوة, التفاضلي والتعاقبي في الوقت ذاته.إن القوة هي العنصر الذي ينتج منه في آن معاً الفرق في كمية القوى الموضوعة في علاقة(بعضها مع بعض) والنوعية التي تعود, في هذه العلاقة, وإلى كل قوة. إن إرادة القوة تكشف هنا طبيعتها:إنها مبدأ تأليف القوى. وفي هذا التأليف بالذات, الذي يتعلق بالزمن, تمر القوى ثانية بالضروف نفسها أو يعيد المنتوج إنتاج نفسه. إن التأليف synthèse هو تأليف القوى, والفرق بينها وغعادة إنتاجها. والعودة الدائمة هي التأليف الذي تكون إرادة القوة مبدأه (نفسه ص 67) وهنا يشير دولوز إلى أن فهم إرادة القوة لا يجب أن يمر عبر فصل هذه الأخيرة عن القوى, والذي يسقطنا بالنتيجة في التجريد الميتافيزيائي كما هو الحال إذا خالطنا القوة والإرادة.إذاً لا يجب أن ننسى الفرق بين القوى الذي يشكل وجودها, والعنصر الذي يشتق منه أصلها التكويني المتبادل. فمفهوم القوة الظافر يحتاج إلى مكمل, وهذا المكمل هو شيء داخلي, إرادة داخلية, تضاف إذاً إرادة القوة إلى القوة, لكن كالعنصر التفاضلي والتعاقبي المنطقي, كالعنصر الداخلي لإنتاجها, وفي هذا السياق يختلف نيتشه اختلافاً جدرياً مع كانط وشوبنهاور, وهو ما يشير إليه دولوز, فشوبنهاور لم يحاول تخليص الكانطية من الديالكتيكية وبالتالي فتح آفاق جديدة للنقد, ليس لأن الكوارث الديالكتيكية بتعبير نيتشه تأتي من الخارج, وسببها الأول إنما هو تقصيرات النقد, لذلك , يؤكد دولوز, أن نيتشه وجد في العودة الدائمة وإرادة القوة, تغييراً جذرياً للكانطية, وإعادة اختراع للنقد الذي خانه كانط في الوقت ذاته الذي تصوره فيه, واستئنافاً للمشروع النقدي على أسس جديدة ومع مفاهيم جديدة(نفسه ص 69) .لذلك سرعان ما يدعو جيل دولوز قارئه إلى ضرورة معرفة وفهم مصطلحات نيتشه التي تشكل تعالقا مفاهيميا , يعتبر بحق القلب النابض لمتنه الفلسفي, 1- فإرادة القوة تعني العنصر النسابي في القوة, والنسابي يعني التفاضلي والتعاقبي, إن إرادة القوة هي العنصر التفاضلي في القوة,أي عنصر إنتاج الفرق في الكمية بين قوتين أو عدة قوى يفترض أنها في علاقة,2- ينتج من إرادة القوة كعنصر نسابي الفرق في كمية القوى الداخلة في علاقة ونوعية كل من هذه القوى في الوقت ذاته,ووفقا للفرق في كمية هذه الاقوى, يقال إنها مسيطرة أو مسيطر عليها, وتسمى فاعلة أو إرتكاسية انطلاقا من نوعيتها, 3- و مبدأ صفات القوى موجود في إرادة القوة نفسها, أي أن الصفات تتعلق بصورة مباشرة بالعنصر التعاقبي والنسابي, ففاعل وارتكاسي يدلان على الصفات الأصلية الخاصة بالقوة, لكن إثباتي وناف يدلان على الصفات الأولية لإرادة القوة, لذا وجب الفرق بين صفات إرادة القوة , وصفات القوة في حد ذاتها.4- إن إرادة القوة لا تفسر فقط, بل تقوم, أي أن التفسير هو تحديد القوة التي تعطي معنى للشيء, والتقويم هو تحديد إرادة القوة التي تعطي الشيء قيمته, بمعنى آخر أن التفسير يسعى إلى تحديد صفات القوة التي تعطي لهذه الظاهرة أو الشيء معنى معينا, والتقويم, يكمن في نوعية إرادة القوة التي تعبر عن نفسها في الشيء, هل هي إثباتية أو نافية.
