بقلم محمد محجوب
قسم: الفلسفة والعلوم الإنسانية
هل يمكن أن نقصّ على الأطفال سرديات الفلسفة حول الأطفال؟ أليست هذه السّرديات قصصا يبنيها الكهول والأكبر سنا حول الأطفال، يُشهدونهم فيها على ما ليس من شأن الطفل؟ أليست الطفولة في سرديات الفلسفة مجرد شاهد صامت، لو سألناه عمّا تُشهده عليه الفلسفة، لأجاب بكل الأجوبة الممكنة إلا بالجواب الذي تستشهده عليه؟ ماذا عن صمت الطفولة في "قصص" الفلسفة؟ ماذا عن تلعثمها الذي أعطى بعض أسماء الطفولة؟ فعبارة Infans في اللاتينية تشير خاصة إلى غياب العبارة والكلام: لكأن الطفل يُعرَّف بعدم الكلام، وربما بالصمت، بالصمت عما يُفعل به، من التربية والدفع إلى الإنسانية عبر الكلام. ولكن الطفل هو أولا صامت، وهو يتلقّى. فلا يتكلم، أعني لا يعبّر عبارة ذاتية غير مردِّدة، إلا بعد أن يتلقّى. كأنما الكلامُ في النهاية هو التعبير، ولكن بعد إحكام الترديد. وفي العربية، رغم البعد، التقاء مع هذا المعنى ولكن بصفة سلبية. ففي المعجم: أطفلَ الكلامَ أي عُني به وأتقنه؛ فكأنما أَثبت وزنُ المزيد [أفعل = أطفل] وهو وزنٌ سالب كما في كثير من الأفعال العربية، ما أضمره المجرد البسيط [فعل=طفَل/]: أنّ فعل الطَّفْل والطّفول هو قبل كل شيء اللاكلام.
ماذا إذن عن مطواعية الطفولة التي تحملها على أن يَفعل بها الكبار ما يريدون؟ وأن يكون الطفل [بايس باليونانية =paiv~] بيد الـ [paidagwgov~ pédagogue] الذي يسوقه أو يقوده إلى المدرسة ليتعلم أن يردد أولا ثم يتكلم؟
سأعمد خلال هذه الورقة، إلى مساءلة الفلسفة عن الوضع الذي تعينه للطفولة من خلال نصوص سردية فلسفية ثلاثة تتفاوت معرفتها عند الناس. وسأوزع تفكري على ثلاث لحظات:
- لحظة أولى أفحص فيها عن الطّفولة بوصفها تأسيسا تبريريا لمفاهيم فلسفية مركزية هي على التوالي مفاهيم الطبيعة الإنسانية، والمعرفة والتاريخ.
- لحظة ثانية أتساءل فيها عن مدى ما يمكن أن تُدرَك الطفولة في حدّ ذاتها من خلال خطابي البيداغوجيا والتربية الخلقية: هل البيداغوجيا خطابٌ يحترم الطفولة ويفسح لها في حد ذاتها، أم يتحرى أوفق السبل لاستقامتها وفق "معايير الإنسانية"؟
- لحظة ثالثة أستكشف فيها ما يمكن أن أسميه "ثأر" الطفولة لنفسها من خلال إعادة قراءة لبياضات القول الفلسفي، وزلاته القلمية، التي تنطق فيها الطفولة عن نفسها ضدّ الفلسفة التأسيسية، وأسمي هذه المقاربة مقاربة تأويلية في معنى واسع من التأويل.
في بداية الكتاب السابع من الجمهورية سردية من أقدم سرديات الفلسفة، ولكنها تتميز من جهة ثانية بكونها سردية رمزية. الشّأن في السّردية الرمزية أنها تشير إلى معنى غير حرفي، استعاري من بعض الوجوه. ولكنّ هذه الاستعارة هي كما أوحى بذلك بول ريكور منذ الاستعارة الحية مطلب بتزييد التفكير [un penser plus] أي برفعه إلى المفهوم: من الرمز إلى المفهوم، تلك هي المسافة التي تدعونا إلى التسيُّر عليها هذه الاستعارةُ الكبرى التي اصطلح تاريخ الفلسفة على تسميتها بأمثولة الكهف. و"الأمثولة" ترجمة نقترحها لإعطاء عبارة "allégorie". وربما أمكننا أن نجد في العربية مقابلا آخر هو "المثل"، كما في كليلة ودمنة، حيث نتحدث في نفس المعنى تقريبا، عن مثل الرجلين المتحابين يقطع بينهما الكذوب الخؤون، ويحملهما على العداوة والشّنآن، أو عن مثل المغترّ بالعدوّ المبدي التضرّع ...، وحيث ينتهي الفيلسوف عقب "عرض المثل" فيدعو أهل "التفكر في الأمور" إلى "النظر"، جامعا بذلك بين المثل والتفكّر، جمعا هو تحديدا ما عنيناه في إثر ريكور من "تزييد التفكر" حتى المفهوم، أو "النظر"، في عبارة ابن المقفّع الشهيرة.
