بونٌ كبيرٌ بين المثقف العربي لفترة ما قبل الثورة الرقمية ونظيره الذي انبثق في هذه الفترة. كان المثقفون العرب في "العصر الورقي" قريبين من القضايا السياسية لعصرهم، لكنهم كانوا مع ذلك بعيدين عن ثقافة الحشود. إن عودةً إلى ما قبل الألفية الثالثة كافيةٌ لإظهار الوضع الذي كان يشغله المثقف العربي، وهو الوضع النقدي المواكب للتحولات الاجتماعية والسياسية لبلدانهم. ولا نحتاج هنا إلى التذكير بأسماء "موظفي الشعوب العربية" هؤلاء، فكتاباتهم تشهد على نقدهم كلَّ مظاهر التخلّف في بلدانهم، ولم تكن تنجو من سهامه سلوكات الحشود وقيمها وذهنيتها. لقد كان المثقف النقدي العربي يؤدي دور الممثل لأحلام شعبه "الحقيقية" من خلال انخراطه العميق في النضال السياسي ضد الاستعمار أولاً، ثمَّ ضد الأنظمة الاستبدادية المحلية بعد ذلك، مجاهداً من أجل نشر الفكر المتنور وانتصار قيم الحرية والعدالة. لقد كانت هذه الصفوة من الناس جديرةً باسم "الطليعة" بالمعنى الذي كانت تعزوه الماركسية إلى هذا اللفظ؛ أي فئة المثقفين الملتصقين بالمشاكل السياسية والاجتماعية لمواطنيهم، والذين يشغلون المواقع المتقدمة في مسيرة النضال الشعبي. لقد كانوا يمثلون جماهير مجتمعاتهم ويشكلون القاطرة التي توجهها.
إلا أنَّ مكتسبات التواصل الرقمي، ولاسيما التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي، أعادت إلى "الشعب" كلمته، وفرضت على المثقف التحوّل إلى محلل سياسي واجتماعي ملزم بمواكبة اهتمامات الجمهور التي يعبر عنها في صفحات الإنترنت. وبسبب هذه الوظيفة الجديدة، لم يعد "المثقف الرقمي" يتخذ مسافة مجالية من الحشود ومسافة زمانية من الأحداث؛ بل إنه أصبح "في قلب الأحداث" كما يُقال في الخطاب الصحفي، مبدياً جاهزيةً لم يسبق لها مثيل للانفعال بانفعالات الحشود، وإذعاناً تلقائياً لسلطة الدهماء. فقد تحول المثقف الصانع للقيم إلى مجرّد معلق على أحداث الساعة، إلى مثقف رقمي يجسد القضيب الذي تُقلَّبُ به عيدان حماسة الحشد وانفعالاته المشتعلة من أجل إذكاء لهيبها. هكذا فعلوا مؤقتاً بمناسبة الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية أو رسوم شارلي إيبدو؛ وهكذا فعلوا وما زالوا يفعلون بالقضية الفلسطينية التي يدغدغون بها مشاعر الحشد، وبقضية "الغرب" التي يواكبون تأرجحات مشاعر الجمهور تجاهها؛ فمرة يمجدون الغرب لأنه متقدم وديمقراطي وعادل ويؤمن بالمواطن، ومرةً يشيطنونه لأنه يشعل الحروب في العالم، ويستنزف خيرات الشعوب، ولأنه منحلٌّ أخلاقياً، ويعادي الإسلام؛ لأنه يعلم أنه منتصرٌ عليه لا محالة. أليس هذا ما تفعله الحشود العربية؟
فمن هو "المثقف الرقمي"؟ إنه الشخص الذي يستطيع أن يوجه كلامه عبر وسائط التواصل الرقمية (التلفزيون، الإذاعة، شبكات التواصل الاجتماعي، المدونات، التطبيقات... إلخ) إلى جمهور واسع، مع اعتراف هذا الأخير بأن ذلك الشخص يملك كلاماً يستحق أن يُنصَتَ إليه. ومما يخلق علاقة تواطؤ بنيوي بين هذا المثقف وجمهوره قدرةُ المثقف على ممارسة مفعول التفسير؛ أي القدرة على شرح أحداث الساعة بشكل فوري بإجابات جاهزة، شأنه في ذلك شأن رجل الدين، الذي يتوافر على إجابات جاهزة عن كل الأسئلة الممكنة. ولذلك نلاحظ أن الإكراهات الاجتماعية التي يمارسها العالم الافتراضي أجبرت المثقف على الإنصات إلى "حكمة الحشود" قبل تناول الكلمة. لكن الوقت الذي أصبح يتوافر عليه للتفكير، وهو الفاصل بين لحظة ورود الحدث والكلام، ضيّق جداً، نظراً لأنَّ الجمهور أضحى يتوافر، بفضل العالم الأزرق الرَّحب، على إمكانيّة التعبير عن رأيه في الأحداث الجارية وتحليلها وتحميلها ما يريد من الدلالات زمن حدوثها.
