يرتكز الفكر الحرّ والنقدي، في شقّ مهمّ منه، على أساس من التشابك مع نص الواقع بناءً على ميكانيزمات التحليل والتشخيص والتقويم...ووفق مرجعيات المفكرين المختلفة و"صناديق" أدواتهم المعرفية ومقولاتهم النظرية ومفاهيمهم المنهجية؛ غير أن الفكر "متوالية قرائية" من ناحية موازية خاصة في زماننا هذا، حيث الإحكام المعرفي الكامن في الفكر القرائي ذاته من خلال صنوف من التأويل والتأويل المضاد، ومن التأويل الذي هو مجال الدرس والبحث والتأويل الملتبس بالتاريخ ذاته. ومن ثمّ فقراءة الأحداث، التي هي في شكل هزات تاريخية كبرى، ليست بالضرورة وقفا على قامات فكرية وأكاديمية محدّدة عادة ما نسارع إلى قراءة تحليلاتها أو إجبارها على إعلان مواقفها بخصوص الأحداث الجارية في نطاق خطاطة "المثقف والسلطة" الضاغطة... دونما تفكير في ما تدّخره نصوص وأعمال قامات راحلة من أفكار جديرة بالتشابك سالف الذكر وتحريك الفكر ــ ربما أكثر ــ في أحيان وأحيان كثيرة ــ مقارنة بنصوص المفكرين من الذين يعيشون معنا وبيننا.
وبالنظر لما ترتّـب عن الحراك الثوري العربي، وعلى نحو ما تفجّر منذ أواخر العام 2010، ومن تمزيق لمفهوم "الهوية الوطنية الإدماجية" في أغلب بلدان الحراك، وبالنظر لتزايد تنامي دعاوى الطائفية والمذهبية والمرجعية والقبلية والانفصالية والجهوية... في السياسة كما في الثقافة والاجتماع، أو "البلازما التي تسبح فيها الظواهر" إذا جازت عبارة المؤرخ مارك بلوخ (Marc Bloch)[1]، فقد بدت الحاجة ماسّـة إلى مفكر "عربي من المغرب الأقصى" كما قدّم نفسه في كتابه "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"[2]؛ لكن على أساس من "خلفية عروبية قومية" صرفة وصريحة. ونقصد، هنا، إلى محلِّل "بنيات العقل العربي" المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936 ــ 2010) الذي فارق الحياة شهورا سبقت تفجّر الحراك العربي وبعد مسار فكري زاخر ونادر بموجبه دشَّـن ــ بمفرده ــ "عهدا قرائيا جديدا" للتراث العربي الفلسفي نتيجة مفاهيم محدّدة تمكّن من تأصيلها وتبيئتها في أبنية الفكر العربي المعاصر؛ ما جعل منه إحدى الشخصيات المثيرة للجدل في الساحة الفكرية العربية، لا سيّما في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم لحد أن محمد عابد الجابري نفسه يؤكد أنه لا يمكنه إحصاء ما كتب عنه[3].
ولعل في دعاوى الانفجار والتمزيق والتدمير سالفة الذكر، أو بالأحرى الحرائق المتزايدة في المجتمعات العربية، ما جعل المفكر محمد عابد الجابري ــ في سياق "التراث الذي يوجد أمامنا وليس خلفنا" ــ يشدّد على ابن خلدون الذي يغني استحضار اسمه عن التفكير في إلصاق أيّة صفة من صفات الفكر أو الثقافة أو العلم عليه. هذا وإن كان ابن خلدون، كما في هذا السياق، أقرب إلى الثقافة التي طفت على السطح كما يحلل الجابري موضوعها في كتاب من كتبه (الصغيرة) اللاحقة على مشروع "نقد العقل العربي" (1984 ــ 2001). ونقصد، هنا، إلى كتابه الموسوم بـ"المسألة الثقافية" الذي يقول فيه: "وإذا كان لنا أن نأخذ بمعطيات عالمنا الراهن، فإن المعطى الذي يفرض نفسه هو أن "المسألة الثقافية" لم تعد في الظل، لم تعد "تابعا" بل إنها شئنا أم كرهنا، تطغى على سطح الأحداث، وعلى الأقل تزاحم وتضايق على سطح غيرها من المعطيات"[4].