عبارة Infans في اللاتينية تشير خاصة إلى غياب العبارة والكلام: لكأن الطفل يُعرَّف بعدم الكلام، وربما بالصمت
إنّ بنية "مثل الكهف" شبيهةٌ ببنية أمثال ابن المقفع من هذه الجهة، وهي متبوعة بتأويل نظري، ولكنّها مسبوقة به أيضا، فهي استجابة تقوم مقام التمثيل على مطلب محدد يصوغه الملِك صياغة عامّةً غير مشروطة بزمان أو مكان؛ أي إنها تنتقل بين وضع العنوان النظري العام الذي يبحث عن "تشخيص"، ووضع التّشخيص المتحيّث الذي يستدعي استقرائيا صيغة القاعدة العامّة. إن أمثال ابن المقفع في كليلة ودمنة أمثال محكومة ببنية تأويلية دائرية مغلقة عبارتها: المعنى مطلوبا، فالتمثيل للمعنى تحققا وحكاية، فالعودة إلى المعنى استقراء وتعميما.
وعلى نفس هذه الوتيرة الصّورية، تسير أمثولة الكهف الأفلاطونية، ولكن دونما تحديد مسبق للمعنى المطلوب، بل تكتفي الأمثولة بذكر الغرض [thème]، وإطلاق التأويل عقب سرد الحكاية على أساس المماثلة عنصرا بعنصر. لذلك، ثمة أسئلة عديدة لا بد من طرحها: من يؤوّل أمثولة الكهف؟ ومن يخاطِب؟ وما الذي تمثله الطفولة في هذا السياق.
وتظهر الطفولة في أمثولة الكهف في مناسبتين بدئيتين: 1. لدى ما يتحدد الغرض من الحكاية، حيث ترد عبارتا: بايديا [paideiva= التربية والتنوير بالتربية] وأبايدوسيا [غياب التربية وغياب المعرفة=apaideusiva] مع ما يتصل بهما من الجذر الطفولي، مما يُحمل على أن الطفولة ترتيب للإنسان بحسب معرفته وتَربّيه على المعرفة. و2. لدى ما يتمّ التذكير بأنّ سجناء الكهف هم هناك منذ أن كانوا أطفالا، منذ طفولتهم.
فترتبط الطفولة في كلتا الحالين بضرب من الوضع البدئي: كأنما هي مرجع الإجابة عن كل سؤال يتعلق بمعرفتنا أو بتربيتنا أو بحريتنا. الطفولة إحداثية نقيس، بالنظر إليها، على جهة التّقدير والتّخمين [ajpeikavzw] وضعنا، وضعنا الذي يعطى لدى هذه البداية على أنّه وضع مشترك: ولكنه لا يمكننا أن نتحدّث عن معرفتنا ولا عن ترقّينا في تلك المعرفة بدرجاتها المتراتبة، وبما يقابل كلّ درجة منها من الكثافة الوجودية المخصوصة بها، إلا بالإحالة على تلك المرجعية الطفولية. في أية صورة تُرسم هذه الطفولة؟ إنها حال يرتبط بما "تحت الأرض"، على صورة "كهف"، كما يرتبط بالقيود والأغلال وبتسمّر السجناء على نحو ليس فيه حركةٌ ولا تغيير مشهد، ولا يتوفّر فيه من المعرفة إلا ما كان منقولا عن مصدر ليس هو الأصل. الطفولة حال من السّجن، ولكنه حال يشبهنا: "oJmoiou~ hJmi`n"]. الطفولة إحداثية شبهٍ تُعطي بعض الذي نحن إياه، من جهة المصدر. ولذلك هي دائما حكاية نقصُّها عندما نريد العودة إلى البداية.