- إرادة القوة كمفهوم وكفلسفة:
لاستيعاب دلالات وقصدية نيتشه من إرادة القوة, يحيلنا جيل دولوز, على فك التعالقات والتشابكات الممكنة بين القوي الفاعلة والقوى الارتكاسية, إذ يركز على كون أن هناك اختلاف في الأصل بينهما,وصعوبة فك هذا الارتباط المفاهيمي تتجلى في كون, أن الفعل ورد الفعل ليسا فقط في علاقة تعاقب , بل أيضا في علاقة تعايش في الأصل بالذات, ولكن بصورة مقلوبة, بمعنى آخر , أن الاختلاف من منظور القوى الإرتكاسية يصبح نفيا والإثبات يصبح تناقضا , فالقوى الفاعلة نبيلة, لكنها تجد نفسها مقلوبة في مرآة القوى الارتكاسية ,هكذا, فإن من خصائص هذه القوى أن تنفي منذ الأصل الاختلاف الذي يكونها في الأصل, أن تقلب العنصر التفاضلي الذي تشتق منه, أن تعطي عنه صورة مشوهة, وبتعبير نيتشه "الاختلاف يولد الكراهية" لهذا السبب, لا تفهم نفسها طقوى, وتفضل بأن تنقلب ضد الذات على أن تفهم نفسها بما هي كذلك وتقبل بالاختلاف.لكن يبقى السؤال الكبير دائما , هو كيف تنتصر القوى الارتكاسية ؟ وهل تمتلك كمية أكبر حينها؟ وما مصير القوى الفاعلة؟ يجيبنا بالفعل جيل دولوز , مؤكدا أن نيتشه لا يتصور اطلاقا القوي الارتكاسية كقوة أرقى وأكبرمن القوى الفاعلة, بل كطرح وتفكيك وإنقاص, فالقوى الإرتكاسية تعمل بشكل مختلف, إنها تفصل القوى الفاعلة عما تستطيعه,تنتزع منها قسما من مقدرتها, أو كل هذه المقدرة تقريبا, وبذلك لاتصير فاعلة,بل تصبح هي الأخرى ارتكاسية, وهكذا ومن:" أصل الأخلاق" إلى:"إرادة القوة" يحملنا جيل دولوز باحثا عن وجوه انتصار الارتكاسي في العلم الإنساني,ليوضح أن القوى الإرتكاسية لا تنتصر عن طريق تأليف قوة أرقى , بل عن طريق فصل القوة الفاعلة,التي بالرغم من ذلك , يعتبرها نيتشه , القوة الأرقى, والمسيطرة والفاعلة,فحتى عندما تنتصر القوى الدنيا,لا تكف عن أن تكون أدنى وارتكاسية من حيث النوعية, ومن أن تكون عبدة على طريقتها,بمعنى حتى في حالة انتصارها تبقى نافية للحياة , مدمرة للجسد والمتعة وللعب الديونيزوسي,لأنها ترهن العالم الأرضي للعالم المفارق, بل وتجعل من الحياة, افتداء وثمن الخطيئة والظلم واللاعدل...لذلك نجد نيتشه يضع القوى الفاعلة في أعلى هرم تراتب القوى, والتراتب كمفهوم عنده يعني أولا الفرق بين القوى الفاعلة والقوى الارتكاسية, وتفوق القوى الفاعلة على الارتكاسية ثانياً,وضمن مفهوم التراتب تندرج إشكالية أعمق وأكبر, إنها مشكلة العقول الحرة, والتفكير الحر, ومن هذا المنطلق يوجه نيتشه النقد للفكر الوضعي, وذلك من خلال تعويضه للفكر الحر بالعقل الحر,فبما أن, يقول دولوز, الفكر الحر الذي لا يأخذ بالحسبان صفات القوى, فهو في خدمة القوى الارتكاسية, بفعل الموهبة, ويعبر عن انتصارها. عكس العقل الحر المفسر الذي يحكم على القوى من وجهة نظر أصلها ونوعيتها.