إذا ما تساءلنا عن الشيء الذي يريده الإنسان ؟ إنه يطمح نحو السعادة . هذه السعادة هي ظاهرة عرضية مرتبطة بإشباع حاجات بلغت درجة كبيرة من التوتر ، أما التعاسة فهي تحيط بنا من كل صوب . إنها مأساة العيش في المجتمع في كل أعرافه و قيوده . و قد يصاب الإنسان بالعصاب ، لأنه لا يستطيع تحمل التخلي المفروض عليه من المجتمع باسم الثقافة ، فالإنسان يشعر دائماً بخيبة أمل في عالم متشابك معقد سيطرت عليه التقنية ، و القيود و التحريات الاجتماعية . و هو يعرف بوضوح يكثر أو يقل ، أنه لا يمكن العثور على الجنة المفقودة ، و أنه مُرغم على التعايش مع اللايقين و المخاطر ، و أنه يتوجب عليه الاعتماد على جهوده الخاصة ، و أن التطور الكامل لقدراته يمكن أن تمنحه شيئاً ما من القوة و الجرأة ، و هكذا هو ممزق بين ميلين منذ لحظة ولادته ، أحدهما هو الخروج للضوء ، و الآخر هو العودة للرحم ، أحدهما للمغامرة و الآخر لليقين ، أحدهما للمجازفة بالاستقلال و الأخر للحماية و التبعية [1].
و تؤكد العادات و التقاليد الشعبية و اللاشعور الفردي و الجماعي ، جميعها أن الإنسان ابن طفولته ، و انه دائم الحنين لإحياء هذه الطفولة فيه ، و أن جذور الثقافة ينبغي البحث عنها في طفولة الإنسان ، و طفولة المجتمعات الإنسانية . و أن علاقة الطفل بأمه هي أقوى العلاقات ، و هي أساس كل اجتماع إنساني لاحق ، و أن هذه العلاقة تفرضها بيولوجيا الإنسان و تكوينه التشريحي . و تتطلب الحضارة الحد من الحرية و اكتساب النظام ، كما تتطلب الحضارة كبت النزوات الجنسية و نكرانها ، هذا النكران الثقافي يحرك ميدان العلاقات الاجتماعية ، و هو أيضاً السبب للنزعة العدوانية الدائمة . .
إن البشرية لا تستطيع ، في عصور الضعف و الجهل التي اجتازتها ، تحقيق التخلي عن الغرائز ( هذا التخلي الضروري للحياة المشتركة بين الناس ) إلا بفضل قوى عاطفية خالصة ، و كثير من الناس ، لا يتبنى تقنية محددة و مطلوبة بحد ذاتها لحماية أنفسهم من الألم أو لنشدان السعادة ، يعيشون كما يستطيعون وفق مزاجهم الخاص ، و يصطدمون ، مثل كل منا بعقبات كثيرة تجعلهم يتألمون ، حينذاك ، يتجهون و بشكل طبيعي ، نحو نشاطات قادرة على أن تزودهم بمحول تعويضي ، أو بتعويض عن الآلام التي تنزلها بهم الحياة ، و التعويض يشمل كل الأنظمة الروحية و الفنية الفكرية ، التي تزودهم ببعض مكاسب المتعة غير الجسدية ، دون أن تبعد الفرد عن النشاطات الاجتماعية [2]. و من بين أفكار فرويد التي تبدو ذات أهمية خاصة في مجال العلوم الاجتماعية فكرة ( عودة المكبوت ) ، إذ نجد أن المجتمع لا يستطيع أن يشتمل فقط على نظام من الضوابط و مجموعة من النواهي ، و كي يتمكن من القيام بمهامه ، يجب أن يسمح للفرد إيجاد أقنية تصريف لهذه النزوات[3].
لقد جاء فرويد بنظرة مزدوجة تجاه عصر العقل ، فهو و إن كان من أشد مؤيدي العقل في العصر الحديث ، عندما أكد أن العقل هو أثمن و أخص قوة تميز الإنسان . إلا أنه أكد من جهة أخرى ، على أن العقل عرضة لتأثير العواطف المشوهة له ، و فهم عواطف الإنسان هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحرر عقله لأداء وظيفته على نحو سليم ، و بذلك يكون قد كشف عن قوة العقل الإنساني وضعفه على السواء ، و جعل من هذه الجملة القائلة بأن الحقيقة هي التي ستحررك ، المبدأ الهادي في فن جديد للعلاج النفسي ، حيث أن المرض العقلي أو النفسي لا يمكن أن يكشف بمنأى عن المشكلات الأخلاقية [4]. و من هنا يشدد فرويد على أهمية الحياة العاطفية للجماعة .
و تتضمن نظريته افتراضاً مفاده أن كل الجماعات تتشابه في ديناميتها ، و الأفراد ينقلون اتجاهاتهم الناشئة في الحياة الأسرية إلى المواقف الجماعية ، و هو لذلك يدخل القوى الليبيدية ، كقوى عاطفية جاذبة بين الأفراد ، كما يشدد على عملية التماهي ، و دور القائد ، و مثال الأنا ، و التجاذب العاطفي ، و مركب أوديب [5].
