بقلم :عبدالمنعم شيحا (:باحث تونسي، حاصل على دكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربيّة- الجامعة التونسيّة. مهتم بقضايا الفكر الإسلاميّ.)
صدر كتاب المفكّر الإيراني، عبد الكريم سروش، (القبض والبسط في الشريعة) عن دار الجديد اللبناني، ضمن فعاليات منتدى الحوار العربيّ الإيراني، بترجمة للدكتورة دلال عبّاس، سنة (2003م)، وهو من الكتب الرئيسة؛ التي يمكن لها أن تبيّن لنا، بوضوح، تصوّرات الدكتور سروش حول الشريعة الإسلامية؛ التي أقام عليها نظريّته المعروفة بالقبض والبسط.
وقد كتب الدكتور سروش هذا الكتاب بلغته الأمّ (الفارسيّة)، سنة (1989م)، مثيراً، به، لغطاً شديداً، وجدلاً واسعاً، وحتىّ نقاشاً حاداً في الأوساط الدينيّة، والفكريّة الإيرانيّة، بين مؤيدين ومعارضين؛ لذلك جاءت ترجمة هذا الكتاب للعربيّة مهمّة، من جهة توسّع النقاش حول آراء سروش، لا سيما أنّه من المفكّرين؛ الذين ظلّوا يثيرون ضجّة كلّما كتبوا، أو ناقشوا، أو حاوروا، فالرجل مُفكّر تشكّلت ثقافته: «ومنهجيته في البحث، من أبعاد علمية مُتعدّدة، فهو صاحب اختصاص في الصيدلة والكيمياء، وهو متابع لأحدث الدراسات الغربية في التاريخ وفلسفة العلوم، وعلم المعرفة (الإبستمولوجيا)، وهو، إضافة إلى ذلك، ناشط ثقافي وسياسي، ومُتبحر في علم الكلام، والتفسير، وأصول الفقه، ومتذوّق لأدبيّات العرفان. ولعلّ ذلك هو ما دفعه إلى استلهام مفهومي (القبض) و(البسط) من الحقل الصوفي عنواناً لنظريّته، ساعياً، في ذلك، إلى إبراز خاصيّة التحوّل والتغير؛ التي تميّز المعرفة البشرية، ومن ضمنها المعرفة الدينية»
تتأسّس نظريّة سروش، بدايةً، على ضرورة الفصل بين الدين والمعرفة الدينيّة البشريّة، فالدين هو الإلهي السماوي المقدّس؛ الذي لا اختلاف في قدسيته، وهو القرآن والسنّة. أمّا المعارف الدينيّة فهي معارف بشريّة،نشأت عن مُحاولات لمعرفة الدين، وفهمه، وهي حصيلة جهد العلماء، وسعيهم لفهم هذا الدين؛ لذلك لا بدّ من أن تكون منقوصة ومجتزأة، وفيها رؤى أحاديّة الجانب، وهي تحتاج، دائماً، إلى التقويم، والتعديل، والنقد، والفحص، وحتى المراجعة.
واستناداً إلى هذا الفهم، يُميّز سروش بين الشريعة في ذاتها وبين الفهم البشري لها، ومن خلال ذلك، بين الدين في ذاته وبين المعرفة البشريّة لذلك الدين، كما كنّا نذكر. يقول: «الشريعة، باعتقاد المؤمنين، قدسية كاملة، وإلهية المصدر والمنشأ (...) أما فهم الشريعة، فلا يتّصف بأيٍّ من
هذه الصفات، ولم يكن، في أيِّ عصر من العصور، كاملاً، ولا ثابتاً، ولا نقيّاً، ولا بعيداً من الخطأ والخلل، ولا مستغنياً عن المعارف البشرية، أو مستقلاً عنها، ومنشؤه ليس قدسيّاً ولا إلهيّاً، وهو ليس بمنأى عن تحريف المحرِّفين، أو الفهم الخاطئ لذوي العقول القاصرة، وليس خالداً ولا أبديّاً».