أو كما يقول, نيتشه:"ليس هناك من وقائع, ليس ثمة غير تفسيرات" نفسه ص 79) لذلك يوصي بعدم الخلط بين التراتب الذي يقيمه,أو تقيمه بشكل أو بأخر إرادة القوة,بين القوى الإرتكاسية والقوى الفاعلة,وبين التراتب الذي قد تقيمه الأخلاق والدين ,لأن المعاني بينهما تختلف اختلافا جذرياً,لأننا بذلك نجعل من الكنيسة و الأخلاق والدولة أسياد كل التراتب أو القابضين على ناصيته. (نفسه ص 80) وهذا ما يصل إلية الفكر الحر في النهاية وتصل إليه القوى الارتكاسية عندما تتمكن من فصل القوى الفاعلة عما تستطيعه,لكن ومن منظور اكتشافه للعودة الأبدية كسر فلسفي لهذا الوجود, لوجود يدين لإرادة القوة بشكل كبير , إن لم يكن هو هذه الإرادة في العمق, فإن نيتشه وانطلاقا من تبشيره للبشرية بالإنسان الأسمى, فإنه يجعل من العلاقة بين صفتي هذه الإرادة, ويقصد النفي والإثبات,وبينها وبين العودة الدائمة, إمكانية تحول , كطريقة جديدة في الشعور وفي التفكير, لذلك سرعان ما سوف يجعل من قلب القيم: الفاعل بدل الإرتكاسي, متنفس الصيرورة, أو كما يقول دولوز: إنه بحصر المعنى, قلب قلب, لأن الإرتكاسي كان قد بدأ بالحلول محل الفعل, لكن تحويل القيم أو إعادة التقويم يعني الإثبات بدل النفي, لا بل النفي محولا إلى مقدرة إثبات, أي التحول الديونيزي الأسمى. (نفسه ص 92)
- إرادة القوة بين نيتشه وسابقيه:
إذا كان نيتشه يحدد إردة القوة انطلاقا من السؤال المأساوي, فإنها تعني من ضمن ما تعنيه, الإلحاح النسابي والنقدي في آن معا لكل أفعالنا ومشاعرنا وأفكارنا, والطريقة التي تقوم على ربط مفهوم ما بإرادة القوة,لجعله عرض إرادة لا يمكن حتى تصوره من دونها,وبالتالي تحديد كونه , ووفقا لنوعية الإرادة, إثباتي أو ناف , ومن هنا يتحدد النموذج الذي تبغيه إرادة القوة ,إن ما تريده إرادة قوة ليس موضوعا, بل هو نموذج, نموذج ذلك الذي يتكلم, الذي يفكر, الذي يفعل, الذي يرد الفعل, لا يحدد نموذج إلا بتحديد ما تريده الإرادة في نسخ هذا النموذج,وبهذا يضع نيتشه فلسفة الإرادة محل الميتافيزياء القديمة, بل إنها تدمرها وتتجاوزها, وهذا ما يجعل جيل دولوز, يمضي بعيدا في اعتبار أن نيتشه هو أول من صنع فلسفة إرادة ,وأن الفلسفات السابقة, بما فيها تلك التي تندرج في الإطار النقدي, لم تتمكن من التخلص من كوارث الميتافيزياء, إن لفلسفة الإرادة كما يتصورها نيتشه , بل ودولوز, مبدأين يشكلان الرسالة الفرحة التي تكلمنا عنها سابقاً, وهي:فعل الإرادة = فعل خلق,الإرادة = الفرح,وهذا الفعل في العمق هو فعل خلق قيم جديدة وفعل تحرر,وهو ما يختلف جدريا مع مفهوم الإرادة في الفلسفة التقليدية,وعلى ضوء الميتافيزياء القديمة, وهو ما يوضحه دولوز, عندما يجعل من الفلاسفة السابقين(هوبس,شوبنهاور,كانط...),طرفا في المقارنة التي يقيمها لصالح نيتشه, يقول دولوز:"يجعل الفلاسفة من الإرادة إرادة قوة بمعنى الرغبة في السيطرة يلمحون اللانهاية في هذه الرغبة, إذ يجعلون من القوةpuissance موضوع تمثل, يلمحون الطابع الوهمي لهكذا متمثل, إذ يخرطون إرادة القوة في معركة, يلاحظون التناقض في الإرادة بالذات.