علاء الدين السي
الكثير منا – إن لم يكن جميعنا – سمع عن الطوائف المسيحية الثلاث الكبرى؛ الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وربما نعرف أن هناك بابا للكاثوليك في الفاتيكان، وآخر للأرثوذكس في الإسكندرية، وهما الأكثر شهرة في مجتمعاتنا العربية، لكن هل سألت نفسك يومًا عن الفوارق الأساسية بين هذه الطوائف، ما طبيعة الاختلافات؟ هل هي مشابهة للفوارق بين السنة والشيعة مثلًا في الإسلام؟ أم هناك فوارق أخرى؟
بداية الانفصال:
حتى عام 451 ميلادية، كانت المسيحية متمايزة إلى كنيستين شرقية وغربية، تختلف نظرة كل منهما تجاه بعض المسائل العقدية المتعلقة بالمسيح والثالوث وغيرها، لكن في عام 451م وقع حدث كبير تسبب في انفصال واستقلال كل كنيسة عن الأخرى وإلى الأبد، إنه انعقاد مجمع خلقدونية المسكوني.
المجمع المسكوني بشكل عام عبارة عن مؤتمر من الشخصيات الكنسية والخبراء اللاهوتيين، الذي يعقد لمناقشة وتسوية الأمور الخاصة بعقيدة وممارسة الكنيسة، وتقوم هذه الشخصيات التي يجري إحضارها من جميع أنحاء العالم بالتصويت، وهو ما يعني موافقة كامل الكنائس المسيحية على ما تم إقراره، وجرى عقد المجالس المسكونية السبعة الأولى، المعترف بها من قبل كل من الفروع الشرقية والغربية للمسيحية الخلقدونية، بدعوات من أباطرة الإمبراطورية الرومانية المسيحية، الذين فرضوا أيضًا بعض القرارات داخل تلك المجالس عبر كنيسة الدولة للإمبراطورية الرومانية.
مجمع خلقدونية هو مجلس الكنيسة الذي عقد في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) إلى الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 451م، في خلقدون، وهي مدينة إغريقية قديمة في آسيا الوسطى على مضيق البوسفور، وهي منطقة كاديكوي في مدينة إسطنبول حاليًا. هذا المجمع هو المجلس الرابع المسكوني من قبل الكنيسة الكاثوليكية، والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، ومعظم البروتستانت، وكان أهم إنجاز له هو إصدار «التعريف الخلقدوني».
هذا التعريف يقول إن المسيح «معترف به في طبيعتين تأتيان معًا في شخص واحد وأقنوم واحد»، وكانت أحكام هذا المجلس وتعريفاته بشأن الإلهية نقطة تحول هامة في المناقشات المسيحية العلمية. هناك أقلية من المسيحيين لا يتفقون مع تعاليم هذا المجلس. إن التعريف الرسمي لـ«طبيعتين» في المسيح كان مفهومًا من قبل منتقدي المجلس في ذلك الوقت، ويفهمه العديد من المؤرخين واللاهوتيين اليوم، إلى جانب المسيحيين الغربيين والأنطاكيين وغيرهم ممن لا يعتقد في هذه الطبيعتين الذين يؤمنون أن المسيح واحد
نتيجة لهذه التعريفات، حدث الانشقاق الكبير بين الكنيستين الشرقية والغربية، وتجمعت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية، وعرفت بالكنائس الأرثوذكسية، فيما توحدت كنائس الغرب تحت قيادة الكنيسة الرومانية (الفاتيكان حاليًا) وسميت بالكنائس الكاثوليكية. وفي القرن الـ11 انفصلت أيضًا كنائس كل من القسطنطينية والكنيسة اليونانية والكنائس اللاتينية وأصبحت هي أيضًا ضمن الكنائس الأرثوذكسية.
اللاهوت والناسوت:
لتوضيح ما حدث في مجمع خلقدون وطبيعة الخلاف الذي نشب، علينا معرفة مصطلحين هامين:
اللاهوت: وهو كل ما يتعلق ويخص الذات الإلهية، أي كل ما يرتبط بالإله، والناسوت: وهي تعني كل ما يخص الإنسان، وفكرة إيمان المسيحيين بلاهوت المسيح وناسوته تعني أن المسيح هو إله كامل وإنسان كامل، وأن لاهوته لا يفارق ناسوته لحظة واحدة.