من الجلي أن تلتبس الثقافة، هنا، بألغام الهوية وانشطار الأمة ومخاطر التفتيت الخرائطي... وأن تتجدّد مقاومة مثل هذه الأنساق المفترسة على أرض الثقافة ذاتها: الثقافة المضادة التي تعنى بـ"النقد" الذي لا يعلو عاليه شيء. يقول الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي" (1990) في سياق "ابن خلدون والخلدونية": "إن العودة إلى ابن خلدون يبرّرها، أولا، وقبل كل شيء الواقع الاجتماعي السياسي للراهن، القائم في الوطن العربي وفي بلدان أخرى، والذي يجعل من الحديث اليوم عن العشائرية والطائفية والأصولية الدينية حديثا مباحا بل مطلوبا، حديثا غير "رجعي" ولا مستنكر، كما كان الشأن قبل عقدين من السنين فقط"[5].
أجل يمكن، وبأكثر من معنى، موافقة محمد عابد الجابري على "مركزية التراث" التي لا تزال تفرض ذاتها ــ حتى الآن ــ في الفكر العربي كما في الثقافة العربية بخاصة من ناحية "التراث وتحديات العصر" (تبعا لعنوان إحدى أهم ندوات العرب في موضوع التراث (1984). والعبارة، كما يقول الجابري، تفقد كل دلالتها، إذا ما حاولنا ترجمتها إلى لغة أجنبية كالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية... لأنه في هذه الحالة "لن تثير فيهم تلك "الشجون" الفكرية والعاطفية التي تثيرها فينا" كما يوجز في "المسألة الثقافية"[6]. فعلاقة العرب بتراثهم تختلف عن علاقة الأوروبيين بتراثهم.
يمكن موافقة محمد عابد الجابري على "مركزية التراث" التي لا تزال تفرض ذاتها في الفكر العربي كما في الثقافة العربية بخاصة من ناحية "التراث وتحديات العصر
وعلى الرغم من الحضور الحدّي للتراث، وعلى وجه التحديد من ناحية "الانتظام العقلاني النقدي في تراثنا" من أجل التصدّي لـ"أدلجة الدين" و"الأفكار المتلقاة" (Received Ideas) كما فصّل الجابري القول فيها في الجزء الأوّل ("في التعريف بالقرآن") من "مدخل إلى القرآن الكريم" (2006)، فإنه من غير المفهوم أن "نجعل من التراث القضية ومن القضية التراث" تبعا للعبارة التي أثيرت في نقاش ندوة "التراث وتحدّيات العصر". ومن جهتنا، نشرنا أبحاثا كثيرة حول مشروع محمد عابد الجابري من منظور ما نعتناه بـ"التراث... الفكر والقيمة" تبعا لعنوان كتاب لنا صدر بالمغرب عام 2016، وضمّ الأبحاث نفسها[7]. لذلك فإن ما يهمّنا، هنا، هو أن نسأل حول أداء المثقف الذي افترضه الجابري في إسهام المفكر المحلّل ودارس الخطاب.
وعلى هذا المستوى يظهر ــ لمحمد عابد الجابري ــ المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) (1885 ــ 1937) الذي يحسب له تجديده ــ غير المسبوق ــ في "النسق الماركسي" من ناحية مفهوم المثقف (العضوي) الذي أخذ المثقفون العرب يميلون إليه بعد هزيمة العام السابع والستين؛ الهزيمة التي ما تزال مستمرة إلى الآن، كما يقول الناقد والمفكر المصري غالي شكري في كتابه "الخروج على النص"[8]. هذا بالإضافة إلى التأثير البالغ لأبحاث المنظّر الإيطالي غرامشي في الدراسات الثقافية التي تعدّه "بطلا" لها، خصوصا من ناحية التشديد على مرتكز الثقافة مقارنة مع "الحتمية الاقتصادية" في تفسير العلاقات الاجتماعية. وقبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه كثيرا ما تمّ "استعمال غرامشي" أو بالأدق "استعمالاته" كما تقول الناقدة الهندية آنيا لومبا (Ania Loomba)[9]، وحصل ذلك في الهند وأمريكا اللاتينية وداخل أوروبا ذاتها؛ وذلك في نطاق تحليل قضايا الإيديولوجيا والعرق والاستعمار... وغيرها من القضايا ذات التأثير الأرجح في الثقافة.