وبالنظر إلى هذه الإكراهات، ولكي يصوغ المثقف خطاباً يصادف "الحكمة القطيعية"، يجب عليه أن يضمّنه مجموعة من العناصر؛ أولاً: أن يتحدث عن موضوع قادر على إثارة الانفعالات الجماعية؛ ثانياً: أن يستعمل لغة عادية؛ أي لغة ملموسة وخالية من المفاهيم المجردة؛ ثالثاً: أن يستعمل الحس المشترك من أجل التطابق مع ما يفكّر فيه العامة؛ رابعاً: أن يتجنب اللغة الواصفة التي تناقش الخطاب الذي تُصاغ فيه الأحكام. لقد جعل المجتمعُ الرقميُّ كلَّ شيء في متناول الجميع. لم تعد هناك أسرار لا يعرف الكشفَ عنها غيرُ المثقف الحامل للرسالة. ولم تعد تحيط بروح العصر مناطق ظلٍّ لا تنقشع إلا على يد المثقف. فكل شيء أصبح عارياً ومتاحاً ومعروضاً أمام الجمهور بأكمله. هذا ما توحي به وسائط الاتصال الرقمية من إنترنت وتلفزيون فضائي، إنّه "وهم الشفافية"، الذي يقنع الناس بأنّ العالم مرئي من طرف الجميع ومتاحٌ لهم. ويأتي المثقف الرقمي فقط ليصادق على ما رآه الحشد ليتم التطابق البنيوي بين عقلية الحشد وعقلية المثقف الإعلامي.
لا يمكن إنكار أنه لا يزال هناك بعض المثقفين العرب (على ندرتهم) الذين يمارسون دور المثقف بمعناه النقدي. لكنهم لم يعودوا يحظون من الجمهور بالقدر نفسه الذي يحظى به أشباه المثقفين الذين يحتكرون المنابر التلفزيونية والمواقع الإلكترونية وأثير الإذاعات، وذلك بسبب "البوز" (Buzz)؛ إذ تحول المثقفون من الشرط النقدي إلى كتاب رأي يعلقون على أحداث الساعة، ويرشون على عصيدتهم أسماء بعض المنظرين من أجل إقناع أفراد الحشد بأن ما يقولونه يستحق أن يُنصَتَ إليه، وأن يكون محط ثقة. هؤلاء أصبحوا مثقفين نظراً لأنهم يُستَدعَوْنَ باستمرار إلى "البلاتوهات" التلفزيونية، ويُقدَّمونَ على أنهم مثقفون. ولماذا يحظون بهذا القدر من ثقة التلفزيون؟ نظراً لأنهم يستطيعون صناعة "البوز" والترويج لأنفسهم. والبوز كلمة إنجليزية تعني في اللغة "الطنين" (صوت أجنحة النحل)، واصطلاحاً تعني تقنية في «الماركوتينغ» تتمثل في جعل الناس يتحدثون عن سلعة أو خدمة قبل القذف بها في السوق. وعموماً، يعني "البوز" عملية تواصلية جماهيرية، مخططاً لها أو تلقائية، يُعتَمَدُ فيها على "زعماء الرأي"؛ أي الصحفيين والمدونين المؤثرين. ويكون "البوز" محدوداً في الزمن، عنيفاً، ينتشر بسرعة كبيرة.