الكنائس الشرقية رفضت اصطلاح «طبيعتين» وهو المصطلح الذي كان يوازي عندهم لفظ «شخصين»، وفضلت هذه الكنائس وصف المسيح بعبارة أخرى هي «طبيعة واحدة»، مثلما قال البابا كيرلس «طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد»، بمعنى آخر فإن الكنائس الغربية أقرت الطبيعتين اللاهوتية والناسوتية وأنهما اتحدتا لاحقًا، بينما الكنائس الشرقية تقولان إن هناك طبيعتين لم يفارقا من الأساس لحظة واحدة وأنهما متحدتان في طبيعة واحدة.
انفصال البروتستانتية
في القرن الـ16، وتحديدًا عام 1529، قام مارتن لوثر بثورة ضد الكنيسة الكاثوليكية، والتي أطلق عليها ثورة الإصلاح. مارتن لوثر هو راهب ألماني وأستاذ للاهوت، ويعتبر مطلق عصر الإصلاح في أوروبا، وذلك في أعقاب اعتراضه على ما يعرف بـ«صكوك الغفران».
نشر لوثر رسالته الشهيرة المكونة من 95 نقطة، والتي تتعلق بما يسمى لاهوت التحرير (وهو فرع من فروع اللاهوت المسيحي الذي يناقش غفران الخطايا ونيل الخلاص، والمقصود بالتحرير هنا هو التبرئة من الخطيئة)، وسلطة البابا المتعلقة بالتحرير من الخطايا على مر الزمن.
أبرز أسس فكر لوثر هي المتعلقة بأن الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو «هدية مجانية ونعمة الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصًا»، وبالتالي ليس من شروط نيل الغفران القيام بأي عمل تكفيري أو صالح، والأمر الثاني المهم كان المتعلق برفض «السلطة التعليمية» في الكنيسة الكاثوليكية والتي تجعل البابا هو صاحب القول النهائي الفاصل فيما يتعلق بتفسير الكتاب المقدس، إذ اعتبر لوثر أن لكل مسيحي الحق في تفسيره .
عارض لوثر سلطة الكهنوت الخاص باعتبار أن جميع المسيحيين يتمتعون بدرجة الكهنوت المقدسة، كما سمح لوثر للقسيسين بالزواج.
أطلق على أتباع لوثر اسم «المحتجين – Protest»، ومنها جاءت كلمة بروتستانت، بينما الأرثوذكسية هي كلمة يونانية تعني «الرأي الحق المستقيم»، وهي التسمية التي بدأت في القرن الـ14، والكاثوليكية هي كلمة يونانية تعني «عالميًا أو جامعة» وذلك لأنها جمعت كل الكنائس الغربية وظهرت التسمية في القرن الـ11.
التكوين والسلطة:
الكنيسة الأرثوذكسية لا تعترف إلا بشرعية المجامع المسكونية الثلاثة الأولى (نيقية وقسطنطينية وأفسس)، وتتشكل الأرثوذكسية الشرقية من مجموعة من الكنائس المستقلة وهي دائمة التنسيق فيما بينها. تتكون هذه الكنيسة من الكنائس القبطية والإثيوبية والأرمنية والسريانية والإريترية. تعتبر الكنيسة الإثيوبية أكبر الكنائس الأرثوذكسية المشرقية، وتأتي في المرتبة الثانية لأكبر الكنائس المسيحية الشرقية، في حين تعتبر الكنيسة الروسية الأرثوذكسية أكبر الكنائس المسيحية الشرقية.
تأتي في مقدمة تلك الكنائس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والتي لعب رجالها الدور الأبرز في تحديد الخطوط العريضة لعقيدة هذه الكنائس، وتعد كنيسة الأقباط الأرثوذكس ومقرها مصر، أهم الكنائس القبطية ويتبع لها كل من الكنيسة البريطانية الأرثوذكسية والكنيسة الفرنسية الأرثوذكسية، ولكل كنيسة من هذه الكنائس رئاستها الخاصة بها، والتي تتمثل في البطريرك أو رئيس الأساقفة إلى جانب الأساقفة.