وغنيّ عن البيان أنّنا، حين ننظر إلى المعرفة الدينية على أساس أنّها معرفة بشرية، علينا أن نعاملها مثل غيرها من المعارف الإنسانيّة والاجتماعيّة، وهو ما فعله سروش عندما شبّه المعرفة الدينية بالمعرفة التاريخية. يقول: «إنّ علم التاريخ يتطوّر، وتُعاد صياغتُه دائماً، ليس لأنّ الاكتشافات التاريخية تزداد كميّاً، ولكن (...) لأنّ فهم المؤرخ للحوادث يتطوّر كيفيّاً، ولأنّ الاكتشافات العلمية الجديدة تفتح منافذ جديدة للتحقيقات، والأبحاث التاريخية. والمؤرّخ المجهَّز بالوسائل العينية، والنظريات الجديدة، يتوصل إلى الفتوحات التاريخية الجديدة»
ويفترض هذا، ضرورةً، «اغتناء العلوم بعضها من بعض»، وما على المُتصدّي للمعرفة الدينية، سواء أكان فقيهاً أم مفسراً، أو عالم كلام، أو باحثاً من أيِّ اختصاص، إلا أن: «يستعين بالتاريخ وبمنهجه، وبالفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، هذا كلّه حاضر في فهم الدين».
إنّ جميع المعارف البشرية، بما فيها المعارف الدينية، مُرتبطة بعضها ببعض؛ لذلك يُفترض، عند حدوث أي تطوّر في أحد هذه العلوم، أن تتطوّر معه المعارف كلها، بما فيها المعارف الدينية، ويستتبع ذلك أنّ فهم الدين وقراءته سوف تتطوّر بحسب تطور العلوم البشرية الأخرى. من هنا، جاء توظيف مُصطلح القبض والبسط عند سروش، ليُبين أنّ فهمنا الشريعة ينقبض وينبسط بحسب المُعطيات المعرفية البشرية.
ولكن ماذا يحصل إذا اختلفت المعرفةُ الدينية مع المعرفة البشرية العلمية، وحدث التناقض؟
يُشير سروش، هنا، إلى موقف غاليلِي (Galilée)، في حلِّ هذا التناقض بفهم جديد للدين ولدوره في المجتمع. كانت نظرية السموات السبع، في نظر القدماء، مُنسجمةً وعلومَ زمانهم، فلمّا ثبُت بطلانُ هذه النظرية علميّاً، سبَّب هذا لغاليلِي ألماً من جرّاء التناقض: «فهو كان يحترم العلم، وفي الوقت نفسه، كان متديناً»، فرأى أنّ الدين: «يعلِّم الناس كيف يصعدون إلى السماء؛ أي: إلى الجنة، ولا يعلِّمهم كيف تتكوّن السماء، وكيف تتحرك»
وحاصل هذا أنّ علوم عصرٍ ما هي التي تطرح الأسئلة على الدين، وعلى الشريعة، وهي التي تطلب أجوبةً عليها؛ لذلك يقول سروش: «إنّ أسئلة كلِّ عصر هي وليدة علوم ذلك العصر، ولا يمكن أن تطرأ على بال أحد، قبل نضج العصر علميّاً. وبما أنّ العلوم تتجدّد، فإنّ الأسئلة، وثانياً الأجوبة، تتجدّد. ومن هذا المنطلق، تبقى المعرفة الدينية في تجدّد مستمر»
يطرح سروش قضية أساسيّة، وهي تطبيق هذا المنهج المعرفي على النصوص الدينية، وأساساً القرآن والسنَّة؛ ذلك أن الكثير من المفكّرين المسلمين، منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى حدود العصر الراهن، اجتهدوا في تقديم قراءات تأويلية للنصوص الدينيّة تأويلاً ينسجم، إلى حدٍّ ما، مع حاجات العصر؛ الذي يحيون فيه. بيد أنّ هذه الاجتهادات وقعت - في أغلبها - في التبرير الإيديولوجي المُتزامن مع ثورة، أو حدث، أو دعوة سياسية، أو اجتماعية، أو حاجة اقتصادية. وكانت هذه القراءات، في أغلبها، تتناول مجال الفقه وأحكامه، في نطاق من الاجتهاد الكلاسيكي، مثل سعي بعضهم إلى توسيع - نسبيٍّ - لحقوق المرأة، أو الاجتهاد في مسائل الفائدة، أو تفسير بعض الآيات تفسيراً تأويليّاً.
أمّا نظريّة سِروش، فقد اجتهدت في إحداث تغيير في المنهج من داخل أصول الدين؛ أي: من خلال علم الكلام، مُستغلاً، في ذلك، الفلسفة، والإبستمولوجيا، والعلوم الطبيعية؛ لأنّ هناك تلاؤماً لدى الإنسان المُعاصر بين معرفته بالإنسان، ومعرفته بالطبيعة، واللسانيات، والأنتروبولوجيا، وهذا التلاؤم يجب أن يشتمل على فهم الإنسان للدين.