وليس غريبا أن يتواصل، منذ الستينيات النازلة من القرن المنقضي إلى اليوم، اهتمام العرب بغرامشي لما يتيحه منجزه من أدوات وأفكار ورؤى وتصوّرات... وغير ذلك من آليات التفكير ذات القدرة على التفكيك والتحليل والتفسير... لحال العرب. هذا بالإضافة إلى ما اتسم به تحليله من استحضار للأرض أو الجغرافيا بدلا من الغطس في التجريد والتعميم؛ ما جعله يقدّم تحليلا "عينيا" للوضع في إيطاليا وعلى نحو يفيد في تحليل وضعيات بلدان أخرى، ولا سيما إذا ما ذكرنا مع المؤرّخ المفكر عبد الله العروي أن غرامشي كان "يتحدّث عن بلد نصف مصنع متأخّر"[10]. بلد يتفاوت شماله عن جنوبه، حيث التصنيع والتحديث في مقابل معايير التخلّف. ومن ثمّ "المسألة الجنوبية في إيطاليا" تبعا لعنوان المقال الأشهر لغرامشي (1926) الذي عدّه الأكاديمي (والمقالي) إدوارد سعيد أهم مقالات صاحب غرامشي[11]. هذا بالإضافة إلى الفساد العميق الذي كان يعاني منه الحزب الاشتراكي الإيطالي، وهو الفساد الذي كان غرامشي يضعه نصب عينيه[12].
وغرامشي، هنا، أو في حال العرب تعيينا، من منظور ميراثه بمفاهيمه التي برع في اجتراحها وبلورتها وتطويرها واستشكالها، وذلك مثل مفهوم التابع والأزمة والثورة السلبية... وقبل ذلك مفهوم الهيمنة الذي تفرعت عنه، على نحو ما نطالع في الصفحات الأولى من كتاب "جرامشي في الفكر العربي"، كافة المفاهيم التي تشكّـل الأفق الفكري للغرامشية مثل المجتمع المدني والمجتمع السياسي والمثقف العضوي وحرب المواقع... كذلك مفهوم الكتلة التاريخية الذي ارتقى به المفكر محمد عابد الجابري إلى مستوى الأطروحة التي استخدمها على المستوى العربي والقطري لتحليل جانب أساس في حال العرب. والعامل المشترك بين جميع هذه المفاهيم هو مركزية المسألة الثقافية.
وتجمع الكتلة التاريخية، كما يشرح محمد عابد الجابري في مقال له "الكتلة التاريخية... بأي معنى؟"[13]، "فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها ونضالاتها".
وقد بدت الحاجة إلى الكتلة التاريخية، من منظور ما نسميه بـ"الاستعادة المضاعفة" (استعادة كل من غرامشي والجابري معا)، قبل تفجّـر الحراك العربي لا سيّما في تلك البلدان التي تعاني من عدم استقرار مذهبي وعقائدي. والمثال على ذلك، ما فعله عبد الله الجناحي في كتابه "الكتلة التاريخية من غرامشي إلى الجابري وملاءمتها للبحرين" (2004)، وهو ما يمكن الاطلاع عليه في كتاب آخر، في حال البلد نفسه، حتى وإن كان لا يشير، على مستوى العنوان، إلى مفهوم الكتلة التاريخية. والمقصود، هنا، كتاب "طبائع الاستملاك... قراءة في أمراض الحالة البحرينية" (2007) لصاحبه الناقد الثقافي البحريني نادر كاظم، وهي حالة لا تخلو من تفاوت؛ لكن دون أن تسلم منها بلدان عربية كثيرة.
