يضعنا الكاتب عبد السلام بنعبد العالي في مأزق فكري ووجودي عندما يؤكد على أن الرغبة في العيش وفق مفهوم الفلسفة – الحكمة القديم أمر مستبعد وغير قابل للتطبيق(1)، بل من الصعوبة أن يجد مكانا مناسبا في حياتنا المعاصرة أو أن يوظف في سياق الحداثة الفلسفية. يوجه بنعبد العالي نقده لأولئك الذين يعرضون لمفهوم السعادة لكن سرعان ما يختزلونه، ليخوضوا في الحديث عن مفاهيم تقرب منه من غير أن تشمله كاللذة وما شابه، فيرون على سبيل المثال أن السعادة هي لذة نأمل دوامها، ومن هنا حاجتهم إلى“فن العيش” لتدبير اللذة اقترابا من السعادة(2). أعتقد أن هذا الإستيعاد والاستبعاد لموضوعة فن العيش، هو فرصة لخلق حوار مع تصورات فكرية وفلسفية تجعل من فن العيش “ترويضا للذات” و“نحتا لها”، ومع فلاسفة وباحثين حاولوا أن يعيدوا إلى الجسد مكانته في تحديد السعادة وتحقيقيها(3).
حول إمكانية العودة للرهان القديم
قد يكون هذا النفور الذي نلاحظه في عالم اليوم من كل ما هو نظري وما هو قديم، علامة على ضعف في إقامة علاقة قوية مع الفكر ومع الفلسفة وروادها، ودليل عل غياب الحس التاريخي. لكن سنؤكد أولا مع الأستاذ عادل حدجامي، على أن رهان عالمنا العملي “الجديد” مبني في العمق على أساس نظري قديم(4)، إذ أن الحواراللانهائي مع تاريخ الفلسفة أفضى إلى إبداع أسئلة وأفكار ومفاهيم وتصورات ومفاتيح جديدة تستجيب لما يحدث.
خلافا لهذا التصور، ونحن بصدد “فن العيش”، يرى بنعبد العالي أن الفلسفة تطورت كثيرا وانفصلت عن التمارين الروحية وممارسات الحياة وفنون العيش، وغدت نظريات ومؤلفات متخصصة تجد تعبيرها في لغة تقنية…. ذلك أن ما يطبع هذه الحياة هو أنها لا تدع لك المجال لأن توليها ظهرك وتنسحب في “زاويتك” وتعطل مداركك وتغلق نوافذك، وهي ربما تتنافى مع قيم العفة والطمأنينة والسكينة واللامبالاة، تتنافى مع الأوتارسيا والأتراكسيا والأباتيا…. إنها “تعتني” بك و“تصنعك” وتدبر جسدك وأهواءك وقناعاتك، وهي تسهر، من خلال إعلاناتها، على ذوقك ووقتك وراحتك؟(5). يختلف هذا الموقف كثيرا عن توجهات فكرية وفلسفية وفنية صار لها موقع خاص في ثنايا المجتمع المعاصر، ذلك أن مفهوم فن العيش أصبح يكتسح كل نشاطات الحياة اليومية وغدا نمط وجود، خاصة مع التحول الذي أصاب التفكير الحالي في الفن الذي صار يكرس قسما من مجهوداته لحل التوترالحاصل بين “المنطق الثقافي” و“المنطق الجمالي(6)، رغبة في بناء مجتمع يضمن شروط عيش جيدة تسمح بتحقيق الذات دون المرور من تجربة الإحتقار والإقصاء على حد تعبير أكسيل هونيت.
