في أيام المراهقة، كنت أمارس التأمل على كورنيش النيل، تحت أشعة شمس الشتاء، شعور بالاسترخاء والبهجة وأشعة الشمس تمدّك بالدفء بينما يلفحك الهواء البارد، وكان صديقي "س" يعرف أين أمارس تأملي ذلك، متى شاء البحث عني. وكّلما رأى وجهي منتشيًا ومبتسمًا انتابه خوف، كنت في ظروف اجتماعية محبطة، ولطالما كرّر لي: "عليك أن تذهب إلى طبيب، لا يوجد ما يُبرّر السعادة التي ترتسم على وجهك". عرّفني إلى جدّه، أحد المبشرين باليوجا والتأمل، ولطالما كرّر على مسمعي هو أيضًا أنّ أيّ شعور بالسعادة لا بدّ أن يلحقَه شعورٌ بالشّقاء، هذا هو التوازن الطبيعي، وعلينا أن نتجرّد من مشاعرنا كلّها، إلى حالات النيرفانا، ما فوق السعادة والشقاء. عشت سنوات بعدها، وكنت كلّما شعرت بفرح وابتهاج انتابني قلق وخوف. وبعد مرور عشر سنوات أو يزيد، استرددتُ شعوري ذلك وأنا مع صديقٍ آخر، كنت منتشيًا للغاية، وشعرتُ بقلق، يقول لي صديقي مبتسمًا: لا تقلق، أنت بخير، وكلنا سنظل بخير دائمًا، مهما حدث. لم أتحرّر من شعوري بالذنب والخوف من الفرحة سوى من عامين، وكان شعورًا غريبًا كطوفان من الألوان السحرية يتدفق على كيانكم، وأنتم بلا حول ولا قوة. ولطالما تساءل البعض منّا: ما هو شعور الناس حيال السعادة والبهجة والانتشاء؟ ما هي حكايتهم وهم يكتشفون خوفهم من الاستمتاع، وشعورهم بالذنب وترقب سوء الحظ بعد الاستمتاع؟
ابحثوا عن الذكريات
يحكي بيتر لامبرو، أستاذ جامعي ومؤلف خمسة كتب حول السعادة، عن سارة، إحدى الحالات التي عالجها. كان ينتاب سارة الخوف من السعادة، وتستدعي حالات البهجة لديها ذكريات مؤلمة، بدأت منذ أن كانت طفلة في الصفّ السادس، ذهبت إلى مُخيّم مُتحمّسة ومبتهجة، ولكنّها علمت أن جدّتها مٓرُضت، ثم ساءت حالتها وتوفيت في ذلك اليوم. بالنسبة لسارة هذه هي أول تجربة بدأ فيها يوم بسعادة، وانتهى في أسى عميق. يعلق لامبرو أن سارة طوال حياتها كلما ابتهجت بشيء ما، تبعه على المدى القصير حادث غير سار ومحبط، واكتشف لامبرو أن لديها "تصورًا انتقائيًا"، ولاحظ أن الأحداث السلبية تخرج من توقعاتها، بدون علاقة سببية بفرحها. تقول سارة إنها باتت مقتنعة بأن الأمور تسير بتلك الطريقة في عدد كبير من الأوقات التي تعيشها بسعادة، ويبيّن لامبرو أن سارة كانت قادرة على فك الارتباط بين فرحها الطفولي وموت جدتها. ويتساءل لامبرو: كم عدد الأشخاص الذين يخافون من السعادة بسبب ذكريات كهذه، ويعتبرون أنفسهم انطوائيين، ويرفضون الذهاب إلى الحفلات والتجمعات؟ واستعرض لامبرو دراسة نُشرت عام 2013 في مجلة "علم النفس العابر للثقافات" حول الخوف من السعادة، وكشفت الدراسة عن ارتباط قائم بين الخوف والسعادة؛ فالأشخاص الذين يميلون إلى الاكتئاب يبتعدون عن الأنشطة التي تجلب لهم السعادة، ثم يتطوّر الأمر إلى الانسحاب اجتماعيًا. هذا العَرَض العام للاكتئاب يُعزّز القلق من الابتهاج بحفلات أعياد الميلاد، وجلسات ودودة مع الأصدقاء، يمكن أن يقود في النهاية إلى الإحباط، أو الوحدة. كذلك الأشخاص الذين لديهم ميل نحو "الكمالية" في الأمور المثالية، يخشون من السعادة لأنهم يربطون بينها وبين الكسل أو الأنشطة غير المنتجة، حتى في غياب أي اضطراب عقلي. قد يكون للناس تجارب مبهجة يعقبها حدث سيىء، ولكن ذاكرتهم تستبعد تلك الأوقات السارّة التي لم يأتِ بعدها سوء الحظ. يُسمّي الأطباء هذه الطريقة في إدراك الأمور بـ أنماط تفكير "كل شيء أو لا شيء"، إذ تقوم تلك الطريقة بتحريف الذاكرة، وتصوراتكم عن أحداث الحياة. يقول لامبرو إن هذه الروابط المُشَوّهة والخاطئة بين المشاعر السَّارّة والأحداث السيئة قد تتطوّر إلى عادة عقليّة، عندئذ لا ينقصكم سوى قليل من الأحداث المماثلة لتطوير الخوف من السعادة، ولكن من المهمّ إدراك أننا قادرون على التراجع عن تلك الطريقة في التفكير، وكسر الارتباط. سارة احتفلت أخيرًا بعيد ميلادها الخامس والاربعين في حفلة كبيرة، وكتبت تُعلِمنا أنّها شعرت بالصّحة والسعادة، ولم يحدث شيء غير سارّ بعد الاحتفال.