************
فالكبت و الإكراه ، أو التقييد و التعنيف و التجريح ، من أكبر العوامل التي تقلقل و تبعث التوتر ، هنا قد يظهر النكوص على شكل رجوع في الفكر و السلوك إلى مرحلة سابقة ، إلى التجربة الأولى ، إلى مراحل الطفولة في الأمة ، أو التاريخ الفردي للشخصية ، و من اليسير جداً ملاحظة النكوص في سلوكيات الأسلاف أو طرائقهم التي نجحت ، و أفكارهم التي وفرت لهم التكيف الناجح و المعافاة و الإسهام في صنع الحضارة البشرية [6].
و لا بد التمييز هنا بين الحرمان الذي يصيب الناس جميعاً ، و الحرمان الذي لا يصيب الناس جميعاً ، و إنما بعض الفئات أو الأفراد أو الطبقات فقط ، ضروب الحرمان بشكلها الأول هي الأقدم عهداً ، و بفعل أشكال الحظر التي تمخضت عن هذه الضروب من الحرمان منذ آلاف السنين ، شرعت الحضارة تنأى عن الحالة الحيوانية البدائية ، و لشد ما يدهشنا أن نعرف أن تلك الضروب من الحرمان لم تفقد شيئاً من قوتها ، و أنها لا تزال تشكل حتى الآن نواة العداء للثقافة . فالرغبات الغريزية تعاود الولادة مع كل طفل ، و ثمة طبقة بكاملها من البشر من المصابين بالأمراض العصبية ترد على تلك الضروب البدائية من الحرمان بالنفور من الحياة الاجتماعية ، هذه الرغبات الغريزية ، هي رغبات حب المحارم ، و أكل لحوم البشر ، و القتل [7]، رغبات عبرت عنها بشكلٍ واضح الأساطير البشرية ، التي تتكلم عن زواج الآلهة من المحارم ، و تعطشها الدائم للدماء و القتل و الانتقام ، و أكل التضحيات البشرية ثم الحيوانية . إن الشعور النرجسي بالارتياح و الرضا المتولد عن المثل الأعلى الثقافي ، ممثلاً بالأساطير الاجتماعية ، و ملاحم أبطاله ، هو بالأصل واحداً من القوى التي توازن و تعوض عن عداء الحضارة داخل الجماعة الثقافية بالذات . [8]
و نحن نجد أن الحيلة العقلية الأبرز هي تلك التي تدفع إلى الانطواء على الذات الثقافية و أسطرتها ، بالعودة إليها للاحتماء و استنكاراً للواقع ، فكأن المثقف يقفل وحده حدوده الثقافية ، و يقبع داخلها ، مُسقطاً على ثقافته كل الحسنات ، و على الثقافة المهاجمة كل الشائبات ، فيقع في عبادة الثقافة الخاصة ، في النرجسية الثقافية ، في أسطورته ذاتية المركز ، و إذ يتمسك بما عنده من أنماط فكرية و سلوكية ، و يحتمي بماضيه و تجاربه فيذوب بجماعته ، فإنه يوجه بالتالي عدائيته على الآخرين [9].
************
و من خلال تحليلنا النفسي لنماذج الأساطير عند الشعوب في مختلف الحضارات ، نجد أنها تمثل ردّات فعل أو استجابات مؤسَسَة على النزعات الطفولية . إذ يؤكد فرويد أن المؤمن يحمي إلى أقصى درجة ، نفسه ضد خطر بعض الآلام العصابية ، إذ يخلصه العصاب الجماعي من حتمية تشكل عصابه الفردي . فالأسطورة لا تكون عند غالبية الشعوب شيئاً جامداً ، إنها واقع منفتح يتكيف مع التنوع المتقلب للأوضاع الاجتماعية ، و يحتفظ مع العالم الذي يماثله ، عالم الأحلام ، بمجموعة من المتغيرات ، في الاتجاهين ، من جهة ، يكمل الحلم الأسطورة الاتنية ، يتذكرها ، يجعل بعض أجزائها فردية ، و من جهة أخرى ، تضم الأسطورة أجزاءً من الحلم ، مروية ، و ذلك بشكل سهل لا سيما و أنها في مضمونها ، متجانسة ، لإغناء الأسطورة الجماعية ، و حتى أحياناً لتوجيهها نحو اتجاهات جديدة .و تنمو الأساطير بواسطة إضافات متتالية ، و تتحول فيها رموز الليبيدو إلى رموز اجتماعية ، و إذ يتم ذلك ، تميل إلى تبديل مهمتها ، مذ ذاك يصبح الكلام عن اللاوعي كلاماً عن اللحمة الجماعية . و مع عدم مقدرتها على إدراك ذاتها ، من جهة اتصالها مع جماعة تامة ، بالرجوع إلى ” هو ” فردي ، فلا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى القضية الاجتماعية ، لكن بالطبع ستحتفظ دائماً ، حتى في استعمالها الجديد ، بآثار واضحة نتيجة لانتزاعها مكان الليبيدو [10]
إن الأسطورة لا تروي لنا الأصل في نشأتها ، إذ هي متواجدة كنتاج للفكر الإنساني المتأصل في بعض أشكال العلاقات بين الناس و العالم ، حيث ترسي علاقاتها في مستويات محددة ، و حيث اضطراراً ، فإن أناساً و ليس آلهة ، اقتُرحوا كنماذج للعمل الوسائطي للأجيال القادمة ، فالأسطورة ضرورية للمجتمع ، كما الحلم ضروري للفرد . و قد اُعتبرت الأسطورة عادة ، بمثابة المطيّة للمقدس ، إذ الارتباط الوظيفي بين الأساطير و الطقوس ، التي هي وسيلة الإنسان للتواصل مع المقدس ، و الولوج باتجاه امتلاك قوته . و تنبع الأساطير من منظور بنيوي ، من ذلك النظام الرمزي الذي يعد أكثر عمقاً من الواقعي و الخيالي [11]. فالفكر الأسطوري يبني قصوراً أيديولوجية على أنقاض خطاب اجتماعي قديم ، إذ يستعمل مخلفات و حطام أحداث ، و بقايا و أجزاء أدلة أحفورية من تاريخ الفرد و الجماعة ، إنه التعبير الأكثر عمقاً عن هواجس الإنسان و مشاعره و نظرته النفسية للعالم متأثراً و مؤثراً .
