كثيراً ما توقّف كتّاب سيرة الفنان الفرنسي هنري ماتيس (1869 – 1954) عند علاقته بالمرض، سواء بوصفه حدثاً عابراً بعد إجرائه عملية جراحية في العشرين من عمره وضمن هذه التجربة اتخذ قراره أن يكون رسّاماً، أو بوصفه حالة مقيمة وهم يشيرون هنا إلى إصابته بالتهاب المفاصل والذي أقعده على كرسي متحرّك سنوات طويلة حتى رحيله.
في مواجهة عجزه، كان صاحب لوحة "الغرفة الحمراء" يعود إلى كلّ ما يتركه وراءه من أعمال وتجارب، وبذلك كان يعود بشكل مستمر إلى تقنيات وأساليب ربما تصوّر بأنه قد هجرها نهائياً، ومن هذه التقنيات علاقته بالطباعة.
"ماتيس طبّاعاً" عنوان المعرض الذي افتتح في 17 من الشهر الجاري، في "مؤسسة كانال دي إيزابيل الثانية" في مدريد والذي يتواصل حتى الثامن عشر من آب/ أغسطس المقبل، ويتضمّن أعمالاً اشتغلها الفنان خلال خمسين عاماً.
من خلال هذه الثيمة، يكشف المعرض عن الجانب الأقل شهرة في تجربة ماتيس، وفيها نكتشف علاقته المبتكرة والمكثفة مع الطباعة، وهي علاقة أخفتها شهرة لوحاته. يتضمّن المعرض مجموعة مختارة من "مؤسسة بيير وتانا ماتيس" تتنوّع تقنياتها بين التصوير بالأشعة السينية، والطباعة الليثوغرافية، والحفر، والأكواتينيت، والطباعة ثنائية اللون، وتأثيرها وتأثرها بأعماله في الرسم والنحت التي تظهر براعته وتميّزه في استخدام اللون.
أنجز ماتيس نحو 800 عمل طباعي ما بين عاميْ 1901 و1951، بعضها قدّمه في عشرات النسخ التي تتوزّع على عدد من المقتنين والمتاحف حول العالم، وهي أعمال تعبّر عن استجابته بحساسية بالغة تجاه الخطوط والألوان، وتشهد على إغنائه المستمر لتركيباته الحفرية بالتزويقات الرشيقة والشاعرية.
أسلوبه الغنائي في الحفر يشير إلى أنه امتداد لرؤيته ذاتها في الرسم، بينما تبدو مطبوعاته المعدنية ذات مدلولات تعبيرية قوية في إبرازه حركتها الإيقاعية، والتي يعود أقدمها إلى عام 1903 حيث استخدم في تنفيذها الإبرة الجافة، وتحضر فيها الخطوط الجريئة التي تناظر لوحاته ضمن المدرسة الوحشية وتلفت إلى تمكّنه من السيطرة على التقنية وقدرته على وضع بصمته الخاصة.
بعد عام 1906، بدأ ماتيس تجريب وسائط تقنية جديدة كالطباعة الحجرية واللينوليوم ومن أهمّ ما اشتغله في تلك الفترة مطبوعة تسمّى "عارية"، والتي تتسم بأسلوب هندسي مبسط لتبدو وكأنها شبيهة بتمثال حجري مبسط الرأس والجسد، ثم سيعود لاحقاً إلى الحفر على المعدن والطباعة الحجرية ليكمل سلسلة دراسة "الشكل البشري"، التي تبيّن تحكمه في تكويناته الزخرفية المبسطة، وفتحت المجال أكثر لتقديم أفكار واقتراحات جديدة.
في عشرينيات القرن الماضي، قدّم أشهر مطبوعاته الحجرية، والتي تمثّل ارتباطاً وثيقاً برسوماته التي هيمن فيها الجسد الأنثوي، وتميّزت هذه القطعة بإشراقتها ودقة خطوطها وضبطها، ثم سينجز في الثلاثينيات رسوم كتبه محدودة النسخ، منها "كتاب مالارميه"، ورسوم الطباعة الحجرية لقصائد شارلز أورلياز، ورسوم مطبوعة لرواية "أوليس" لجيمس جويس.
عن العربية