ولكنّ هذه الطفولة السجينة المظلمة هي أيضا من وجهة نظر الفلسفة عالم اللاّحقيقة. ولكن في معنى من اللاّحقيقة ينبغي أن نتعلّم قراءته على نحو غير سلبي: فاللاّحقيقة هي أيضا تاريخ الحقيقة، وإنما تُبنى أمثولة الكهف على نحو يتمثل المرور من اللاحقيقة إلى الحقيقة زمانيا؛ أي في تدرُّج يتعاقب فيه اللاحق مع السابق. ثمة في تاريخ الحقيقة قبلٌ وبعدٌ وما بينهما. وتندرج الطفولة ضمن هذا التلاحق على أنها لا فقط قطعةٌ من الماضي، ولكن كذلك ذكرى منه لا تنفك تلاحقنا. هي تلازمنا لأننا نضطر في كل مرة إلى القيس والمقارنة. ولكن كل المشكل كامن هاهنا. فحضور الطفولة [بتسمياتها المختلفة، بما في ذلك أنها حال اللاحقيقة، وحال الظلمة، والقصور، والارتهان، إلخ.] هو دائما حضور مستحضرٌ [une présence re-présentée]، أعني أنه مرتّب على جهة نظر لا تراه هو، ولا ترى الطفولة في حد ذاتها، وإنما تراهما في ضوء الحاضر. الطفولة ماضي الحاضر، وبداية المكتمل، وعجز المستبد، الطفولة مكمّل، وليست شيئا في ذاته. وهَب أنّ الطفولة هي اللاحقيقة: هل تجشّمنا يوما أن ندركها في ذاتها بما هي "لاحقيقة"، لا بما هي نفي حقيقة، أعني بما هي طفولة، لا بما هي ماضي كهولة ما؟
ما الذي يفعله أفلاطون بطفولة السجين غير ما تفتحُه الفلسفة لتغلقَه بعد حين غلقا نهائيا بإرباك طفولتنا إذ تفتح عينيها على عتمة تكاد لا تتبين فيها شيئا، لأنها غادرت عادتها ومألوفَها، وإذ تستدرجها إلى خارج كهف الأحلام والرؤى فتُعميها أوّلا عن النظر إلى الأشياء وقد ألِفت ظِلالها الساكنة الرتيبة، ثم تزيد فترفع عينيها جرأةً على القمر والشمس، حتى تحدقا فيهما وتدركا أن العودة إلى الطفولة محضُ ظَلال؟ ما الذي يفعله أفلاطون بطفولتنا إذ "يصدِمها" بمعاودة الدخول إليها من بعد أوانها، من موقع نضجٍ صار العقلُ هو مدبّرَه وحاكمه، فيجازف بأن يُدخل على تلك الطفولة الصامتة ضربا من "الانحراف" المدهش؟ قال: "فإن هو من بعد كل ذلك [ou ] ذكر منزلَه الأول وذكر ما كان يجري فيه ممّا يعُدّونه حكمةً ومعرفة، وذكر أصحاب السجن الذي كان سجنَه، ألا ترى أنه سيسعد بما حدث له هو من التحول [eujdaimonizein th͂~ metabolh͂] ويرثي لحال هؤلاء؟ ... ألن يفضّل ألف مرة أن يكون حتى مجرد خادِم على محراث مزارع فقير، وأن يتحمّل كلّ الشّرور الممكنة، على أن يعود سيرتَه الأولى إلى أوهامه القديمة، وأن يعيش مرة أخرى كما كان يعيش؟"
مهمّة الفلسفة إنطاق الطفولة، وإنطاق الطفولة هو استدراجها إلى الإنسانية
إن سجناء الكهف، الذين يظلون "أطفالا" منذ كانوا أطفالا [ejk paivdwn ojjjjjjvnta][7] لا يغيرهم الزمن ولا يفعل فعله فيهم، فهم هناك منذ نعومة أظفارهم، يظلّون صامتين لا يتبادلون الكلام في ما بينهم، وتلك طفولتهم الأصلية، قبل أن تُفسدها عودة المحرَّر إليهم: فهم لا ينطقون، أو لا يُنطقهم أفلاطون، إلا بعد أن يضحكوا منه وقد أعوزه استرجاع الطفولة، وارتبكت عيناه من ظلمةٍ كان تعوّدها هوَ ونسيَها هو. وساعتها فقط يَنطق أطفال الكهف [levgoito] ليقولوا [له؟ أو في ما بينهم؟ أفلاطون لا يوضح، ويكتفي بحرف "عنه"] [periv aujtou͂] عنه إنه ما صعد إلى فوق إلا ليَرجع معطوب العينين، وأنّ الصعود لا يستحق منّا عناء المحاولة أصلا...".