و من المهام الأساسية للأسطورة تقديم إجابات للإنسان عن ذلك التناقض بين الطبيعة و الثقافة ، الذي تكشفه تجربته و حدسه الأول ، لذلك فإن للأسطورة وظيفة اجتماعية توازي وظيفتها النفسية ، فمن منظور أية جماعة منظمة تريد البقاء ، لا بد من إلهام يشحن أعضاؤها بطاقة النرجسية ، إذ يعتمد بقاء أية جماعة إلى حد ما على حقيقة اعتقاد أعضائها بأهميتها بقدر أهمية حياتهم هم أو أكثر ، بالإضافة إلى اعتقادهم بأخلاقيتها ، أو حتى تفوقها مقارنة بالآخرين . بدون تركيز نرجسي كهذا لدى الجماعة ، ستتناقص الطاقة الضرورية لخدمة الجماعة ، أو حتى التضحية في سبيلها إلى حد كبير [12]. إذ تفسر النرجسية العقلية البدائية ، فالعقل الذي لا يزال أولياً تحكمه العاطفة ، الذاتي يختلط مع الموضوعي ، إذ تكون الرغبات عنيفة بشكل تستدعي معه الإيمان بتحقيقها ، الحركة ، الكلمة ، هما بذاتيهما فعّالتان [13].
************
و الفكر الأسطوري ، لم يكن ، إلا تعبيراً انفعالياً عن مشكلات غير محلولة أو مفهومة منذ طفولة الجنس البشري من خلال التعامل مع قوى خارجية طبيعية من جهة ، و قوى غريزية داخلية من جهة أخرى . و عندما لا يجد الإنسان أي حل لهذا القلق ، فإنه لن يجد مفراً من كبتها ، أو التحايل عليها مستعيناً بقوى عاطفية أخرى ، تشكل الأسطورة أحد أوجهها الأكثر ألفة . فاللاشعور ، حسب يونغ ، لا يمكن أن يكون مجرد شطر من العقل الفردي ، بل إنه قوة تند عن سيطرتنا ، و تؤثر في عقولنا [14].
إن الوعي بالذات ، و العقل ، و التخيل ، كل هذه الملكات مزقت الانسجام الذي اتسم به الوجود الحيواني ، و جعل ظهورها في الإنسان شيئاً شاذاً ، خارقاً في الكون ، فهو جزء من الطبيعة و يعي ذلك ، و خاضع لقوانينها الفيزيائية ، و عاجز عن تغيير هذه القوانين ، لكنه مع ذلك يتجاوز بقية الطبيعة ، و لما كان الإنسان في وعيه لنفسه ، يدرك عجزه و القيود التي تحد وجوده ، فهو يعي نهايته ، المتمثلة بالموت ، و لا يتحرر أبداً من ثنائية وجوده المتمثلة في وعي موته ، و رغبته اللا متناهية بالخلود [15]. و هذا يدفعه دائماً للقيام بمهمة حل ثنائية لا سبيل إلى حلها إلا من خلال الأسطورة ، التي تشكل إحدى المحاولات الناجعة لحل أزلية التناقض بين واقع الإنسان ، ورغباته ، حيث يتصالح الإنسان مع نفسه ، في عالم لا ينتمي إلى عالمه الواقعي ، إلا بشكل رمزي . فلا عجب وفق هذا الاعتبار أن يبدع الإنسان خارج نفسه ملاحم و موضوعات عظيمة خارقة و يحبها ، لأنها ليست عرضة لتقلبات و تناقضات الموضوعات الإنسانية ، إنها تقفز فوق عجزه لتصل إلى تحقيق كل رغباته و شعوره بالأمان و القوة . فعندما أضاع الإنسان الفردوس ( طمأنينة الطفولة ) أصبح المتجول الأبدي ( أوديسيوس – أوديب – فاوست – بوذا ) محاولاً بجهد دائم أن يملأ ثغرات معرفته ، بالأجوبة التي تحقق الانسجام من جديد بين الذات و العالم .