يعلن هوبس أن إرادة القوة كما لو كانت في حلم لا يخرجها منه غير الخوف من الموت.يشدد هيغل على الوهمي في وضع السيد لأن السيد يتبع العبد لأجل الإعتراف به. الكل يضعون التناقض في الإرادة, والإرادة في التناقض أيضاً. ليست القوة الممثلة غير ظاهر. وجوهر الإرادة لا ينطرح في ما تريده من دون أن تضيع هي ذاتها في الظاهر. لذا يعد الفلاسفة بتقييد للإرادة, تقييد عقلاني أو عقدي يمكنه وحده أن يجعلها تحتمل العيش معها, وأن يحل التناقض.على كل هذه الوجوه, لا يؤسس شوبنهاور فلسفة إرادة جديدة, على العكس, تقوم عبقريته على استخلاص النتائج القصوى من الفلسفة القديمة, على دفع القديمة إلى أقصى نتائجها. لا يكتفي شوبنهاور بجوهر الإرادة, إنه يجعل من الإرادة جوهر الأشياء, "العالم مرئيا من الداخل". لقد صارت الإرادة الجوهر عموما وفي ذاته. لكن مذاك, صارت ما تريده التمثل, الظاهر بوجه عام.(نفسه ص 107) وهذا ما جعل , كما يقول دولوز, شوبنهاور يستمر في فهم العالم كوهم, كظاهر, كتمثل.لكن الأمر مع نيتشه يختلف جدريا, ذلك أن الإرادة لا تعني أنها تريد القوة, إرادة القوة لا تستتبع أي تجسيم, إن من حيث أصلها, وإن من حيث دلالتها, وإن من حيث جوهرها. يجب تفسير إرادة القوة بشكل آخر :القوة هي ما يريد في الإرادة.القوةpuissance هي في الإرادة العنصر التعاقبي المنطقي والتفاضلي. لذا تكون إرادة القوة خلاقة من حيث الجوهر. لذا لاتقاس القوة أبداً بالتمثل, فهي لا تمثل أبداً,وحتى لا تفسر أو تقوم,إنها ما يفسر,ما يقوم,ما يريد. لكن ما تريد؟ تريد بالضبط ما يشتق من العنصر التعاقبي المنطقي ( نفسه ص 109) .في نفس السياق تحضرنا انتقادات نيتشه لكانط . فدولوز يؤكد أن نيتشه أراد في أصل الأخلاق إعادة كتابة نقد العقل الخالص.الاستدلال الزائف للروح, تعارض العالم, مخاتلة المثل الأعلى:يقدر نيتشه أن الفكرة النقدية تتحد مع الفلسفة, لكن كانط أخطأ بالضبط هذه الفكرة, وأفسدها وخربها, ليس في التطبيق وحسب,بل منذ المبدأ,(نفسه ص 113),ذلك أن كانط اعتمد على مبادئ صورية,وجعل من النقد نقدا للعقل بواسطة العقل, وهنا سقط في التناقض, عكس نيتشه, الذي حل علم النسابة محل المبادئ الصورية, فإرادة القوة كمبدأ منطقي تعاقبي ونسابي, كمبدأ تشريعي, قادرة على تحقيق النقد الداخلي.