ومن أجل هذا، يقيم سروش تمايزاً بين علماء الدين وبين المفكّرين الدينيين التنويريين، ويَعُدُّ أنّ بينهما هوّة تتّسع، دائماً، ولا يريد رجال الدين ردمها أبداً، مُحمّلاً إيّاهم مسؤوليةَ بُعد المثقفين التنويريين عن الدين في تاريخنا المعاصر، قائلاً: «كي لا نكون بعيدين عن الإنصاف، نقول: إنّ ما أظهره بعضُ المفكرين التنويريين في تاريخنا المعاصر، من بُعدٍ عن الدين، لم يكن سببَه الحقدُ على الدين، وإنما كان سببُه أنّ الدين، الذي عُرِضَ عليهم لم يكن مليح الصورة»، مؤكّداً أنّ: «المعرفة الجديدة للإنسان، والمجتمع، والطبيعة، فريضةٌ على المتكلِّمين، ورجال الدين اليوم» وعليه، لا بدّ من تجدّد الفقه مع تجدّد الفهم، وتطوّر العلوم الإنسانيّة.
يقف سروش، في أحد فصول الباب الثاني، على أهميّة الانتباه إلى أنّ العلوم البشريّة محكومة بالأحكام الإنسانيّة؛ ولأنّ المعارف الدينيّة من العلوم البشريّة، فهي محكومة بأحكام إنسانيّة.
عند هذا تظهر منعطفات القبض والبسط في مختلف العلوم الدينيّة، ففي علم التفسير، مثلاً، يسقط المعنى؛ الذي كان بديهياً عند الأقدمين، عن بداهته، ويخضع ظاهر الآيات؛ التي كانت منسجمة مع العلم القديم، ولم يشكّك فيها السابقون، للتأويل، كي تنسجم مع علم بشري آخر.
ويَخلُص سروش إلى ضرورة الإقرار بعدم انسجام الظواهر القرآنية مع العلم انسجاماً قد يكون شديداً أحياناً، وهنا تتجلّى طرق وأساليب متنوعة لدفع هذا الإشكال، والتخلّص منه، فإما أن يلجأ المفسّر إلى التأويلات البعيدة، كما هو منهج الطباطبائي؛ أو يحملها على المماشاة لما عليه لغة العرب وثقافتهم، كما هو منهج المعتزلة والطالقاني، وإمّا أن يَعُدَّ لغة الدين والعلم لغتين مُختلفتين، ويَعُدَّ لغةَ الدين لغةً تصويرية واستعارية، كما هو منهج المُتكلّمين النصارى، أو يذهب، مثلما ذهب بعض المعاصرين، إلى عدم احتمال معطيات الوحي للصدق والكذب، أو يذهب، كذلك، إلى كون المعنى من الله، واللفظ من النبي، كما هو منهج وليّ الله الدهلوي.
في الباب الثالث من كتابه؛ الذي تحدّث فيه عن موانع فهم نظريّة تكامل المعرفة الدينيّة، يسعى سروش إلى تقديم تصوّره الشخصيّ عن الحلّ؛ الذي يمكن به تجاوز هذه المآزق، وهي افتراضه الذاتيّ - أو الجوهريّ - والعرضيّ في الدين. فالثقافة العربيّة، ولغة العرب، آنَ نزول القرآن، هي المظاهر العَرَضية، أو الأشكال الظاهرة؛ التي يُؤدَّى عبْرَها المعنى الجوهري، ويتجلى ذلك، في القرآن، في استخدام مألوفات العرب وعاداتهم.
يفرّق سروش بين الذاتي والعرضي في الدين، مُفترضاً أنّ الإعدادات اللغوية، والثقافية، والحضارية، قد أسهمت، في تشكيل أعراض الدين الإسلامي، كما نفهمه اليوم، ولأنّها إعدادات مُتغيّرة من ثقافة إلى أخرى، وهي ليست من ذاتيّ الدين. يقول: «إنّ لبوس الثقافة القومية من لغة، وأذواق، وأساليب حياة، ونقاط ضعف وقوة عقلية وخيالية، وعادات، وتقاليد، ومألوفات، ومسلمات فكرية، وخزين لغوي ومفاهيمي، يضيف على جسد العقيدة والفكر، ويخلع عليه نواقصه وكمالاته، لا محالة»
ويطرح سروش، بعد ذلك، سؤالاً (ذكيّاً) يسعى إلى الإجابة عنه هو: هل تبقى عَرَضيات الإسلام هي نفسها لو نزل القرآن بلغة أخرى؟
يجيب صاحب (القبض والبسط في الشريعة): «لا جدال في أنّ الإسلام، لو نزل في اليونان، أو الهند، أو بلاد الروم، بدل الحجاز، لكانت عَرَضيات الإسلام اليوناني والهندي، المتغلغلة إلى أعماق طبقات النواة المركزية، تختلف اختلافاً كبيراً عن الإسلام العربي، ولوفَّرت الفلسفةُ اليونانيةُ المتينة - على سبيل المثال - أدواتٍ لغويةً ومناهجية، ومنظومةً مفرداتية خاصة لنبي الإسلام تغيِّر معالم خطابه، كما أنّ الإسلام: الإيراني، والهندي، والعربي، والإندونيسي، اليوم، بعد قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل أنماطاً من الإسلام يختلف بعضها عن بعض، بشهادة أدبيّاتها، ونتاجاتها (إلى جانب المشترَكات فيما بينها)، ولا تقف التباينات عند تخوم اللغة والظواهر؛ بل تمتدّ إلى أعماق الوعي والثقافة الدينية.