تَجَنُّب البهجة والتعايش مع الاضطرابات النفسيّة
تحاول المستشارة النفسية تروي رودريجيز التنقيب في أرواح الناس حول الأسباب التي تدفعهم للخوف من السعادة، وتجنب الأحداث المبهجة، تكتب في مقال: الناس تخشى المشاعر الإيجابية لعدة أسباب، مثل الشعور بأنهم لا يستحقون هذا الشعور، أو يعتقدون أن الحظ الجيد يقود حتمًا إلى السقوط. الطبيب النفسي بول جيلبرت وزملاؤه من مستشفى كينجزاوي في بريطانيا خلصوا في دراسة نشرت عام 2012 إلى أنّ الخوف من السعادة يرتبط في كثير من الحالات بالاكتئاب، وهذا الفزع يظهر لوعي الإنسان بطرق عديدة؛ فالبعض يتعامل مع السعادة باعتبارها باعثة على الاسترخاء والكسل، كما لو كانت شيئًا تافهًا وعلى الإنسان أن يعمل دائمًا، والبعض الآخر يشعر بعدم الارتياح، إذ تكون السعادة باعثة على القلق. وليس نادرًا أن يشعر الناس بالخوف إذا كانوا سعداء بأمر ما، بسبب اعتقادهم بأن سعادتهم ستجعلهم يخسرونه. وتدعم تلك البحوث الفكرة القائلة إن حالة العزوف عن المشاعر الإيجابية غالبًا ما تتعايش مع الاضطرابات النفسية. واكتشف الأطباء ما جعلهم يعيدون التفكير في طريقة علاجهم؛ فالمرضى الذين يعانون من اضطراب اكتئابي كبير مثلًا يخافون ويقمعون المشاعر السلبية والإيجابية أكثر من الأشخاص الأصحاء، فتلك المشاعر باتت نطاقًا علاجيًا؛ فالطب التقليدي كان يُحرّض المرضى على أن يشاركوا الآخرين في مشاعرهم الإيجابية، ولكن ما اكتشفه الأطباء هو أنه ينبغي تعليم المرضى أن يشعروا بأي مشاعر سارة أو مؤلمة أولًا.
التفكير الخرافي
أما كريستين باتشو، المتخصصة في "النوستالجيا" أو الحنين إلى الماضي، ترى أنّ هناك أسبابًا تعود إلى الثقافة العامّة التي يتبنّاها الناس حيال السعادة، فالكثير منهم يعتقد لأسباب دينية أن الفرحة خطيئة، والاستمتاع بمباهج الحياة من رقص وسفر وجنس مقرون بالإثم، وأن الفرحة حتمًا يعقبها ندم أو ألم. تخشى الناس المشاعر الإيجابية لعدة أسباب كالشعور أنهم لا يستحقون السعادة وأن الحظ الجيد يقود إلى السقوط وفي ديانات أخرى، تجلب السعادة سوء الحظ والتعاسة، لتحقيق التوازن المطلوب، تعلق باتشو: التفكير في السعادة باعتبارها نذير شؤم يخلق بالتأكيد للفرح آفاقًا مخيفة. وبالنسبة إلى آخرين، ترتبط السعادة بالذنب، تشعرين أنه ليس من الجيد أن تكوني سعيدة بينما يعاني الآخرون، مشاعر مثل الخوف، والشعور بالذنب يمكن أن يكون متكيفًا مع أحداث الحياة، تستقبل أو تتذكر أخبارًا سيئة عن أشخاص تحبهم، ولكن هذا الشعور بلا معنى لأن شعورك ليس له علاقة بمصائر الآخرين. وتؤكد باتشو أيضًا أن هذه المشاعر السلبية المرتبطة بحالة البهجة والسعادة يمكن كسر الروابط في ما بينها تدريجياً، وتقترح لذلك مقترحين، الأول أن تقوم بجدولة أوقات المتع البسيطة، مثل التنزه في يوم مشمس، وتتبعها بمحادثات لطيفة أو تأمل. أما المقترح الذي تشدد عليه باتشو لقيمته العلاجية: أن تكون سعيدًا من أجل الآخرين، في محاولة لعكس الدائرة التي تربط بين المشاعر السلبية والابتهاج. التصرف الإيجابي له آثار إيجابية على الآخرين، مجاملة يمكن أن ترفع مزاج شخص آخر، والتفاؤل يمكن أن يغرس الأمل. أن تلاحظوا كيف للسعادة أن تفيد الآخرين يساعدكم في التحرك بعيدًا عن تلك الروابط، الصراع بين الابتهاج والخوف أو الذنب. نحن لا يمكن أن نتحكم في مشاعرنا بأن نطلب منها أن تتماشى مع الأسباب المنطقية، ولكن التفكير البنّاء يمكن أن يرشد وعينا، وسلوكنا للاستفادة من الفرص للحصول على روابط صحية سعيدة.