كما يؤكد دولوز في معرض تشريحه للمتن النيتشوي أن هذا النقد ليس موجها فقط ضد كانط, بل إلى ما آلت إليه الكانطية من بعده,(خلفاء كانط في النقد :هيغل, فيورباخ,...) فإذا كان العالم الحقيقي لا ينفصل عن الإرادة, إرادة التعامل مع الحياة والعلم كظاهر, فإننا نكتشف تعارضا بين المعرفة والحياة, والتميييز بينهما هو في العمق تمييز ذو طابع أخلاقي, معارضة ذات أصل أخلاقي,لكن هذه المعرضة الأخلاقية هي مجرد عرض,للتناقض الديني أو الزهدي, الذي يجد شرحه في العالم المفارق, في تبخيس الحياة والحط من قيمتها,وهي ما يسميها نيتشه على المستوى التيبولوجي بإرادة العدم,التي لا تتحمل الحياة إلا بشكلها الارتكاسي. إنها هي التي تخدم القوى الارتكاسية كالوسيلة التي ينبغي أن تتناقض بواسطتها الحياة, تنفي نفسها بنفسها, تعدم نفسها. إن إرادة العدم هي التي تنفخ الحياة منذ البدء,في كل القيم التي تسمي أعلى من الحياة. وهاكم – على لسان دولوز- أكبر خطأ لدى شوبنهاور: لقد ظن أن الإرادة تنفي نفسها في قيم الحياة العليا .في الواقع ليست الإرادة هي التي تنفي نفسها في القيم العليا, إنما القيم العليا هي التي ترتبط بإرادة نفي للحياة, إعدام لها. وتحدد إرادة النفي هذه" قيمة" القيم العليا.أما سلاحها فهو نقل الحياة إلى تحت سيطرة القوى الارتكاسية, بحيث تجري الحياة بأسرها أبعد على الدوام, مفصولة عما تستطيعه, متصاغرة أكثر فأكثر,نحو العدم , نحو الشعور الخانق بعدمها. إن إرادة العدم والقوى الارتكاسية هما العنصران المكونان للمثل الأعلى الزهدي (نفسه ص 124).
الارتكاسية من الضغينة إلى الأنا الأعلى الزهدي:
كما سبق الذكر,فإن النموذج الفاعل في إرادة القوة, يعبر عن علاقة بين القوى الفاعلة والقوى الارتكاسية, بحيث تكون الثانية تحت سيطرة وتصرف القوى الفاعلة بطبيعة الحال, لكن أحيانا قد تنتصر هذه القوى الارتكاسية دون أن تشكل كلا أكبر وكمية أرقي من القوى, بل بفصل القوى الفاعلة عما تستطيعه, وبضم هذه الأخيرة إليها لتصبح بدورها ارتكاسية,ولفهم واستيعاب هذه القوى , نجد جيل دولوز يغوص عميقا في المتن النيتشوي لتعريف وخلخلة الجهاز الارتكاسي, وبذلك يسعى إلى حصر التعالقات بين الضغينة, والإحساس بالخطأ وأخيراً المثل الأعلى الزهدي.
الضغينة أو الإصضغان:
لتعريف مبدأ الضغينة يلتجئ دولوز,إلى بسط الاختلافات الموجودة بين الوعي واللاوعي , وذلك من خلال الترسيمة التي يقترحها فرويد للحياة والتي يسميها "الفرضية التوبيكية", والتي من خلالها يقر بأن نفس المنظومة لا يمكنها أن تحفظ التحولات التي تخضع لها بأمانة,وتقدم قابلية دائمة النداوة, لذلك وجب وجود منظومات أخرى, وهي مثلا بالنسبة لفرويد اللاوعي ,وما قبل الوعي , والوعي (المنظومات الثلاث التي ابتكرها فرويد سنة1920 أو التي توصل إليها في المرة الثانية سنة 1955,وهي ما تحت الأنا , والأنا , وما فوق الأنا ) على هذه الشاكلة والتي تعود في العمق إلى نيتشه,يفترض دولوز إذاً أن منظومة خارجية بالنسبة للجهاز تتلقى الاثارات القابلة للإدراك بالحواس, لكنها لا تحتفظ منها بأي شيء, لا تمتلك ذاكرة إذا,وأنه توجد خلف هذه المنظومة منظومة أخرى تحول الإثارة المؤقتة الأولى إلى دائمة.تتطابق هاتان المنظومتان أو التسجيلان مع التمييز بين الوعي واللاوعي: "ذكرياتنا لاواعية بطبيعتها", وعلى العكس يولد الوعي ثمة حيث يتوقف الأثر الذاكري .