كلام الطفولة إذن، ليس كلامهم التّلقائي، وإنما هو كلام تقتلعه منهم موجدتهم على هذا الدّخيل الذي لم يكفه أن غادر، بل عاد مجددا ليقلق طمأنينتهم ثانيا، لذلك فهو كلام يصوغ في العبارة ما كان يشير إليه ضحكهم منه. ليس الكلام أصلا في الإنسانية. وإنما الأصل هو الصرخة غير المتمفصلة. هكذا ذكّر روسّو، عندما وصف تكوّن لغات جنوب الأرض، بأن الحبّ، وهذا وجدان آخر كوجدان الضحك من هذا الغريب العائد، هو الذي دفع إلى مفصلة الصرخات الأولى حتى تجاوزت الإشارة إلى الكلمة.
تتكلم الطفولة إذن، هزؤا وسخرية مما لا تقبل. ولولا تلك السخرية لظلّت الطفولة صامتة. مهمّة الفلسفة إذن إنطاق الطفولة، وإنطاق الطفولة هو استدراجها إلى الإنسانية.
ماذا تعني الإنسانية التي نستدرج إليها طفولتنا؟
إنها الإنسانية التي تتحوّل من تجاور الحقيقة واللاحقيقة [ضمن المفهوم الأصلي للأليثيا = ajlhvqeia]، من تساكن الحلم والواقع، من تناوب اللّيل والنّهار، إلى انتصاب الشّمس التي تقصي نهائيا كلّ ذاكرة للظل. في الإمكان فعلا أن نستغل كل تفكير هيدغر وتأويلاته الفينومينولوجية في اتّجاه تكريس علاقة الميتافيزيقا بفجر الفكر الغربي لدى اليونان، على أنها علاقة للفكر بطفولة الإنسان. ثمة عمل تسريحي ضروري لإجلاء معنى الطفولة التي تغادرها الفلسفة، ومعناها الذي تؤسِّس. فهذه الطفولة هي ما تجدّ الفلسفة في تجاوزه، إنطاقا له؛ أي استيعابا داخل مقولات المنطق، وتخلّيا عن مفهوم الحقيقة التي يقيم ضمنها الإنسان، بما هي انكشافٌ؛ أي بما هي لقاءٌ لَعبيٌّ "بين الحقيقة واللاّحقيقة، وانكشاف لا يُكتسب الا في الـ "اكْرينَيْن لُوغو= krivnein lovgw"؛ أي في الفرز المدرك للسبيلين، واختيار السبيل الأولى". إنّ تحليل مختلف مراحل أمثولة الكهف، وتتبع المسار التأويلي الأفلاطوني الذي يرافقه، يؤدي إلى نتيجتين متلازمتين:
1- تحول تدريجي يطرأ على تحديد جوهر الحقيقة تنتقل به هذه الأخيرة من الانكشاف إلى الاستقامة التي تجعل صدق المقال وصدق المعرفة تطابقا مع المثال. ويؤدي هذا التحوُّل إلى استباق أولٍ لمفهوم الحقيقة كتطابق، فالمثال الذي يضيئ الأشياء هو الذي يمكِّننا من أن نراها. وضمن ثالوث المعرفة يلعب المثال دور المبدإ الذي يحمل الأشياء إلى العين ويحمل العين إلى الأشياء.
2- تحوّل تدريجي يتحقّق بموجه التحرّر [فلا ننسى أنّ الأمر يتعلّق في النهاية بضرب من التخلص من قيود السجن]. هل يمكن فهم هذا التحرر إلا كمغادرة للطفولة وكاستقرار على موقف عارف، متحكِّم في الموجود بواسطة المعرفة. لذلك تنتهي قراءةُ هيدغر لأمثولة الكهف إلى ربط تاريخاني بين بداية الفلسفة كمغادرة للطفولة ومنتهاها كتأسيس لسيادة الإنسان ضمن ما يمكن تسميته الإنسية، أو النزعة الإنسانية، أو الإنسانوية [Humanisme]. إن مغادرة الطفولة لا تعني فقط مرور الأعوام على الإنسان، حيث يكتسب من نموه مظهرا آخر، وإنما هي تعني إعادة ترتيب لعالم يقف في مركزه الإنسانُ.