نعم لفن العيش- معا
رغم موقف بنعبد العالي الرافض لرغبة العيش وفق مفهوم الفلسفة -الحكمة القديم، فهو يحثنا على البحث عما قد يكون للحكمة القديمة من امتدادات عند بعض الفلاسفة المحدثين، وكذا استعادة الأسلوب الذي كان الحكيم الشرقي أو اليوناني يحيا به الفلسفة، من حيث هي”إبداع للذات“. هذه الذات التي تظل تعمل ضمن أطر إخضاع وقهر، ولكنها تتحقق أيضا من خلال ممارسات تحررية. من هنا تصبح الفلسفة – يقول بنعبد العالي – مثلما كانت عند الإغريق، نوعا من العلاج لأمراض العصر، ومقاومة لأشكال الزيف التي تطبع الحياة المعاصرة ، وتأخذ عنده صيغة ”فن عيش-معا“، هدفه تدبير المجتمع، أي ربط فن العيش ببعده السياسي وإقحامه داخل المدينة، وربطه أيضا بفلسفة مغايرة عن الفعالية البشرية(7). انسجاما مع التحول الذي أصاب الفلسفة والذات في حياتنا المعاصرة، صار ترويض الذات تدبيرا للمجتمع، وما كان يسند إلى الفلسفة قد أصبح من اختصاص العلوم الإجتماعية(8). يبدو هذا الموقف من الفلسفة-الحكمة مثيرا للإهتمام، ولا أقول للنقاش او الحوار، حتى نبتعد عن الجدل الحزين .
من أجل فلسفة للمستقبل: الرهان على الجسد
في مقالته ”الفلسفة أسلوبا للعيش“، يدعونا الباحث حسن أوزال إلى ضرورة اختبار الحياة لا كفكرة بل كواقعة، واقعة تجبر على الفعل أكثر من التنظير. وتدفع إلى البناء بدلا من الإكتفاء بالتأمل. من تم الحاجة إلى الإيتيقا لا الأخلاق. الأولى تفضي بنا إلى النظر إلى الحياة كظاهرة جمالية، بيد أن الثانية تكرهنا على الأخذ بالقبليات وافتراض المسلمات(9). على هذا الأساس، يصير التفلسف إحدى الطرق التي نسعى من خلالها إلى التخفيف من إكراهات المعيش، نشدانا للخير الأعظم من حيث هو السعادة والفرح، المتعة والأتراكسيا والتواجد أكثر على نحو أفضل. إن هذا الإنتصار الواضح للإيطيقا، يجعل من الفكر مرحا، ومن الفلسفة فنا. فلسفة تمنح الأولوية إلى فن العيش بدل السير وراء معرفة مجردة(10). لذلك ينصح الباحث ب”عيش الفيلسوف عند قراءته“(11)، واعتبار الفلسفة كنمط وجود قبل أن تكون إبداعا للمفاهيم، وأسلوب حياة قبل أن تكون رزمانة أفكار(12)، تماشيا مع فن عيش مبني على تحرير الجسد(13). انسجاما مع هذا التصور، سيصيرالجسد مع الباحث عبد الصمد الكباص، سؤال الحداثة نفسها، منه تبدأ وفيه تنمو وعلى أرضه تختبر، لأنه يتعلق بتأويل الإنسان من جديد: وجوده وقيمته(14)، وأن الحق في الجسد هو االنواة الضمنية للحداثة، وأن يصبح للإنسان حق في جسده معناه أن الحاضر غدا أخيرا متاحا أمامه –كفرد- لبناء ذاته حيث لن يكون هذا البناء سوى التحرر الدائم(15). هكذا غدت الفلسفة التي نحتاجها اليوم لتحررنا من الإستسلام للمذهبية العقدية (…) فلسفة للعيش(16).
المنعرج الإيتيقي وضرورة إبداع حياة حرة
إن اختلاف التصورات حول موضوعة فن العيش، يعكس خصوبة فكر قلق ومنقسم حول إمكانية العودة والتكرار. فقبل فوكو مثلا، كان نيتشه مجبرا على العودة إلى المدارس الفلسفية القديمة بروادها ونصوصها بهدف موضعة السؤال حول شكل وطريقة الحياة . واستنتج من دراسته، أن هدف التفكير الفلسفي ليس هو وضع قوانين الموضوعية، بل اكتشاف أشكال جديدة للحياة تسمح بوجود أفضل. إذ على الإنسان قبل كل شئ أن يتعلم أن يعيش، ويفهم ويدرك التصرف في الحياة، محافظا على ذلك التوافق الضروري بين شكل منفتح للذات وتاريخ منفتح لا يقبل مسبقا القوانين التابثة (17).