لذلك يمكننا القول أن كل فكر أسطوري لا يمكن فهم إطاره التعليلي ، إلا بقراءة الحالات الانفعالية اللاشعورية التي صاغت تصوراته لهذا التعليل أو ذاك . إذ غالباً ما تكون الغرائز في أهدافها و مواضيعها الأصلية غير متوافقة مع الحياة الاجتماعية ، و في مثل هذه الشروط المحددة نكون نظرياً أمام ثلاثة خيارات . إما إلغاء الغرائز ، أو إلغاء تجلياتها ، أو تصعيدها ، بتحويلها من هدف إلى هدف آخر مباين له ظاهراً ، مطابق له باطناً ، الحل الأول ( أي إلغاء الغرائز ) ليس مستحيلاً على المستوى العملي و حسب ، بل لا يمكن تصوره نظرياً ، لأنه يؤدي بالضرورة إلى القضاء على كل طاقة بشرية . و إلغاء التجليات أمر ممكن ، و هو الدور الذي يؤديه الكبت ، و لكن من الممكن أن تكون نتائجه مؤسفة على الأقل بالنسبة لسوية البنية النفسية ، لا يبقى أمامنا سوى الحل الخير ( التصعيد ) ، أي تحويل تلك الغرائز إلى الشكل المفيد اجتماعياً [16]، و هذا التصعيد يظهر على صعيد فردي ممثلاً بالفن و الأدب و العلم ، ، أو جماعي من خلال الملاحم الأسطورية ، التي تخلع على الشخصيات التي نتماهى معها ، قوة عظمى تقاتل قوى الشر لتحمي الإنسان من شيطانه ( الغرائز ) .بل إن تراث الأفكار ذات الطابع الأسطوري و الملحمي المقدس ، و الذي لا يستمد قدسيته بالضرورة من الدين ، بل من المجتمع نفسه ، لا تنطوي على تحقيقات لرغبات و حسب ، بل أيضاً على تذكرات تاريخية هامة ، فما أعظم و ما أوسع السلطان الذي سيتقلده الدين بنتيجة هذا التعاون بين الماضي و المستقبل . و هذا ما يجعل من الأسطورة حلم جماعي بامتياز . و نحن نعرف أن الأسطورة و الفكر المرافق لها ، لا تختلف كثيراً عن اللغة الرمزية التي نستعملها في الحلم ، مع فارق أن تلك اللغة يتم التعبير عنها و كأنها تجارب حسية [17]، على اعتبار أن الحلم أسطورة الفرد ، كما أن الأسطورة هي حلم الجماعة . ورموز الحلم و الأسطورة ما هي إلا تعبيراً عن تحقيق رغبات مستحيلة أو صعبة التحقيق . فأحلام اليقظة أو النوم تشبه أسطورة فردية بطلها الشخص نفسه ، و هي حيلة تخفف التوتر الانفعالي ، و عملية إعادة للتوازن تبقى غير ايجابية ، إنها حل تخيلي هروبي سريع الزوال ، نلقاها في الإكثار من التصورات التي يُدعى أنها تطور الواقع ، و نلتقطها لتجميل المستقبل تجميلاً يعوض عن الحال المضطرب أو المحبط [18].
و الملفت ، أن هناك تلازم في الإطار العام ، بين ضعف تأثير الأساطير الاجتماعية على الجماعة ، و كثرة أحلام اليقظة لدى الشباب ، حيث يعوض الحلم الفردي الحلم الجماعي . و قد كان يونغ مندهشاً ، و هو يصغي إلى خيال مرضاه العفوي و أحلامهم ، من أن يصادف أشكالاً و أوضاعاً و مشاهد لا تتكرر من حالم إلى آخر و حسب ، و لكنها موجودة أيضاً في حكايات الجنيات و الأساطير و القصص التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة ، حيث يقول أنه : “ينبغي أن نلاحظ أن ثمة موضوعات ، أي أشكالاً نموذجية ، بوسعنا أن نكشف أثرها البعيد في التاريخ ، بل حتى في ما قبل التاريخ ، و يبدو لي أنها تنتمي على وجه مطلق ، إلى العوامل البنيوية للاشعور الإنساني ، و لولا ذلك ، لن أحسن شرح حضورها الكلي المتماثل في كل مكان “[19].
لذلك يسهل فهم الأساطير من خلال دراسة الحلم ، حيث يعيدنا الحلم إلى حالات قديمة جداً من الحضارات البشرية ، و يمنحنا وسيلة فهمها بشكل أفضل ، و الأساطير تتبع نفس قواعد الحلم ، و تعبّر عن نفس الرغبات التحريمية ، و النزوات العدوانية كقتل الأب ، و زواج المحارم ، أو مجرد رغبة القتل من اجل القتل ، كما في أرباب الانتقام ، حيث ينتقل الليبيدو إلى مواضيع ثانوية ، من خلال تكثيف الصور و تقسيم الميول ، الفارق الوحيد يكمن هنا ، في أن الحلم يُبرز الليبيدو الفردي ، و الأسطورة تبرز الليبيدو الجماعي ، حيث يقول المحلل النفسي ” كارل أبراهام ” : ” الأساطير هي البقايا المشوهة ، التخيلات و رغبات أمم برمتها ، هي أحلام البشرية الحديثة التي امتدت قروناً طويلة ، و يؤكد يونغ بأن الميثولوجيا الفلكية ليست سوى إسقاط السيكولوجيا اللاواعية في السماء ، فالأساطير لم و لن تبتكر مطلقاً بشكل واع ، و إذا ما كنا نريد التوغل في أعماق حضارة ما ، و معرفة الدوافع الخفية التي تشكل بداية المؤسسات الاجتماعية ، سيتوجب علينا تحليل أساطير هذه الحضارة [20].