نصيحة أسعد إنسان على الأرض: لا تحاولوا
على النقيض من كل تلك النصائح، تأتينا من عقل رجل يرى علماء الأعصاب أنه أسعد إنسان على الأرض، يقول لنا: "توقفوا عن محاولة أن تكونوا سعداء". ماتيو ريكار، عالم أحياء مولود في فرنسا تحول إلى راهب تبتي ومقرب من دلاي لاما، اكتسب شهرته عندما أظهر المسح الضوئي على عقله نشاطًا مسجلًا هو الأعلى حتى الآن في مناطق مرتبطة بالمشاعر الإيجابية. يقول في كتابه "الإيثار" إنه إذا أردت أن تكون سعيدًا، توقّف عن محاولة أن تكون سعيدًا، وساعد شخصًا آخَر بدلًا من ذلك. يوضّح ريكار: في المجتمعات الغربية، غالبًا ما تكون السعادة مترافقة مع تعظيم المتعة، والبعض يتخيّل أنَّ السعادة الحقيقية مؤلفة من "تعاقُب مُتَقَطّع لتجارب ممتعة"، يبدو ذلك وكأنّها وصفة ترهقك أكثر من كونها سعادة أصيلة. السعادة تأتي عندما يجتمع عدد معين من الصفات الإنسانية الإيجابية: الإيثار، الرحمة، الحرية الداخلية "ألا تكون عبدًا لأفكارك الخاصّة، حواسّ صافية ومُتحققة، والصمود، بالإضافة إلى عقل واضح، ومستقل، لا يشوّه الواقع كثيرًا". النقطة المهمة، وفق ريتشارد، عن كل هذا الصفات الإيجابية، هي أنّها على عكس المتعة، مهارات يمكن تعلّمها عبر تدريب العقل على ذهنٍ رحيم، يعتني بالآخرين، والتوازن العاطفي. ولكن ألا يستمتع الأنانيون بحياتهم؟ في لقاء مع ديك تشيني، وزير خارجية سابق لأمريكا، في مجلة "بلاي بوي" كشف أنه راضٍ تمامًا عن جهوده في تعزيز الحرب والإرهاب، والفجوة في المرتبات، وإنكار التغير المناخي. يستبعد ريكار نجاح الأنانية في إسعاد صاحبها، فالإفراط في الذاتية يضخّم آمالنا، ومخاوفنا، ويجعلنا عرضة لتأثير الآخرين علينا. الهوس بالأنا يقودنا إلى الخسارة ويجعلنا غير سعداء، وفي النهاية نُمرّر تعاستنا لمن حولنا. وبرأيه بعض الناس يكونون سعداء في تحقيق النجاح، حتى لو أذى ذلك الآخرين، ولكن السلام والسعادة بعيدان في داخلهم، والتجاهل لآثار ما صنعوه مفيد أحيانًا، ولكن مواجهة الواقع مؤلمة في كثير من الأحيان. على العكس من الأنانية، يقول ريكار، يأتي الإيثار مصاحبًا للحب العميق، والشّعور بالامتلاء، وتنشط الحالة الذهنية في أكثر مناطق الدماغ ارتباطًا بالمشاعر الإيجابية. يمكن للمرء أن يقول إنّ الحب الإيثاري هو العاطفة الأكثر إيجابية بين كل العواطف الإيجابية. ويرى ريكار أن الإحصاءات الكلاسيكية حول السعادة تركز على السلوك الأناني لأشخاص يبحثون عن مضاعفة رفاهيتهم، وهذه هي إحدى النقاط المركزية في رؤية ريكار للسعادة، يقول إذا كنا نضع اعتبارًا أكثر للآخرين، فسوف نتحرك نحو ما يسميه "اقتصاد الرعاية"، سنهتم أكثر بتحسين ظروف العمل والأسرة والحياة الاجتماعية، والعديد من جوانب الوجود الأخرى، وسوف نكون مهتمين أكثر بمصير الأجيال المقبلة، مقارنة بالسفر، والرحلات، والجنس، وامتلاك سيارات، وأجهزة تكنولوجيا متطورة.
عن رصيفث