إنّ الجوهري في الإسلام هو المتجاوز لكلّ تلك الإعدادات المتصلة بالثقافة العربيّة زمن الوحي، وما من شكّ في أنّ تأكيد تلك الثوابت الجوهريّة فيه ضمانٌ لشمولية الرسالة ومُستقبلها، من دون أن يعني ذلك مُصادرةَ الأعراض وإلغاءها، لكنه يشترط إخضاعها لمجهر العلوم الإنسانية بغية فهمها، واكتشاف قدرتها على الخروج من دلالتها الضيقة إلى محيط عالمي، ومن ظرفها التأريخي إلى رحابة المستقبل.
إنّنا، حين نتدبّر نظريّة (القبض والبسط)، عند عبد الكريم سروش، نلفيها من النظريات المثيرة للجدل في الفكر الإسلاميّ الحديث، ويظهر ذلك في الكمّ الهائل من الردود؛ التي هطلت على هذه النظريّة، لا سيّما من المفكّرين الإيرانيين، ورجال الدين فيها، حيث يتّهمه الشيخ صادق لارجاني، صراحةً، بأنّ ما ذهب إليه من تأويلٍ هو، في غالبه، تكرار لأطروحات بعض فلاسفة الهرمينوطيقا - مثل الفيلسوف الألماني غادامير (Hans - Georg Gadamer) - الذين شدّدوا على فكرة أنّ الإنسان كائن تاريخيّ، وأنّ وعيه يتشكّل انطلاقاً من أفق تاريخيّ بشري؛ لذلك هو فهم ناقص. وهذه أفكار كان غادامير وهايدغر (Heidegger) من أبرز من روّج لها. بيد أن سروش - في نظر لاريجاني - لا يشير، أبداً، إلى الذين أخذ عنهم هذه الآراء، ويرى لاريجاني أن هذا التوجّه؛ الذي اتبعه سروش في الاستعانة بالآليات المنهجية؛ التي استقاها من الفلسفة الغربيّة، لا يمكن إسقاطها، بشكل عمودي، على فكر مُغاير، مثل الفكر الإسلامي؛ لأنّ: «تلك المفاهيم والأدوات، حين تبتسر من بيئتها، تفقد معانيها، ولن يكون من الممكن التوفيق بينها وبين التقاليد المحلية»
من جهة أخرى، بلغت إثارة الجدل، حول هذه النظريّة، حدّاً خطيراً تورده صحيفة الشرق الأوسط، في شكل خبر يُفيد تعرّضَ سروش للضرب في مدينة (قم) من قبل بعض المعارضين له، حيث دُعِي من قبل بعض زملائه لزيارة (قم)، بعد غياب دام أربعة عشر عاماً، وبعد الاجتماع؛ الذي عُقد في منزل صديقه، والذي حضره ما بين أربعين إلى خمسين شخصاً، فوجئ الحاضرون بهجوم مجموعة من الشبان عليهم، وضربهم. وهذه الحادثة تُشير إلى مدى استشعار بعض المعارضين لسروش خطورةَ ما يطرح، الأمر الذي دفع سروش إلى الخروج من إيران، والإقامة في الولايات المتحدة.
أمّا في العالم العربي، فيحقّ لنا أن نتساءل: هل من إضافة أضافها نقل كتاب سروش إلى اللغة العربيّة؟ وهل كان له من وقع في الثقافة العربيّة بصورة عامّة، وعند النخب العربيّة خاصةً؟
عن :مؤمنون بلا حدود بتصرف