و من جهة أخرى ، يترك هلع صدمة الولادة ، كما يرى رانك ، أثاراً عميقة في لا وعي الطفل ، فهو يفسر الحلول الأولى لمسألة الموت، الذي ليس توارياً أو تدميراً ، بل عودة إلى الرحم ، و أول تفسيرات سر الولادة ، يرغب الصغير في معرفة من أين يأتي إخوته ، بكل حال ، فهو لا يعير أي التفاته لأعضائه الجنسية ، لقد جاء الأخ من البطن ، الفخذ أو الشرج ، أو الفم ، لماذا ؟ لأنه يريد أن ينسى ذكر قدومه المريعة إلى العالم ، انتزاعه من بطن أمه ، لا يتأتى تبخيس قيمة المرأة من كونها ذات مظهر مخصي و حسب ، و إنما من إيقاظها في الطفل ذكرى ترتبط بالولادة ، مع قافلة من الذكريات المؤلمة عند البالغ ، و ليس الشطح الصوفي سوى عودة رمزية إلى الوضعية داخل الرحم ، تماماً كما يعتبر المعبد الخافت نسخة مؤسساتية له [21].
************
و عن طريق الحلم ، و من خلفه الأسطورة ، أبان لنا فرويد أن اللاشعور ليس مجرد وصف لمفهوم ، و إنما هو لغة مسكون بها الإنسان ، فالأنا لا تتكلم باسمها ، الحلم خطاب ، رسالة من الآخر القابع في كل منا ، و علينا أن نفك طلاسمها . و لغة الحلم ، كما الأسطورة ، ما هي إلا طريقة يحاول النشاط النفسي اللاشعوري عبرها أن يعبّر عن نفسه ، رغم أن اللاشعور يتحدث بلهجات متعددة [22]. و الطريقة التي يعبر بها الحلم عن مقولتي التضاد و التناقض لباعثة على الدهشة حقاً ، فهو لا يعبّر عنهما ، بل يبدو كأنه ، يجهل ال ( لا ) ، و لكم يبرع في الجمع بين الأضداد و في تمثيلها في موضوع واحد . و يبدو أن مفسري الأحلام في العصور القديمة قد استخدموا على أوسع نطاق الفرضية التي مؤداها أن الشيء يمكن أن يدل في الحلم على نقيضه ، و يسلّم بهذه الإمكانية أيضا المحللون المعاصرون في مضمار الأحلام ، و الأمر نفسه ينطبق على الأسطورة بالطبع .
و الشيء الواحد الوحيد الذي يمكن لعلم النفس أن يقرره هو حضور الرموز التشكيلية التي ليس تفسيرها محدداً في شيء بصورة مسبقة ، و بوسع المرء أن يقرر بشيء من اليقين أن للرموز سمة الكلية ، و تعني إذاً ضرباً من الكلية على وجه الاحتمال [23]. و يرى التحليل النفسي الفرويدي في كل رمز ، انعكاساً لاواعياً للطبيعة النفسية للإنسان ، و بذلك تتلاقى رموزها مع رموز الأحلام و الحالات النفسية غير المفهومة . و بدراسة الأنا الواقعة فوق الوعي ، تتكشف الأسباب العميقة و العلل المحددة لنشاط الوظيفة المرمزّة لدى الإنسان . فأسطورة أوديب و قدمه المشوهة ، تكوّن رمز لقلق مشوه ، و أبو الهول ( السفنكس ) المُراد مواجهته في الأسطورة ، ليس إلا ميدان اللاوعي المهول و المخفي . و زواج أوديب من الأم ، و ما ينتج عنه من غشيان محارم ثم انتحار الأم أي الموت ، و سمل عيني أوديب كعقاب عن خطيئة ناتج عن شعور بالذنب بعد معرفة الأسرار ( معرفة لغز طرحه السفنكس و استطاع أوديب فكه ) ، و ذلك ليس إلا تعبيراً عن العواقب التي تتبع محاولة معرفة الدوافع الدفينة للرغبات البشرية .
و بالتالي انطلاقاً من التحديد الفرويدي ، نجد المحرم هو فعل محظور يندفع اللاوعي نحوه بواسطة ميل أقوى ، غير أن هذا الميل شديد القوة بشكل أنه يُقاوم التحريم ، خالقاً التقاطب في مفهوم المقدس ، و يمكننا الموافقة كواقعة مؤكدة ، في حياة البدائي النفسية ، على أن التقاطب يلعب باستمرار دوراً اكبر مما يلعبه في الحياة النفسية للمتحضر الحالي ، و التناقض في هذا التقاطب يؤدي كنتيجة طبيعية إلى التواري التدريجي للمحرم الذي لا يعد سوى نظام تسوية بين ميلين متصارعين . و تنقلنا المحرمات من المعتقدات الدينية إلى الطقوس ، لا يتوهم المريض تصورات خيالية فقط ، بل إنه يبتكر طقوساً دينية شديدة التعقيد [24]. فلو تناولنا أسطورة ولادة البطل ، التي كانت مادة العمل الكلاسيكي ، نرى كل الروايات حول ولادة البطل ، إن يكن موسى أو المسيح ، أو أوديب ، أو رومولوس ، أو تريستيان ، أو لوهانغرين ، تتبع نفس المتوالية الموضوعية ، البطل هو ابن إله أو ملك ، إنما تتعرض ولادته عراقيل ، يتنبئون بأنه سيقتل والده ، و أحياناً سيولد سراً ، يُحكم على المولود بالموت ، أو بالتخلي ، يوضع في صندوق و يلقى بالماء ، أو يسافر مع أمه و أبيه هرباً من الموت ، يخلصه ناس فقراء يصبحون أهله ، بعد ذلك ينتقم البطل من أبيه ، أو ملكه الذي هو بمثابة الأب ، و يعلى من أهميته ، و نحن نجد أن المصابون ببارنويا العظمة ، يختلقون روايات لها علاقة بعلاقات أمهاتهم بشخصيات رفيعة المقام ، و يميزون بين أباهم الحقيقي ، و الظاهر ، و ذلك يسمح لهم بالتوفيق بين مشاعرهم المتناقضة بين الحب و الكراهية ، التي تتغذى تجاه مالك الأم ، و ذلك بتقطيعه اثنين ، و جعل الأب الوحي هو المثل الأعلى [25].