ما الذي يحدث ضمن أسطورة الكهف؟ ثلاث حركات متزامنة، الأخيرة منها هي التي تهم وضع الطفولة كمدخل إلى الإنسانية:
- تحول الحقيقة إلى مطابقة، ومغادرتُها كلقاء بين النور والظلمة
- قيام المثال مرجعا لهذه المطابقة
- وأخيرا توجه الإنسان، ومغادرة طفولته، نحو موقع مركزي جديد يصبح فيه الحاكم على الموجود:
"إن ابتداء الميتافيزيقا الذي نجده في فكر أفلاطون، هو في الآن نفسه بداية "الإنسية" [‘Humanisme’]. علينا هنا أن نأخذ هذه الكلمة على جهة ماهيتها، وإذن، أن نأخذها في أوسع ما تُحمل عليه. وتعني "الإنسية" [الإنسانوية] إذن، السيرورةَ - المرتبطةَ في البدء بتطور الميتافيزيقا واكتمالها - والتي يتنزل بها الإنسان عن قصد، وفي منظورات لا تنفك تختلف، في مركز الموجود، من دون أن يكون هو نفسُه بعد، مع ذلك، الموجودَ الأسمى. ويعني "الإنسان" هنا، إمّا الإنسانيةَ أو إحدى ثقافاتها، إمّا الشعبَ أو مجموعةً من الشعوب. فيتعلق الأمر دائما، انطلاقا من هيئة ميتافيزيقية للموجود مُحكَمةِ التحديد، بتمكين "الإنسان"، الذي يترتب عن هذه الهيئة، [أعني] الحيوان الناطق [animal rationale]، من تحرير ممكناته، ومن بلوغ اليقين من قدَره ومن تأمين "حياته". وهو ما يحدث في تعريف سلوك "أخلاقي"، أو في تحرير النفس الخالدة، ونشر القوى الخلاقة، وازدهار العقل، وثقافة الشخصية، وتيقظ حسّ الجماعة، أو في الانضباط التزهدي، أو أخيرا في اجتماع مؤات لبعض هذه الإنسيات، أو لها جميعا. إننا ندور في كل مرة في فلك الإنسان، على نحو محدّد ميتافيزيقيا، وفي مدارات متفاوتة الاتساع. فمتى حصل للميتافيزيقا اكتمالُها، هجمت الإنسية (أو، بلسان يفيض بالإغريقية، الأنثروبولوجيا) على "المواقع" القصوى؛ أي على المواقع التي لا ترتهن بشيء".
ما هي الإنسانية التي نغادر من أجلها الطّفولة إذن؟ إنها في كلمة، إنسانية التّحكم، والسيادة على العالم حدّ تهديد المعمورة، إنسانية المخاطرة البيئية التي تنجم عن الاشتغال اللامشروط، واللامرهون، للعقل. ماذا يحدث لسجين الكهف الذي يغادر إلف الطفولة؟ إنه يدخل في الإنسانوية التي هي ضياع الإنسان.
ما الذي يحدث على الضّفة الثانية من التاريخ، عندما تَستأنف الفلسفةُ سرديتها من طفولتها؟ نتحدث هنا عن سردية حي بن يقظان لابن طفيل. ولكنّه يمكننا أن نوسّع نفس الملاحظات إلى ما سبق من قصّة حي في رواية ابن سينا على الأقلّ.
سنكتفي بإبداء الملاحظات الفارقية التّالية:
الملاحظة الأولى:
سردية حيّ سردية فلسفية كلاسيكية، وهي مسبوقة بإطار تأويلي يحدد غرضها وما تريد الشهادة له. مفتاح الرواية سابق على الرواية، وهو العبْرة. ولكن العبرة محدَّدة المضمون: إنه السؤال عن "أسرار الحكمة المشرقية"[13] على أحد وجهين:
- إما عرض "ما يراه أصحاب المشاهدة والأذواق والحضور في طور الوَلاية"، وهذا أمر مخصوص بالتّجربة دون التبليغ بالعبارة
- وإما التّعبير "على طريقة أهل النّظر". ولكنّ ندرة العبارة النّظرية عن أحوال المشاهدة والأذواق والحضور، تجعل الكلام عنه لا يمكنه أن يكون إلا رمزا.