والأطروحة، في حال العرب بصفة عامة، وكما يمكن أن نتأوّل ذلك ودون عسف في التأويل، وفي إطار أطروحة الجابري حول "العقل التوافقي"[14] بصفة عامة، جديرة ــ فكريا ــ بتسييج الأصوليات الإيديولوجية المتصادمة والهويات الثقافية القاتلة على صعيد الثقافة والمجتمع معا، وجديرة ــ إيديولوجيا ــ بالترسيم الخرائطي للمداخل الأساسية لنوع من "القاعدة المشتركة" التي تدمج التيارات السياسية ــ الإيديولوجية (الأساسية) وعلى أساس من تكامل الديمقراطية والعقلانية ومن خارج ادعاء هذا التيار أو ذاك استغراق مفهوم الأمة أو تمثيل المجتمع بأكمله.
وقد ظل الجابري يدافع عن أطروحة الكتلة التاريخية منذ العام 1982، وعلى وجه التحديد منذ حوار معه في مجلة "المستقبل العربي" (بيروت: عدد: 45 نوفمبر 1982)؛ بل إنّه طرحها قبل ذلك كما يمكن أن يستخلص من الفصل الأخير في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" (1980) الذي مهّـد به لمشروعه الدسم والمعمد باسم "نقد العقل العربي" (في أربعة أجزاء) (وقد سلفت الإشارة إليه). وبعد ذلك، عاد لتناولها في عدد من المقالات جمعها في كتابه الشهري "مواقف" (رقم 22، 2003). واللافت أن أطروحته، وفي سياق النقد البنَّاء، لم تسلم من بعض التعديل... أو بالأدق لم تسلم من بعض التخصيص بالنظر إلى طابعها العام.
وعلى هذا المستوى، يمكن أن نحيل إلى مفهوم "الكتلة التاريخية الديمقراطية" ــ أو مفهوم "الكتلة التاريخية على قاعدة الديمقراطية" ــ الذي يشير إلى مجال أضيق من مجال مصطلح الكتلة التاريخية لدى أنطونيو غرامشي ومحمد عابد الجابري (نفسه من قبل) وكذلك عالم الاجتماع العراقي خير الدين حسيب، وعلى نحو ما تمّت مناقشة المصطلح في الكتاب الجماعي "نحو كتلة تاريخية ديمقراطية في البلدان العربية" (2011) المكرَّس لليمن والسودان وتونس والبلاد العربية بصفة عامة؛ وذلك كلّه بالانطلاق من الفرضية التي تقول: "إن الطريق السلمي، والمجرّب تاريخياً، لإحداث الانتقال الديمقراطي لا تكون إلا عبر بناء كتلة تاريخية ديمقراطية". فإدارة الصراع السياسي، في أفق العمل المشترك الذي لا يخلط ما بين الحدود والوقائع والمصالح، وما بين النصوص والأفراد والفترات، وبالنسبة إلى معظم التيارات السياسية الرئيسة من قومية وإسلامية ويسارية وليبرالية، لا ينبني إلا على أساس من "الكتلة الديمقراطية".
وهذا في الوقت الذي تمّ فيه انتقاد الأطروحة في صيغتها العامة، ومن خلال الأساس الذي تقوم عليه التيارات، وهو أساس الإيديولوجيا أو "أرض الإيديولوجيا". وكما ناقش الكاتب السوري مصطفى جاسم الدروبي، في مقال تحت عنوان "الكتلة التاريخية"... مصطلح غائم"[15]، فإن الجابري وحين يطالب التيارات بأن "تتآخى هكذا بدون ملامح أيديولوجية أو على الأقل تأجيل الصراع الإيديولوجي إلى حين"... فكأنه "يُطالب العناصر التي تتكون منها الكتلة التاريخية بأن تضع إيديولوجياتها على الرف إلى حين" وكأن "هذه الكتلة التاريخية ليست أيديولوجية أو أيديولوجيا الحد الأدنى".