وفق هذا الاعتبار ، أكد فرويد أن هناك الكثير من الظواهر السلوكية الغامضة ، كالتنويم المغناطيسي و الأحلام ، يمكن أن تُفسر بسهولة متى تم الاعتراف بأن الحياة النفسية تعمل على عدة مستويات ، و أن واحداً فقط من هذه المستويات هو واعٍ تماماً بالمعنى العام للتعبير ، و أن الوعي لا يحتوي في كل لحظة إلا مضموناً ضعيفاً بحيث أن معظم ما نسميه معرفة واعية يجب أن يوجد ، في غالب الأحيان ، في حالة الكمون ، و بالتالي في حالة لاوعي نفسي [26]. حيث يمتد اللاوعي على حقل واسع ، و يمكن تشبيهه بأنه مجموعة نفسية بدائية ، و لو كان عند الإنسان بنية نفسية موروثة عن أقدم أجداده ، لو كان عنده شيئاً مشابهاً لغريزة الحيوان ، لكان هذا الشيء هو الذي يشكل نواة اللاوعي [27].
و مفهوم ” عودة المكبوت ” في صورة ميراث عقلي فطري ، و المتوارث لدى كافة الناس عن الإنسان الأول منذ المجتمع البدائي ، يمثل مسألة أساسية و جوهرية للتحليل النفسي الفرويدي ، فالخصائص النفسية و الطبائع و الذكريات و الأفكار ، و النزعات الجنسية الطفلية ، و الازدواجية الوجدانية التي فطر الإنسان عليها ، منذ العصور الأولية القديمة ، كل هذا قد تم توارثه من جيل إلى جيل ، و هو مختزن في أعماق لا وعي الإنسان ، هذا الميراث قاد فرويد إلى ترسيخ اعتقاده بأن عقدة أوديب هي حقيقة ثابتة ، بل هي حدث تاريخي ، كان له موقعه في الحياة البشرية ، أي أن عقدة أوديب هي ظاهرة شاملة تلعب دوراً مصيرياً في حياة البشر ، و عند جميع الشعوب في مختلف الحضارات . و هذا ينطبق على العديد من التصورات النفسية ذات الطابع المقدس ، فمثلاً كانت النظرية الإبليسية ( المس ) الشائعة في الأزمنة السابقة المظلمة ، أقرب إلى الصحة و الصواب من جميع التأويلات البدنية التي رأت النور في حقبة العلوم الدقيقة ، فضروب المس ، تناظر أعصبتنا التي عمدنا إلى تفسيرها بالاستعانة من جديد بالقوى النفسية ، فالأبالسة في نظرنا ، نحن ، رغبات شريرة ، مُستهجنة ، تتبع دوافع مكبوتة ، و كل ما هنالك أننا نتحاشى إسقاط هذه الخلائق النفسية في العالم الخارجي على نحو ما كان يفعل العصر الوسيط ( نلاحظ حتى الآن نبرر أفعالنا المستهجنة بأنها وسوسة الشيطان ) ، بل ندعها تولد في حياة المرضى الداخلية حيث مكان إقامتها [28].
بذلك أكد التحليل النفسي أن علم النفس مهما درس الحياة العقلية الشاملة المستنيرة التي تظهر في التفكير الشعوري ، و مهما ساعد بشتى وسائل التنقيب ، فإنه لن يتيسر له الكشف عن الإنسان الباطني الكامل ، و هذه الدراسة تحتاج إلى تضمين اللاشعور . ووجود اللاشعور في النفس ليست من اختراع فرويد فقط . فهي مسألة قديمة و مُعترف بها من الجميع ، و قد اقترح ستانلي هول ، أن تشبه النفس جبل الجليد يمثل الشعور فيه الجزء البارز على سطح الماء ، أما الجزء الأكبر ، و هو الكتلة المغمورة و غير المرئية ، فتمثل اللاشعور ، و لم يعترض الكثيرون على هذا التشبيه . فاللاشعور الفرويدي الذي يُحدث الأعراض النفسية و يفرضها ، من الميسور أن يفهم على أنه شيء طبيعي ، لا كعامل خارق للطبيعة ، و هو ينشأ إلى حد ما ، داخل النفس . ************
و مع يونغ ، سوف تكون الرموز و الصور التي تنبع عفوياً من اللاشعور الجماعي ، بمثابة قوى و شحنات ايجابية رابطة للإنسان ، فهي مشروطة تاريخياً بزمن و ثقافة معينين بعالم روحي أكثر غنى من العالم التاريخي ، أي المحدود الماكث فيه ، فالدور الأول للرمز ، يتمثل في إعادة التوازن للفرد بإنتاج ، دون حد ، لصور نموذجية معيارية داخل النشاط الإنساني ، تسمح للإنسان بوعي روحه . فالأسطورة إذاً ، تجمع عناصر ذاتية لصيقة بالنفس الإنسانية ، و تضم معطيات موضوعية من العالم الذي عرفت النشوء فيه ، فالشمس و القمر معطيان موضوعيان ، في حين أن العديد من المنظومات الدينية وقع توظيفها للتعبير عن شيء مغاير ، و الأسطورة لا تُنسج حول الشمس أو القمر إلا انطلاقاً من فعل نفسي مميز ، يعبر عنه بالعملية الرمزية ، و التشابه و التماثل للرموز عبر الزمان و المكان ، سواءً في الأساطير ، أو في التجربة اليومية للحالمين ، و المجهولة من جانبهم ، تبين وجود حالات مشتركة بين كل الناس . لاواعية جماعية [29]. يقول يونغ : ” نصف حياتنا النفسية على الأقل مسرحها وجودنا الليلي ، و كما أن الشعور يمد تفرعاته حتى في ليالينا ، فإن اللاشعور أيضاً يبرز في حياتنا من خلال اليقظة ، و ليس ثمة شخص يرتاب في أهمية الحياة الشعورية و تجاربها ، فلماذا نرتاب إذاً من دلالة تلاحق الأحداث اللاشعورية ؟ إنها حياتنا أيضاً ، و هي في بعض الأحيان أكثر خطراً من الأحداث الشعورية ، و أكثر أمناً في أحيان أخرى [30].