الكنيسة الكاثوليكية أو الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هي أكبر الكنائس المسيحية والتي يرأسها البابا أسقف روما، وبحسب تقليدها الكنسي فهو يمثل خليفة بطرس تلميذ يسوع المسيح. لقبها الرسمي هو الكنيسة المقدسة الكاثوليكية الرسولية، وتتبعها في الشرق كنائس عديدة في شراكة كاملة معها تعرف بالكنائس الكاثوليكية الشرقية، وبالتالي فيمكننا القول إن الكنيسة الكاثوليكية تتكون من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الفاتيكان بالإضافة إلى 22 كنيسة أخرى متحدة معها هي الكنائس الكاثوليكية الشرقية.
على مر القرون طورت الكنيسة الكاثوليكية منظومة لاهوتية معقدة وثبتت بنية إدارية فريدة تحكمها البابوية، التي تعد أقدم ملكية مطلقة مستمرة في العالم، ورئيسها الحالي هو البابا فرنسيس.
الكنائس البروتستانتية تمثل مجموعة من الكنائس المستقلة ويوجد أكثر من هيئة تنسيق بين مجموعات مختلفة من هذه الكنائس، وبالنسبة لسلطة هذا النوع من الكنائس فهي عبارة عن وحدات مستقلة يشرف عليها قسيسون مختلفون حول العالم، وتعتبر الكنيسة الأنجليكانية في بعض الأحيان كنيسة مستقلة من البروتستانتية.
الإله والعذراء والقديسون:
تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية أن كلًّا من طبيعة المسيح اللاهوتية والناسوتية، متحدتان معًا في طبيعة واحدة، وأتباع هذه الكنيسة يؤمنون أن المسيح كامل في لاهوته، وكامل في ناسوته، وأن لاهوته لم يفارق ناسوته، ولا طرفة عين، لذلك لا يتكلمون مطلقًا عن طبيعتين بعد الاتحاد، مثلما تقول به الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية.
تؤمن الكنائس الثلاث بالثالوث الأقدس، والثالوث في اللاهوت المسيحي هو معتقد ديني يعني أن الله الواحد مكون من ثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات في نفس الجوهر المتساوي، والعلاقة بين الثالوث متكاملة، فقد أرسل الأب الابن إلى العالم، وحدث ذلك بواسطة الروح القدس، بحسب اللاهوت المسيحي، لكن في الوقت الذي يعتقد البروتستانت والكاثوليك بانبثاق الروح القدس من الأب والابن، إلا أن هذا مخالف لعقيدة الكنيسة الأرثوذكسية، التي تؤمن بانبثاق الروح القدس من الأب وحده.
في المسيحية، يقصد بالأسرار السبعة المقدسة مجموعات من الطقوس، والهدف والغاية من هذه الطقوس هو «الحصول على نعمة سرية (غير منظورة) بواسطة مادة منظورة»، وذلك يحدث بفعل روح الله القدوس الذي حل بمواهبه على تلاميذ ورسل المسيح، وبحسب ما أسسه المسيح نفسه وسلَّمه للرسل وهم بدورهم سلَّموه للكهنة، ذلك كله وفق الرواية المسيحية. المثال هنا هو سر المعمودية، إذ يستخدم الماء كمادة منظورة للمعمودية بهدف الحصول على نعمة غير منظورة هي «الميلاد الثاني»، وتشمل هذه الأسرار كلًّا من سر المعمودية وزيت الميرون والقربان المقدس وسر التوية وسر الزيجة وسر الكهنوت.
تتفق الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية في قبولهما بالأسرار السبعة، وذلك على عكس الكنائس البروتستانتية التي لا تؤمن بها، وإن وجد عندهم طقس مشابه فإنهم لا يطلقون عليه سرًا. على سبيل المثال يوجد الزواج عند البروتستانت، لكنه يمثل رابطًا بين شخصين وليس سرًا كنسيًا، كما توجد عندهم معمودية لكنهم يطلقون عليها فريضةً وليس سرًا.
الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بشفاعة مريم العذراء وهي بالنسبة لهم أم الإله، كما يؤمن أتباع الكنيسة بالقديسين وشفاعتهم، وتقوم بتعيين قديسين بشكل مستمر. الكنيسة الأرثوذكسية تتماثل مع الكاثوليكية في هذه الأسس، إلا أن منح القداسة عندهم صعب جدًا، ومن الناحية الأخرى، لا تؤمن الكنائس البروتستانتية بشفاعة مريم العذراء أو بشفاعة القديسين، بل إن بعض الطوائف تشكك في عقيدة البتولية الدائمة لمريم.