وعلى الرغم من هذا النقد، وعلى نحو ما مارسه الجابري نفسه حين كتب "الكتلة التاريخية ليست حلّا أبدا... بل مرحلة مؤقتة فقط"، فقد تمّ اعتماد الأطروحة، على نطاق واسع، في سياق التفكير في "البدائل" التي تفرضها تحدّيات الحراك الثوري العربي. وفي هذا الإطار قرأنا، وفي الفضاء الثقافي العربي ككل، عن "الربيع العربي ودرس المفكر محمد عابد الجابري الكتلة التاريخية لمواجهة مخاطر الداخل والخارج" و"الكتلة التاريخية والربيع العربي" و"الكتلة التاريخية والحراك الشعبي العربي" و"الكتلة التاريخية وسؤال المرحلة" و"أهمية الكتلة التاريخية لنجاح الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية" و"من دكتاتورية البروليتارية إلى دكتاتورية الكتلة التاريخية" و"الكتلة التاريخية كمدخل رئيس لتحقيق الوحدة الوطنية والقومية"... إلخ. وقرأنا عن المخرج من الانهيار التاريخي والحرب الأهلية والتصلّب الهوياتي والقبضة الطائفية... الذي لا يتحقّق إلا بالكتلة التاريخية. كما قرأنا، في سياق بلدان الحراك، عن "الكتلة التاريخية في تونس مشروع ممكن التحقُقّ أم أحلام يقظة؟" و"هل تحقق حلم الجابري في تدشين "الكتلة التاريخية" على أرض تونس؟" و"الكتلة التاريخية الأردنية: هل من فرصة؟" و"نحو كتلة تاريخية لإخراج سوريا من أزمتها"... إلخ.
فمن المفيد أن نتعامل مع محمد عابد الجابري من خارج مركزية التراث أو من خارج الوصل ما بين "التراث والحداثة" (تبعا لأحد عناوين كتبه) وفي دلالة ــ هنا ــ وبتعبيره ــ على نوع من "الفهم الحداثي للتراث" الذي يصدر عنه في تحليل العقل العربي في بنياته ونظمه المعرفية ومستوياته السياسية والأخلاقية. والمؤكد أن يفضي به خروجه للتعاطي مع حال العرب المأزوم، من خلال غرامشي، إلى نقاش متشابك ومتداخل؛ بل أن يجعله عرضة لنقد قد نتفق أو نختلف معه، وهو ما لخصه الباحث والمفكر عبد السلام بنعبد العالي، في مقال خصَّصه للجابري نفسه بعنوان "الحنين إلى المثقف الهادي"، قائلا: "لقد كشف تطوّر الأحداث بعد الرّبيع إذاً، أنّ الفكر العربي لم يتمكن لا من تملك تراثه ولا من تملك الحداثة نفسها. هاهنا ربما كانت هناك ضرورة لعودة الجابري، ربما ليس كمثقف هاد، وإنما كطرف أساسي في نقاش لا يزال ضروريا ومفتوحا"[16].
وثمة من رأى في تعاطي الجابري لموضوع الكتلة التاريخيّة "تناولًا بعيدًا عن كتاباته المنهجيّة المعروفة"، بل رأى صاحب النقد نفسه "تبلبلا في الاستنتاج". وثمة النقد الصادر عن الموقف التقليدي لليسار العربي من الظاهرة الدينية، ما يجعل الصادرين عن الموقف لا يستسيغون إدراج الجابري للتيار الديني ضمن الكتلة التاريخية[17]. وهذا مع أن غرامشي "حاضر في العالم العربي بفضل القضايا التي تطرح، ولا بد من تقييم إنجازاته قياسا بهذه القضايا"، بل "سيكون من العبث النظر إلى غرامشي خارج حالة الطوارئ التي استدعته" في هذا العالم كما يقول السوسيولوجي التونسي الطاهر لبيب (وهو أحد أهم من بحثوا في حضور غرامشي في الفكر العربي وفي خطاب المثقفين العرب)[18]. إجمالا لا يمكن أن "ندرس غرامشي من خلال غرامشي"، ولا يمكن استعادته بطريقة مطابقة. إضافة إلى ما يطبع كتاباته من "تناثر" كما أسماه الناقد فيصل دراج[19]؛ ما يسهم في مضاعفة تأويله.