(نفسه ص 144) لذلك فالمنظومة الواعية ناتج تطور بين الخارج والداخل, بين العالم الداخلي والعالم الخارجي,ومن منطلق كون الفعل يتأسس على / وفي ضوء الوعي , فإن راد الفعل أو الارتكاسية تتم بالعكس عندما تجتاح الآثار الذاكرية الوعي, لكن للوعي قوة فاعلة متميزة ومنتدبة,وهي ما فوق-واعية ,إنها ملكة النسيان.التي وعكس ما تم تحديدها كنافية, شأن علم النفس, فإن لها طابعا فاعلا وايجابيا, فنيتشه يحدد ملكة النسيان بكونها ملكة توقيف بالمعنى الحقيقي للكلمة,جهاز تلطيف, قوة لدائنية, ومجددة وشافية,وهذا إذا في الوقت ذاته الذي يصبح فيه رد الفعل شيئا ما مفعولا به, لأنه يتخذ موضوعا له الإثارة في الوعي,ولأن رد الفعل على الآثار يبقى في اللاوعي كشيء غير محسوس(نفسه صر 146) لكن عندما تتضرر ملكة النسيان, بإعتبارها جهاز توقيف,تميل حينها الإثارة إلى الإختلاط بأثرها في اللاوعي, ويصعد رد الفعل على الآثار إلى الوعي ويكتسحه,لقد أصبح شيئا محسوسا, ونتائج ذلك أن القوى الفاعلة لم تعد قادرة على الفعل في رد للفعل تحرم من شروطها المادية للممارسة, لا تعود تتوفر لها الفرصة لممارسة نشاطها, يجري فصلها عما تستطيعه(نفسه ص 146) وبالنتيجة تصبح الضغينة هي رد فعل محسوس,يكف في الوقت نفسه من أن يبقى مفعولا به,بعدما تضررت ملكة النسيان وأصيبت بخلل وظيفي,وبهذا لا يعتبر نيتشه الضغينة كمحدد للمرض, بل المرض بما هو مرض هو شكل من الضغينة أو الإضطغان, الذي يتحدد طوبولوجيا,بإنتقال القوى الارتكاسية , بتبديلها للمكان,إن ما يميز إنسان الإضطغان هو اكتساح الآثار الذاكرية للوعي, صعود الذاكرة إلى الوعي بالذات,وإذا كان إنسان الإضطغان هو كلب بتشبيه نيتشه,لا يرد الفعل إلا على الآثار, هو لا يوظف إلا آثاراً:إذ تختلط الإثارة بالنسبة لإنسان الإضطغان اختلاطا موضعيا بالأثر, لا يعوديستطيع الفعل برد الفعل..لكن يجب أن يفضي بنا هذا التحديد الطوبولوجي إلى تيبولوجيا للإضطغان. لإنه حين تنتصر القوى الارتكاسية على القوى الفاعلة, عبر هذه الموارية, تشكل نموذجا بحد ذاتها (نفسه ص 148) وبالتالي فإن إنسان الإضطغان لا يرد الفعل, وذلك بفضل نموذجه, إن رد فعله يحس بدلا من أن يفعل به,لأنه يجعل من موضوعه مسؤولا عن عجزه الخاص به عن أن يوظف شيئا آخر غير أثرها,وهو عجز نوعي أو نموذجي .إن إنسان الإضطغان يشعر بكل كائن وكل موضوع كإهانة بالمقدار النسبي بالضبط الذي يخضع به لتأثيره. إن الجمال والطيبة هما بالنسبة إليه حتما, إهانتان لا تقلان أهمية عن ألم أو مصيبة يجري الشعور بها.لا يتم التوصل للتخلص من أي شيء, لا يتم التوصل لنبذ أي شيء. كل شيء يجرح. يقترب الناس والأشياء بلا تحفظ اقترابا شديداً, تترك كل الأحداث آثاراً,والذكرى جرح متقيح ( نفسه ص149) الشيء الذي يجعل الارتباط بين الضغينة وروح الانتق