الطفولة ضد الفيلسوف، هي لا تريد أن يمنعها الفيلسوف من حقها في الظَّلال، من حقها في أن لا تغادره على نسق المفهوم... وهي لأجل ذلك تحاكمه ولو كان ذلك بمرارة
الملاحظة الثانية:
إن رمزية الحديث عن مطلوب النص الفلسفي تجعل العبارة النظرية صامتة، ولا تفسح لغير الصيغة الاستعارية التي تقدم العبرة كأقصى المفهوم. وضمن هذا الصمت يندرج الحديث عن طفولة حي بن يقظان، وهي طفولة غامضة، لعل كثرة الروايات فيها من جوهر الطفولة: الطفولة غموض، ولذلك لا يمكن الجزم بمنشئها، هي ليست موضوع معرفة وإنما موضوع تخمين.
الملاحظة الثالثة:
الطفولة صامتة، بل من المحير أن أعقد المفاهيم الفلسفية التي يستعرضها حي، في سياق نظرية العالم الأرسطية، تصاغ دونما إشارة إلى الكلام، ولا إلى الترجمة التي استوجبت نقل النظر الأرسطي إلى العبارة العربية، غير أنّ رأس الأمر هنا. ذلك أن هذه الطفولة التي يستوي منشؤها، من طين كانت أم من رحم إنساني، سرعان ما تختصر حتى تفضي إلى الاعتبارات الفلسفية التي تعطي، أرسطيا، صورة الإنسان، وقواه، البدنية والنفسية. لا تعاش الطفولة كتجربة، في حد ذاتها، بقدر ما تُستـــنْمى لتدخُل عالم التأمّل والملاحظة والمقارنة، وتطرح أسئلة السبب والغاية، وتنتهي إلى أعتى الأسئلة الميتافيزيقية، بل إن المرء ليهُمّ أن يسأل عن حي هل كانت له طفولة؟ يبدو أن الطفولة ممرٌّ لا بد منه، ولكنه محكوم بضرورة الإفضاء إلى معرفة أرقى، وإلى خُلُقية أرقى، فكأنما عين الفيلسوف تستعجل الطفل على نفسه، وتستحثه أن يخرج من الحيوانية الدنيا التي قُذف به فيها، ليتجاوزها ضمن جدّية تقطع نهائيا مع لامبالاة الصّبية. هو مهموم بالموت وهو في السابعة، وبعلم البدن وهو مراهق، ـ ثم هو يطرح سؤال الصّانع، وسؤال الغاية ويرتقي من بعد ذلك إلى أسئلة تقطع نهائيا مع الطفولة، بل تنساها إلى عير رجعة. فلعل ولادة حي لم تكن، على ما اقترح جان جوليفي [Jean Jolivet]، إلا الصيغة الرمزية لولادة الفيلسوف في الثقافة العربية. لذلك، كان عليها "حرق" المراحل، حرقا لم يكن يسمح بتجربة الطفولة في حد ذاتها، وفي كامل امتدادها. لا يولد الفيلسوف من أجل أن يعيش طفولته، وحتى إذا ما عاشها، فهي طفولة موجَّهة، لا تتحكم بزمانيتها، وإنما هي محكومة بالمفهوم الذي يتوجب عليها أن تفضي إليه.
يبدو إذن أن وضع الطفولة في سرديات الفلسفة الرمزية هو دائما وضع مستحَث على المغادرة. وحتى عندما يعمد ديكارت إلى سرد قصة الكوجيتو، فإنّه يبدأ بإقرار الطّفولة ضمن سلبية قصوى: "ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة، وأن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزعزعة والاضطراب لا يمكن أن يكون إلا شيئا مشكوكا فيه جدا ولا يقين له أبدا". الطفولة إذن هي طفولة التلقي السلبي، والمنفعل، وغير النقدي. هي ليست طفولةَ الدهشة والمطاولةِ المتعجّبة للأشياء.
ومع ذلك، فإن الطفولة المنفعلة، السلبيةَ، تثأر لنفسها ضمن القول الفلسفي فتطفو، على نحو ما يطفو العرض في التحليل النفسي، زلة لسان، أو زلة قلم، أو زلة استعارة، في قلب القول الفلسفي: ذلك ما نودّ الإشارة إلى إمكانه لدى نهاية هذه الورقة، استنقاذا لطفولة لم تكن في الخطاب الفلسفي إلا من أجل غيرها. وسنتخذ على ذلك مثالين من خطابين أشهدناهما للتو على هذا "الاستحواذ الكهولي" على الطفولة.