في حالتنا نحن، هل يسمح وسطنا الإجتماعي ببروز تفكير فلسفي يقطع مع الموانع الأخلاقية والسياسية والتاريخية ومع إغراءات التعالي؟ و ماهي إرادتنا في إبداع فن عيش يتعارض مع كل أشكال التسلط والإخضاع والإكراه؟
إن تزايد الحديث في السنوات الأخيرة حول الإستبداد وغياب الحريات، يجعل من مهام الفلسفة، التفكير بقوة في تحليل آليات عمل السلطة ومفعولاتها وتاريخ تشكل عقلية الطغيان. ذلك أن أي تفكير في فن العيش، هو تفكير بالضرورة في السلطة ووضعيات الهيمنة وتاريخ تشكلهما. تبدو هذه الفكرة غائبة عن التصورات السائدة حول موضوعة فن العيش. يعزى لتحاليل مشيل فوكو لتجارب تاريخية حول الأشكال ”المرضية“ للسلطة(18)، تسجيل غاية يقظة لفن العيش، تفهم كالتالي: نستطيع فعلا التأكد من أن كل فاشية تتميز بإنكار وبمحو الفرد، وهي تتحدد بالضبط بغياب أي فن عيش؛ ليس للأفراد حق الإنشغال بانفسهم. فإذا كان فن العيش يرتكز على تأسيس علاقة متينة مع النفس والوصول إلى أخذ قرارات شخصية، فبالنسبة للفاشية، يعني التخلي عن كل اختيار شخصي، فهي تضع وجودها الفعلي بين يدي الفوهرر الذي يملي على الفرد في كل الحالات وفي التفاصيل الصغيرة ما يجب عمله. الفردانية وفن العيش هما منذ زمن بعيد أعداء الفاشية(19). أما بالنسبة لحالتنا نحن، تتخذ رغبتنا في إبداع فلسفة تكون فنا للعيش، الانخراط في إنجاز المهام التالية:
أولا: العمل على الانفكاك من أنفسنا بواسطة القيام بالتدميرات الضرورية لطرق تفكيرنا في ذواتنا وفي الآخرين وفي العالم. هذا ما يفرض علينا التفكير في الوجود كما هو في تعدده وانفتاحه، لا كما تم صياغته من طرف الفكر الوثوقي والرؤية الاخلاقية النافية للفكر وللحياة المرحة.
ثانيا: مقاومة الحاضر عبر نقد كل مظاهر الارتكاس وابتذال الحياة مع سيطرة منطق السوق على الفضاء الاجتماعي وتشييء الكائن البشري وفقدانه لحريته.
ثالثا: العمل على بناء وسط اجتماعي محايث، يسمح بالتقاء الإرادات القوية والحرة، للتعبير عن ذاتها واختيارتها عبر إبداع فن عيش يسمح بتنظيم الإمكانيات، وتجريب القدرات، واتخاذ القرارات بعيدا عن أوامر وإملاءات أية سلطة سياسية أو أخلاقية أو دينية. وهذا يعني الذهاب أبعد من الذات، نحو غاية إيتيقية ألا وهي”تنظيم الوجود“، لكن هذه المرة في علاقة مع أمراض العصر ومشاكله.
إن الرهان حول الفلسفة كفن للعيش، دليل على حيوية منظور منفلت من كل تحديد أخير ونهائي، وعلى دينامية فكر يعي دوره في بناء ذوات حرة وخفيفة وفي إبداع إمكانات جديدة للحياة. فكر يؤمن إلى أقصى حد بهذا العالم كما هو في دفقه وقدريته