بيد أن هذا الوضع الجديد، الذي أصبح يشغله المثقف بفعل دمقرطة الكلمة بواسطة وسائل الاتصال والإعلام الجديدة، يدفع إلى التساؤل حول جدوى المثقف في المدينة. ما الذي يمكن أن يجنيه المجتمع من كلام مثقف يحرص كل الحرص على أن يكون كلامه مطابقاً لمعايير الحشد الذي ينتمي إليه؟ بالعودة إلى مفكري "الثقافة النبيلة"، سنلاحظ أنهم كانوا يمجدون الفرد الأعزل على الفرد المندمج، وكانوا يضعون ثقافة الحشود في مرتبة أدنى من الثقافة الفردية. وربما يعود هذا الموقف إلى كون الإرادة الفردية تُعدُّ العنصر الأساسي في الإيديولوجيا الليبرالية. فاللغة المستعملة في وصف الحشد في القرن التاسع عشر كانت كاشفة بهذا الصدد: كان الحشد يُنعت بقابليته للتحول ولاعقلانيته المرضية، وكان يُقارن عادة بسلوك الأطفال أو المتوحشين، ومن ثم إنّه يفقد كلّ ادعاء مشروع بأنه ذات جماعية مسؤولة. ويُعدُّ عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل واحداً من المفكرين الذين مجدوا الفرد ورأوا فيه مصدر المعرفة والنقد والحضارة والتقدم، والذين انتقدوا الجماعة نظراً لأنّها ترغم الأفراد الموهوبين على التخلي عن تميزهم، والنزول إلى أدنى مستوى فكري يحتله أحد أفرادها، وهو مستوى الانفعال وغياب التفكير العقلاني والتعقل الانعكاسي.
بحسب زيمل، هناك اختلاف جوهري بين كائن بشري ينتمي إلى جمهور من الناس وكائن بشري بصفته فرداً. يتكون الجزء الأول من شخصيّة الفرد من عناصر بدائية توجد في كلّ الأفراد. ويتكوّن الجزء الثاني من الخصائص الفردية التي تجعله خارج كلّ شيء يمكن أن يشترك فيه مع الآخرين. إنّ التفاعل الجماعي يقوّي العناصر البدائية في الفرد؛ لأن الإكراهات التي يمارسها الجمهور على الفرد تفسد طبيعته الشخصية. فهي تنزع منه شخصيته الفردية، وتنزله إلى المستوى الأدنى، نظراً لأن البشر المنتمين إلى الجمهور يميلون إلى المستوى الذي يوجد فيه أدنى واحد منهم. ويُعدُّ سلوكُ الجماهيرِ أدنى قاسمٍ مشتركٍ بين جميع الأفراد. إن ما يجمع الجمهورَ على المستوى الفكري هو ما يشترك فيه كلُّ أعضائه، بمن فيهم أفقرهم وأغباهم. وعلى مستوى الانفعالات، يبدو الاجتماعي أقوى من الفردي، كالهيجان الجماعي والهستيريا الجماعية والحماسة الجماعية.
يؤكد زيمل أن نتائج المأساة السوسيولوجية تتمظهر في الجمهور. إنّ الفرد، الذي يحاول أن يثبت شخصيته الفردية اجتماعيّاً، يكتشف أنه لن يستطيع تحقيق هذه المحاولة إلا إذا نزل إلى أدنى قاسم مشترك بين أعضاء مجتمعه. وفي هذا السياق تندرج مناقشته للفضيلة المشكوك فيها للصحفيين والممثلين والديماغوجيين الذين يسعون إلى إرضاء الجمهور.