وصفوة القول ليس غريبا أن يتم اعتماد غرامشي، في العالم العربي ككل، بالنظر لما أخذ يمنحه للعرب، بعد أن جعلوا منه "قائدا شيوعيا" منذ السبعينيات من القرن المنصرم، من راحة غير معهودة في الماركسية من أجل تفسير الخيبة المعمّمة عربيا... كما يقول السوسيولوجي التونسي الطاهر لبيب[20]؛ وعلى وجه التحديد "الماركسية الإنسية" التي صنّف عبد الله العروي غرامشي ضمنها في سياق "الماركسية ومثقف العالم الثالث" ومن منظور "حقيقة تعدّد المراكز الماركسية في العالم" كما درسها العروي نفسه في كتابه التحليلي والصارم "العرب والفكر التاريخي" (1974). واللافت تركيز العروي ــ وقتذاك ــ على ما سمّاه "كتابات غرامشي" التي تقدّم "أحسن وسيلة لوصف وتقييم ماركسية العالم الثالث، الصريحة أو الخفية"[21]، لكن شريطة ما يستلزمه التعاطي مع مفاهيم غرامشي (المحورية) من تحوّط واحتراز[22].
وكان من المفهوم أن يتلوّن حضور غرامشي بالسياق الإيديولوجي اللاهب للسبعينيات، ما جعله يأخذ صفة "الرفيق" و"المناضل" في المشرق، وليجعل منه المغرب في الثمانينيات مفكرا[23]. والمؤكد أن الجابري رسّخ صورة هذا المفكر. وليس غريبا أن يتواصل حضور غرامشي حتى الآن، وأن يتلوّن بمجمل المتغيرات التي تلت الفترتين السابقتين، وبخاصة في ظل الانفجار الثقافي والهوياتي الذي تزايدت وتائره ببلدان العالم العربي في إطار من "التمدين المنفلت" أو "التجريف المعماري" الذي أسهم ــ بدوره ــ في تفجير الوضع العربي الحالي. والظاهر أن الحراك العربي كان بـ"هوية اجتماعية"، لكنه كان بغطاء ثقافي أيضا، ولا يكشف عن نفسه بطريقة آلية. لقد تمّت، هنا، القطيعة مع ثقافة الخوف ومسلمات العقل السياسي كما رسّخها الطغاة؛ غير أن تدبير العيش المشترك، وبين نماذج العيش المتعارضة ذاتها، وفي سياق مرحلة ما بعد الحراك، راح يستلزم ثقافة مضادة لثقافة البلقنة والتمزيق والتدمير... إلخ.
الظاهر أن الحراك العربي كان بـ"هوية اجتماعية"، لكنه كان بغطاء ثقافي أيضا، ولا يكشف عن نفسه بطريقة آلية
ومن ثمّ الكتلة التاريخية كـضرورة تاريخية وليس كـتكتيك سياسي، ومن منظور يراعي مستواها الثقافي مثلما يقرّ بموقع المثقف العضوي داخلها، ومع ذلك في حدود معينة... بالنظر لاختلاف البلدان العربية وبخاصة من ناحية مفهوم الهوية ومدى تدخّل الدولة على مستوى الترسيم الهوياتي الديني أو العرقي أو الطائفي أو المناطقي... في المجتمع الواحد والمتعارض في الآن نفسه. وهذا ما لم تعلن الدولة عن إفلاسها أمام ماكينات الاحتراب والتدابر والتحشيد والمحو... وغير ذلك من الأشباح التي تتهدّد "البقية الباقية" في المجتمع.