فالإنسان هو الجاهل الوحيد الذي لا يعرف أنه يجهل ما يعرفه ، و عليه واجباً و التزاماً كي يعرف أقصى ما يستطيعه عن نفسه . فالفرد يعتمد في شرح العوامل اللاشعورية على الأحلام و على الخيال الإيجابي ، اللذين تبدو فيهما هذه العوامل في حالة الإسقاط معزولة بصورة نسبية عن سلوكيات ممتزجة بها عادةً .
و قد وضح يونغ في مرحلة أولى ، واقعاً مفاده أن الذات أسقطت ، قبل التعرف عليها ، في وجوه ميثولوجية ، فالأنا الشعورية ، هي العامل النفسي الوحيد الذي يستجيب للتناقضات الداخلية في القوى اللاشعورية ، و شرط وحدتها ، و المبدأ الذي يرغمها على أن تندرج في التاريخ ، على شكل حكاية أو قصة أو أسطورة و ملحمة .
فمثلاً : تتلخص أسطورة الأب الباطش عند فرويد أنه في البدء كان الرهط يدار من قبل أب عنيف و متسلط يملك نساء القبيلة بشكل قطعي على حساب أولاده الذكور ، ( ينبغي ملاحظة أن هذه الأسطورة لا يجب أن ننظر إليها ضمن السياق التاريخي المتحقق ، بقدر ما ننظر لها باعتبارها حقيقة نفسية تعبر عن نزاع عميق كامن في النفس البشرية تجاه القانون و السلطة القامعة للرغبات ) يُقتل الأب من قبل الأولاد ثم يُقتسم و يُؤكل ، فتحقق هذه الوضعية نمطاً من التماهي البدائي الذي يهدف إلى اجتياف قوة و مخافة الأب ، مما يولد الشعور بالذنب ، هذه المشاعر تطلق تماهيات مع نظام أعلى جاعلة الأب مثالياً ، فالأب الميت يصبح مثالاً و أكثر سلطة و قوة ، لأن افتتان الوعي بصورة السلطة لا يتم إلا في غيابها ، فينشأ التماهي المتبادل بين الأولاد ، وينبثق الحب بين الأشقاء ، و يحل محل الغيرة البدائية مكوناً فيما بينهم ، ولادة أول تنظيم اجتماعي ، حيث بروز أول مؤسسة أخلاقية دينية و حقوقية ، فيصبح الأب مجسداً للقانون الرمزي . إذ أن كل صورة رمزية في الحلم ، كما في الأسطورة ، هي الرمز لشيء أحسسناه ، و ربما رغبناه .
************
و اللغة الرمزية ، هي اللغة التي يكون فيها العالم الخارجي رمزاً للعالم الداخلي ، و ذلك على النحو نفسه في كل الأساطير و الأحلام سواء في الثقافات البدائية ، أم في الحضارات اللاحقة ، كالمصرية و اليونانية ، لذلك نجد أن الرموز المستعملة في مختلف هذه الحضارات ، متشابهة بشكل ملحوظ ، و ذلك لأنها تعود إلى نفس المحسوسات أو المدركات الحسية ، و تعود إلى نفس التجارب الروحية التي تجمع أبناء هذه الحضارات كلهم [31]. على سبيل المثال : نذكر أن العملة في كل الحضارات تعبر عن رمز الغائط ، و هو ما يمثل الشخصيات ذات الطبيعة الشرجية وفق المصطلح التحليلي ( في بابوس ميلانيزيا – أشنتي _ سيام – أرامي – كيواي في غينية الجديدة ) و يرمز للأب بالحاكم ، الطوطم ، الوحوش الأسطورية ، الأرواح آكلة لحوم البشر ، الشمس . و يرمز إلى الأم بالكنيسة ، المغارة ، القمر ، و إلى الولادة بالماء ( الداغومبيا في إفريقيا ، الكيوكيوتل في أميركا ، التيكوبا في بولينيزيا ) [32].