يورد زيمل مجموعة من الأمثلة عن بعض الشخصيات البارزة، التي بيّنت بفعل مواقفها التاريخية مخاطرَ الغوغائية على منافع الفرادة. فقد قال صولون: «إن كلَّ أثيني ذئبٌ فَطِنٌ؛ لكن عندما يجتمعون في البنيكس (Pnyx[1])، فإنّه لا يرى سوى قطيعٍ من الماشية. يذكر الكاردينال دي ريتز في مذكراته، وهو يصف سلوك البرلمان الباريسي إبان الثورة، أن العديد من الأشخاص الذين كانوا يشكّلون الهيئات كانوا، على الرغم من ثقافتهم ومكانتهم العالية، يتصرفون دوماً كالرعاع أثناء المداولات العمومية والأنشطة المشتركة، بمعنى كانت تتحكم فيهم تمثلاتُ وأهواءُ الشعب. ويقول فريدريك لوغرون في ملاحظة شبيهة بملاحظة صولون، إنّ جنرالاته يكونون أعقلَ الناس عندما يتحدّث إلى كلِّ واحد منهم على انفراد، لكنّهم يتحولون إلى أغبياء عندما يجتمعون في مجلس الحرب. ونجد الفكرة نفسها تقريباً عند المؤرخ الإنجليزي فريمان، حيث يلاحظ أنّ مجلس العموم يشكّلُ، بالنظر إلى مكانةِ الشخصيات التي تكوّنه، هيئةً من الأرستقراطيين الذين بمجرّد ما يجتمعون يتصرّفون تماماً كقطيع من الديمقراطيين. وقد لاحظ أفضلُ ملاحظٍ للنقابات العمالية الإنجليزية أنّ التجمعات الجماهيرية تُفرِز قراراتٍ غبيةً وذات عواقب وخيمة، حيث إنّه تم التخلي عن معظم هذه التجمّعات لفائدة مجالس المناديب[2]».
وبالمثل، يعتقد سورين كيركيغار أنّ الحقيقة تقع دائماً على عاتق الأقلية نظراً لأنّ الأقلية تتشكّل عموماً من أولئك الذين لديهم رأي بالفعل، في حين أنّ قوة الأغلبية وهميّة، نظراً لأنّ هذه الأخيرة تشكّلها جماعات من دون رأي. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، سنة (1914)، اهتاج الألمان بفعل الشعور القومجي، وانخرطت الأغلبية العظمى من المثقفين والفنانين الألمان في هذه الانفعالات، ووقعوا على بيان يبرّر القومية والنضال العنيف. لكن ألبرت أينشتاين رأى في ذلك الهيجان علامةً على نوع من الهستيريا الجماعية، مؤكداً أنه «في هذا النوع من القضايا ندرك أنّ الأمر يتعلّق بأكباش. إنّني لا أشعر إزاء ذلك إلا بالاحتقار والتقزز».
ألا تلاحظون معي أن صوتاً مثقفاً عندما يرتفع ضدّ حماسةٍ قوميةٍ قطيعيةٍ، ينهال عليه وابلٌ من الشتائم مصدره هذه الحشود من الجهلاء، الذين يُغرِقونَ بتعليقاتهم الهوجاء صفحات الفضاء الافتراضي، والذين يُصادق على سلوكياتهم القطيعية أفرادٌ يحملون شهاداتٍ جامعيةً تخوّل أصحابها، وفقاً للتوافقات، حقَّ شغل أماكن الكلام بلغة مصابة بفقر دم ثقافي؟ إن ما خوّل هذه الإمكانية امتلاكُ أيّ فرد جهازاً رقمياً خفيفاً ورخيصاً يجعل منه صاحبَ رأيٍ في كلّ شيء. ففي عصر الإنترنت، أصبح أيُّ صاحبِ فكرٍ ضامرٍ وجافّ أن يتصور مصيره مفكراً عظيماً.