ففي التأمّل الثّاني يستخلص ديكارت نفسه شيئا مفكرا، ويعرف هذا الشيء المفكر فيقول:
"أنا شيء يفكر، أي شيءٌ يشك، ويثبت، وينفي، ويعرف القليل من الأشياء ويجهل الكثير منها، ويحب ويبغض، ويريد ولا يريد، ويتخيل ويحس أيضا". أليست فعاليات الشيء المفكر، ولا سيما فعاليات المحبة والبغض، والإرادة واللاإرادة، والتخيل والحس، وبخاصة فعاليتا التخيل والإحساس، هي من الفعاليات التي لا تختص بها الكهولة؟ أليس ذلك بشكل ما طُفوّاً غير منتظر للطفولة وإفساحا لها، في قلب الكوجيتو؟ لكأنما رشاد الكوجيتو يستأنس بطفولة الحدث ديكارت، بل الحدث الإنساني. ربما لم تكن الطفولة مجرد مدخل للإنسانية فينا. ربما اتخذت لنفسها فينا كذلك مستقرا.
وأمّا المثال الثّاني الذي سنضربه على هذه المعاودة للمكبوت، فهو مثال أكثر تحدّيا وأكثر صراحة من هذا المثال الأول. ولعلّ أهمّ خصيصة في هذا المثال الثاني أنّه بمثابة اللازمة الأسلوبية في الخطاب الأفلاطوني.
ففي محاورة غورجياس تثأر الطفولة من سقراط أيما ثأر، وتستخف بشيخوخته أيما استخفاف عندما يُنطقها سقراط نفسه، هذا "الجرو المجنون"، كما في عبارة كاليكلاس فيصوغ اتهامها له: "سأكون عاجزا أمام محكمة ما عن أقول أي شيء .. ذلك أني سأقاضَى كما يُقاضى طبيبٌ يمثل أمام محكمة أحداث، بشكاية يرفعها ضده صانعُ حلويات. انظر اذن ماذا سيقول الطبيب إذا ما مَكَّنوا منه الأطفال، وصاح به الشاكي: "أيها الأطفال، هذا هو الرجل المسؤول عن الشرور التي حلَّت بكم. إنه يشوه حتى أصغركم، بما يجريه عليكم من الجراحة والكي، فيجعلكم عاجزين، مساكين، ويخنقكم، ويُشربكم أمرّ المستحلبات، ويجبركم على الجوع، والعطش. هو ليس مثلي، ليؤْثِركم بكثير من الأشياء الشهية والجيدة"... أترى الطبيب قادرا حتى ولو كانت تلك هي الحقيقة، على أن يقول إنه إنما يفعل كل ذلك من أجل صحتهم؟ ستقوم في وجهه ضجة وأيّة ضجّة من قضاته العتاة... كذلك شأني أنا لو عُرضت على محكمة. لن استطيع أن أقول لقضاتي... إذا ما اتهمني أحدهم بأني أشوِّه الشباب والصبية، بأن ما أفعله هو الصواب والعدل، وبأني إنما أعمل في مصلحتهم".
هكذا الطفولة إذن: ضد الفيلسوف، هي لا تريد أن يمنعها الفيلسوف من حقها في الظَّلال، من حقها في أن لا تغادره على نسق المفهوم ... وهي لأجل ذلك تحاكمه ولو كان ذلك بمرارة ... بل إن الفيلسوف ليوشك حتى أن يضربه الصبيةُ: فمن المعقول أن يتعاطوا هم التّفلسف لعبة، بل لعبة "التفلسيف" إن صحت هذه العبارة المستدرجة من العامية التونسية. أما أن يتعاطى الفلسفةَ رجل وقور، قد اشتعل الرأسُ منه شيبا، فذلك الرجل، على ما يقول كاليكلاس، "لا يستحق إلا أن يُضرب" لأنه لم يستطع أن يكون إلا أقل من إنسان"، يتهرب دوما من مركز المدينة، ولا يحب إلا الزوايا المظلمة، حيث يتكلم همسا ووشوشة مع ثلاثة أو أربعة من الصبية.