و إذا ما نظرنا إلى بنية كل فكر أسطوري بخصوص نشأة الكون ، نجد دائماً أن الكون من خلق كائن يشبه الإنسان ، لكنه أعظم منه من كل الوجوه ، فهو أقوى منه جانباً ، و أكثر حكمة ، و أشد بطشاً ، و على الجملة ، فالكون من خلق إنسان مثالي أسمى ، أو حيوان عظيم كما نجد من أثار الطوطمية ، و من الطريف أن نلاحظ أن خالق الكون يكون على الدوام ذكراً ، و لو كان يوجد من أدلة على إلهة من الإناث ، فإنها واقعياً لا تأثير مباشر لها في خلق الكون ، ففي الكثير من الأساطير نجد خلق العالم ، بدأ بإله ذكر إما بشكل مباشر ، أو عن طريق انتصاره على آلهة أنثى ، يمسخها و يمزقها لينشأ العالم من جسدها برمزية لا يمكن إغفالها عن تصور ذكوري عدواني و سادي واضح المعالم ، ذلك الإله يدعى صراحة بالأب .
و قد استخلص التحليل النفسي أن فكرة الإله الأب تمثل الأب فعلاً ، يكسوه ذلك الجلال الذي يبدو لعين طفل صغير ، فالإنسان المتدين يتصور خلق الكون على غرار خلقه هو ، و في كنف هذا الأب يشعر بالطمأنينة و الحماية ، و حتى الراشد الكبير يشعر في قرارة نفسه ” لا سيما عند إحساسه بالضعف لأي ظرف كان ” أنه من العجز و قلة الحيلة ما كان في طفولته ، و أنه في صلته بالعالم الخارجي لا يزال طفلاً ، و لا يستطيع أن يتخلى عن تلك الحماية التي كان ينعم بها و هو طفل [33]. من هنا نستنج ارتباط الحاجات المقدسة و ما يتبعها من أساطير ، بحالة التبعية المطلقة في الطفولة ، و كذلك في الحنين إلى الأب الذي تثيره هذه الحالة ، و هذا الإحساس المذكور لا يرجع إلى بقايا هذه الحاجات من مرحلة الطفولة فقط ، بل لأن القلق الذي يشعر به الإنسان أمام قوة القدر القاهرة يرعاه بطريقة دائمة قوة الحاجة إلى حماية الأب. بذلك يغدو اللاشعور ، رحم القضايا الميتافيزيقية كلها ، و كل الأساطير ، و كل فلسفة .
و تظهر محتويات اللاشعور الجمعي ظهوراً بارزاً جداً في بعض حالات الاضطرابات العقلية ، و في الفصام على وجه الخصوص ، و تنتشر في هذه المحتويات صور ميثولوجية ذات تنوع ليس موضع الظن ، و يتيح للمصابون بالاغتراب العقلي على الغالب ، تداعيات أفكار و رموز لا ترجع إلى تجارب وجودهم الفردي ، بل تستند إلى تاريخ الفكر الإنساني ، إننا إزاء الفكر البدائي الميثولوجي الذي يعيد إنتاج صوره الأولية ، و ليس إزاء إعادة إنتاج للتجارب الشعورية على الإطلاق . يقول يونغ : أنه في حين أن محتويات اللاشعور الشخصي مكتسبة خلال حياة فرد من الأفراد ، فإن محتويات اللاشعور الجمعي ، هي أنماط أولية على نحو لا يتغير ، أنماط أولية موجودة منذ البداية ، و بذلك يغدو اللاشعور الشخصي مصنوعاً من اللاشعور الجمعي ، إنه ناجم عن التقاء مصادر المعلومات التي تحكم التطور الإنساني و تأخذ بالحسبان الظروف ، و الخصوصيات و الاختيارات و الوارثات و الأساطير ، و التقاليد ، و بالاختصار كل سياقات الوجود المادية و النفسية و الاجتماعية و الفردية [34].
************
من هنا نرى أن الأسطورة إذا كانت تروي تاريخاً ، فإن طبيعتها العميقة هي في كونها لا تاريخية ، إنها محاولة اندماج و توحد آمن بين الحدث الخارجي ، و الرضات النفسية التي يخلقها في الإنسان ، إنها محاولة تفسيرية توائم بين الواقع و المرغوب ، و بالتالي تمثل الأسطورة تكتيكاً لإلغاء التاريخي ، و تحقيقاً للحدسي ، فهي مسعى عفوي للإنسان للتملص من وجوده التاريخي ، و لأجل تحقيق هذا الأمر يبدو المخيال الأسطوري للإنسان مليئاً بالإمكانات . وعلى ذلك فإن ميزة الأسطورة ليس في تقديمها صورة موضوعية عن العالم ، و لكن في تعبيرها عن الشكل الذي يتفاهم به الإنسان مع هذا العالم . يقول جوستاف لوبون : ” إذا كان الأموات أكثر من الأحياء بما لا يحصى ، فإنهم أقوى من الأحياء بما لا يحصى ، و الأموات يسيطرون على دائرة اللاشعور الواسعة ، تلك المنطقة الخفية التي يصدر عنها جميع مظاهر الذكاء و الأخلاق ، و الشعب مُسيّر بأمواته أكثر مما بأحيائه ، و بالأموات وحدهم يقوم العرق ، و الأموات في القرن بعد القرن أوجدوا أفكارنا و مشاعرنا ، و من ثم جميع عوامل سيرنا ، و الأجيال الغابرة تفرض علينا أفكارها ، فضلاً عن مزاجها الجسماني ، و الأموات وحدهم هم سادة الأحياء بلا جدال ، و نحن نحمل وزر خطايا الأموات و نقطف ثمرة فضائلهم ” [35]